[email protected] خلال هذا الأسبوع الذي نودع أكون ربما حطمت الرقم القياسي للمحاكمات في المغرب. فقد حضرت أربع محاكمات في أربعة ملفات بين الرباط وبني ملال في أسبوع واحد. هكذا أصبحت مثل ابن بطوطة، أتنقل من محكمة إلى أخرى وبين ملف وآخر. وقريبا سأكتب قصة على شاكلة «رحلة حول العالم في ثمانين يوما» أسميها «رحلة حول المحاكم في أسبوع». أنقل فيها تفاصيل صغيرة عن محاكم تفتقر بعض قاعاتها إلى أبسط شروط الاحترام الواجب لهيئة القضاة. يحلو للبعض أن يسمي الصحافة مهنة المتاعب. لكنني وطيلة هذه السنوات من مزاولتها اكتشفت أن الصحافة في المغرب هي مهنة المخاطر. فنحن نكتب كما لو أننا نسير يوميا وسط حقل لا نملك خريطة الألغام التي دسوها لنا تحت ترابه. الناس عادة يرون في الصحافي ذلك الحائط الأخير الذي يمكن أن يقصدوه للبكاء عليه. آخرون يرون فيه ذلك الحائط القصير الذي يسهل القفز فوقه. هاتفه مشاع بين الجميع، ووقته فيه دائما متسع لسماع شكوى من مظلوم أو احتجاج من غاضب. لذلك لا يتورع البعض عن الاتصال بالصحافي في أي وقت، فهو ملكية مشتركة موضوعة رهن إشارة الجميع، ظالمين ومظلومين، مشاهير ونكرات، فنانين حقيقيين ومزيفين، سياسيين ولصوصا، نساء شريفات وساقطات، وزراء محترمين ومسؤولين سيئي السمعة. الجميع يريد من الصحافي أن ينقل وجهة نظرهم في قضية ما إلى الرأي العام. الفنانون يبحثون عن الشهرة على ظهره، السياسيون يريدون أن يأكلوا الثوم بفمه، النقابيون يريدونه مجرد عود ثقاب. وعندما يشتهر بعض الفنانين وتبدأ أسماؤهم في اللمعان ينسون الأقلام التي صنعتهم وينعتون أصحابها بالمرتزقين. أما السياسيون فبمجرد ما تنتشر رائحة «الشياط» في الساحة حتى يقلبون معطفهم ويتهمون الصحافي باختلاق الأخبار والحكايات الكاذبة. والصحافة مهنة شريفة حقا، لكن دخلها للأسف بعض الصحافيين الذين لا شرف لهم ولا ضمير، وحولوها إلى سوق للمزاد العلني. والقراء ليسوا أغبياء، فهم يعرفون بمجرد قراءة الجملة الأولى في مقال كم دفع صاحبه، وبمجرد ما يلاحظون صورة بعضهم منشورة في الجريدة نفسها لأسابيع متتالية حتى يفهمون أن صاحب الصورة اشترى المساحة من الصحافي كما تشترى البقعة في المجمعات السكنية. لحسن الحظ ليس جميع الصحافيين على هذه الشاكلة، وإلا لأصبحت الصحافة تهمة والصحافيون مجرد قطاع طرق يستعملون الكلمات المسننة على صفحات الجرائد عوض السكاكين الحادة في المنعطفات... والغريب في أمر الصحافيين بالمغرب أنهم يكتبون عن كل الاحتجاجات والمحاكمات التي تعرفها القطاعات العمالية والحقوقية، لكنهم عاجزون عن الكتابة لدعم احتجاجات بعضهم البعض. وأنا شخصيا لا أعرف ماذا ينتظر الصحافيون لكي يشكلوا جبهة للدفاع عن حرية التعبير التي تتهددها المحاكمات المعدة سلفا. فحتى مستخدمو أصغر معمل في أصغر قرية يخوض عمالها وقفات احتجاجية عندما يطال الظلم زملاءهم في العمل، فهل سنكون نحن أقل جرأة من مستخدمي معامل تصبير السردين ؟ والحقيقة أنني لا أفهم سر تشتت هذا الجسم الصحافي المصاب بشتى الأمراض والعلل. حتى أصبح أسهل شيء في المغرب هو اقتياد الصحافي إلى المحاكم، بينما اللصوص والمجرمون وتجار المخدرات والسياسيون المخادعون الذين أكلوا أموال الناس بالباطل ليس هناك من يرسل إليهم حتى استدعاء تافها للاستماع إليهم. الصحافة في المجتمعات الديمقراطية هي السلطة الحقيقية، وعندنا يريدونها أن تبقى مجرد خادمة تعيسة والصحافيون مجرد رقاصين ينقلون أخبار الاجتماعات والإنجازات الحكومية الباهرة لعامة القراء. والكارثة هي عندما تجد بعض هؤلاء الصحافيين أنفسهم خائفين من الكتابة في المواضيع التي تهم المواطنين بشكل مباشر، وعندما تسألهم عن السبب يقولون لك : - ماقادرين على صداع أخويا ... لم يكن المغرب محتاجا في يوم من الأيام إلى صحافة حقيقية بقدر ما هو محتاج إليها الآن. وفي كل المجتمعات هناك صحافة مسخرة تقتات من موائد الدوائر المقربة من سلطة القرار، وهناك صحافة مبهدلة همها الوحيد هو أن تبيع حتى ولو بتعرية مؤخرتها فوق الأرصفة، وهناك صحافة جريئة ومستقلة تبحث لكي تعكس بأمانة انشغالات الناس وأحلامهم وانكساراتهم وطموحاتهم. وليس عيبا أن تجتمع كل هذه الأجناس الصحافية في كشك واحد، العيب هو أن نجد من يبذل قصارى جهده لكي يقضي على الصحافة الحقيقية لكي تبقى في الكشك السخافة الحقيقية وحدها. لديكم صحافيوكم الذين لا يخرج العيب من أقلامهم، ولديكم صحفكم الجميلة التي يرى مديروها الحياة جميلة. لديكم المتفائلون بالمستقبل، القادرون على تصوير جهنم على هيئة جنة فيحاء. لديكم المداحون وشعراء التكسب الذين يبيعون الغزل بثمن الذهب. لديكم المجاملون الذين يضعون بين كل كلمة وكلمة عبارة امتنان. لديكم المنافقون الذين يلوون عنق الحقيقة كل يوم دون أن يرف لهم ضمير. فاتركونا نحن الصحافيون المتشائمون القلائل نرسم الأوضاع كما تمليها علينا سوداويتنا، التي ويا للمصادفة العجيبة، نستمدها من محبرة الواقع الأكثر سوادا. اتركوا لنا نظاراتنا بالألوان الطبيعية التي ترى الأشياء كما هي، بدون ألوان فوق بنفسجية. لماذا تريدون أن يكون الجميع متشابها، فالله لم يخلق الرؤوس متفرقة إلا لكي يفعل كل رأس ما يراه مناسبا له. أم أنكم تريدون أن نغني جميعنا نفس الأغنية وأن نحلق جميعا داخل نفس السرب. لقد جربتم هذا الكورال طيلة أربعين سنة، ولم يستفد المغرب شيئا من هذه الأغنية السخيفة والمملة التي تريدون فرضها على الجميع. جربوا أن تستمعوا إلى عزف آخر منفرد. سيزعج آذانكم لبعض الوقت، لكن ستتعودون عليه وستفهمون أن هذه هي أغنية المستقبل، وأن لحنها الحزين ليس سوى توطئة لما تبقى من أغنية جميلة تنشد الحياة الكريمة لهذا الشعب الكريم.