ظلت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية دوما عرضة للانتقاد وموضوع اشتغال هيئات الدفاع، التي تنتصب في القضايا التي تنجزها هذه الفرقة، بسبب جسامة الملفات التي تشتغل عليها، البعض يشبهها بالشرطة الفيدرالية الأمريكية FBI بسبب تقاطعها معها في طبيعة المهام التي تشتغل عليها، والبعض يعتبرها مجرد جهاز يقوم بتبييض الانتهاكات التي يتعرض لها الموقوفون في معتقل تمارة. فما حقيقة ذلك؟ «سواء كانت تتكفل بالقضايا الهامة أو بالقضايا الأقل أهمية، فإن الفرقة الوطنية للشرطة القضائية في الأصل، تنجز أبحاثها في القضايا المعروضة عليها، شأنها في ذلك شأن أي مصلحة عادية للشرطة القضائية، أي حسب منطوق الفصل 18 من قانون المسطرة الجنائية في ما يتعلق بمعاينة الجرائم، وجمع الأدلة المتعلقة بها، والبحث عن مرتكبيها وتقديمهم للعدالة»، يؤكد مصدر أمني . لكن إذا كانت هذه الفرقة موكولا لها القيام بهذه المهام، فلماذا تبقى عرضة للهجوم من قبل الحقوقيين وهيئات الدفاع؟. حين يتم ذكرها ترتعد فرائص الأشخاص الذين تشتغل على ملفاتهم، الجواب عن طبيعة هذا السؤال يجيب عنه الحقوقي والمحامي بهيئة الرباط محمد الصبار إذ أن سبب ذلك يعود إلى كون هذه الفرقة تعتبر جزءا من الشرطة القضائية وأن عددا من القضايا وفي الغالب الأعم التي تشتغل عليها يكون المشتبه بهم وموضوع البحث معهم قد مروا من معتقل تمارة بمعنى أن جهازا آخر هو الذي تولى البحث مع الموقوفين وهو الذي قدم الأدلة التي تدينهم أي أن الفرقة في هذه الحالة تكون محتضنة لما قام به الجهاز السالف الذي هو مديرية مراقبة التراب الوطني المعروف اختصارا ب«لاديستي». ثاني ملاحظة يسلط عليها رئيس المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف الضوء في تصريح ل«المساء» أنه بالنسبة إلى القضايا التي تشن عبر الحملات الكبرى على المخدرات والتهريب وقضايا الارتشاء والهجرة السرية، فإن الأبحاث التي تنجز في تلك القضايا تنجز غالبا من قبل الدرك الملكي، وخلال عرض المشتبه بهم على المحكمة يثير الدفاع جملة من الدفوع الشكلية المرتبطة بممارسة التعذيب على الموقوفين، كما أن المتهمين يدعون أنهم وقعوا المحاضر تحت الضغط والإكراه أو أنهم وقعوا محاضر دون الاطلاع على مضامينها. كما أن عددا من الملفات التي تعرض في هذا الإطار تسجل هيئة الدفاع أن المصلحة المذكورة لم تقم باحترام المساطر القانونية المعمول بها، بمعنى أن الفرقة الوطنية في هذا الإطار تتحول إلى جهة يقتصر دورها على تبييض الانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون على يد فرقة أمنية أخرى. النفوذ الترابي ردا على هذه الملاحظات يعلق مصدر أمني مقرب من الفرقة أن العاملين بالفرقة الوطنية للشرطة القضائية، مطالبون بتنفيذ مهامهم على سائر الأقاليم الخاضعة لسلطة الدولة المغربية. وهي إمكانية تتيح لها فرصة توحيد الرؤية للمشاكل المعروضة عليها، وكذا توحيد قرار معالجتها رغم أنها قضايا قد تكون مبدئيا مرتبطة بمراكز متعددة. فمن المؤكد أن القضية الواحدة التي ينجز أبحاثها ضباط كثيرو العدد