كثيرون يسمعون أن الصحافة هي مهنة المتاعب فلا يفهمون معناها. ربما يعتقدون أن هذه المهنة هي مهنة المخاطر بامتياز، وأن صاحبها قلق ومهموم ومعرض للسجن أو القتل في أي وقت. لكن هذه كلها أشياء لا علاقة لها بالحقيقة، لأن الصحافي الحقيقي يمكن أن يتوجه إلى ساحة حرب لتغطية أحداثها وهو يحس بكثير من السعادة، ويمكنه أن يدخل أماكنَ حياتُه فيها معرضة للخطر وهو يرى أن هذا هو عمله الحقيقي. إن الصحافي ليس منزها عن الخطر والموت والمطاردة، والخطر جزء من عمله، وعليه أن يقبل بهذا الواقع. أنا شخصيا أعتقد أن أخطر عمل يقوم به الصحافي ليس هو تغطية الحروب والنزاعات والكوارث، بل تغطية انتخابات مثل التي تجري في المغرب. ويجب على الصحافي أن يحمد الله إذا خرج عقله سالما من هذا العبث الذي نعيشه كل بضع سنوات. في الحروب، تكون حياة الصحافي هي المهدّدة، لكن في الانتخابات المغربية يكون مخ الصحافي هو المهدّد، وأنا شخصيا أرى أنه من الأفضل للإنسان أن يفقد حياته على أن يفقد عقله. الإنسان ما مطْفّروشا حتى وهو بعقلو.. عادْ إلى تسْطّى. أنا أعرف عدة زملاء يفعلون المستحيل لكي يغطوا انتخابات بلدان شهيرة، مثل إسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة، حتى يفخروا بذلك مستقبلا. إنهم حمقى، وأنا أقول لهم دائما: إلى كنتو رجال غطّيوْ الانتخابات المغربية لأنها الفخر الحقيقي إذا خرج منها الإنسان بعقله سالما، وخصوصا الانتخابات البلدية، لأنه يكون فيها بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن «يخرج» له عقله بالكامل، أو يبقى نصّ نصّ.. يعني مزْنزن غير شي شويّة. في الأيام الماضية، كانت الأخبار تشبه فيلما عبثيا. الحملة الانتخابية كانت مثل مسلسل كوميدي كبير معروض في الهواء الطلق. ولو سجلته كاميرات التلفزيون وعرضته في رمضان لضحك الناس حتى تقفز الحريرة من أنوفهم. بعد ذلك، جاء دور كبار المصوتين لكي يبيعوا أنفسهم في انتخابات عمادات المدن ورؤساء المقاطعات كما تبيع الحْوالا نفسها بنفسها في السوق. في الصباح، تكتب أن فلانا تحالف مع فلان. وبعد أن ترسل الخبر، تكتشف أن فلانا غضب وتشاجر مع فلان الذي تحالف معه قبل ساعات فقط. بعد ذلك، تسمع أن 10 مستشارين اشتراهم تاجر مخدرات وسلمهم إلى صديقه المرشح. وفي المساء، تكتشف أن منافسا له أعطى أكثر في هؤلاء الأكباش فوعدوه ب«البعبعة» له. بعدها، تسمع أن فلانا وقع شيكا ب500 مليون وأعطاه لفلان، ثم تسمع أن فلانا وقع شيكا بمليار سنتيم وأصبح هو المرشح الأوفر حظا. تسمع في الصباح أن مرشحا كبيرا أعطى 100 مليون للرّاسْ، وبعد بضع ساعات تسمع أن أحد منافسيه أعطى 150 مليون. وفي أحيان كثيرة، بين إرسال الخبر ونشره تتغير كثير من الأشياء، ويكون عليك أن تبدأ من البداية، وتتكرر نفس الحكاية فلا تفهم شيئا وتمسك برأسك حتى لا ينفجر. خلال هذه الانتخابات، تتغير الصداقات والعداوات بشكل مذهل. الأحداث تتسارع والتحالفات تصبح مثل سلسلة «طوم وجيري»، الكلب جاري على القط والقط تابعْ الفار والفار جاري على سرّاقْ الزيت وسراق الزيت عنْدو فرْدي. شي تابع شي وحتى واحد ما عارف آش كايْن. لكن الصحافي يفترض أن يعرف، وهو في كل ذلك يطلب من الله أن تنتهي هذه المهزلة الديمقراطية في أقرب وقت حتى يستغل مخه في أشياء أكثر فائدة. خلال هذه الانتخابات الحمقاء، تصبح «الديمقراطية المغربية» عارية لا تسترها حتى ورقة توت. ديمقراطية فاضحة ومفضوحة تنتظر فقط وضعها في كفن أسود ودفنها حية وتركها تختنق تحت التراب. هذا هو المصير الذي تستحقه. غرائب الانتخابات وكواليسها تحتاج إلى مجلدات وليس إلى مجرد سطور، إنها غرائب تدل على شيء واحد فقط، وهو أننا في طريقنا نحو الهاوية، وأننا نسير ب200 كلم في الساعة نحو الخندق.. وبدون فرامل.