وموزعون على مراكز مختلفة من التراب الوطني، هي قضية ستعرف لا محالة تشتتا في نسقها المنطقي، وتذبذبا في طرق إيصال المعلومة المتعلقة بها بواسطة المراسلات الإدارية. مشيرا في السياق ذاته إلى أن قضاة التحقيق والنيابة العامة أدركوا منذ وقت ليس باليسير هذه الجوانب الإيجابية من عمل الفرقة الوطنية، وهو الشيء الذي جعلهم لا يتوانون في انتدابها كلما تشعبت القضايا وتجاوزت رقعة حدوثها عدة مراكز حضرية عبر المملكة، إذ يلاحظ ذلك بالخصوص في الانتدابات القضائية الدولية، وانتدابها من طرف وزارة العدل في مجال الإجرام الاقتصادي والمالي رغم إلغاء محكمة العدل الخاصة والذي لم يخفف من وتيرة التكليف المباشر لها. تسمية إدارية أم قانونية بالنسبة إلى عبد اللطيف الحاتمي، محامي بهيئة الدارالبيضاء، فإن قانون المسطرة الجنائية لم يتحدث صراحة عن هذه الفرقة وتبقى التسمية التي تحملها تسمية إدارية وليست قانونية، ذلك أن قانون المسطرة الجنائية في معرض تسميته لضباط الشرطة القضائية، التي تخول لصاحب السلطة أن يحرر محضرا بارتكاب مخالفة، فإن هذه الصفة يخولها القانون لأحد رجال السلطة من أجل التأكد من وقوع الجرائم، فإن الضباط المعنيين يجب أن تصدر أسماؤهم في الجريدة الرسمية كما جرت العادة من قبل الإدارة العامة للأمن الوطني ومديرية المياه والغابات والجمارك التي تنشر سنويا أسماء ضباطها بالجريدة الرسمية حيث يخول لهم القانون الصفة الضبطية نظرا لهذه الاعتبارات وليس باعتبار انتمائهم للفرقة. ويشير الحاتمي إلى أن المحاضر الضبطية التي ينجزها الضباط المشار إليهم لا تكون سليمة من الناحية القانونية ما لم يحررها ضباط شرطة ممن صدرت أسماؤهم في الجريدة الرسمية. أما المؤاخذات التي تسجل على عمل الفرقة، حسب ما عدده الحاتمي في تصريح ل«المساء»، فهي كثيرة مرتبطة بالسبب الجوهري عندما حررتها الإدارة التي تنتمي إليها من الاختصاص الترابي كما أن هذه الفرقة ليس لها مقر محدد من أجل التثبت مما إذا كان بها موقوفون، كما يتعذر على النيابة العامة والحالة هذه التأكد من أسماء الأشخاص الموقوفين وتواريخ الوضع تحت الحراسة النظرية، إذ باختصار، فإن عمل هذه الفرقة يبقى غير مراقب من طرف النيابة العامة وقد سبق لوزير العدل الأسبق أن وصف عملها بغير المراقب. كما أن العيب الثالث الذي يسجل على هذه الفرقة مرتبط بتمديد مدد الحراسة النظرية، إذ ليس هناك محضر يثبت تمديد مدد الحراسة النظرية للموقوفين. ومقابل هذه المآخذ يسجل الحاتمي جملة من الإيجابيات على عمل هذه الفرقة أبرزها عامل الحياد فعامل عدم تقيدهم بالبحث في منطقة معينة يحرر عمل الفرقة وعناصرها من التأثيرات والمؤثرات كما أن عملها لا يكون مشوبا بالمحاباة بعكس عمل الشرطة القضائية العادية التي قد يخضع عملها للتأثيرات الخارجية. كما أن هذه الفرقة هي شبيهة بالشرطة الفيدرالية الأمريكية FBI مع تسجيل فوراق كثيرة. ومع ذلك فإن الملاحظ أن عناصر هذه الفرقة على مستوى تكوين عال وتقاريرها تأتي محررة بطريقة عالية وجيدة، وعملها يكون مضبوطا وتتوفر على وسائل اشتغال متطورة. ولكن بالرغم من ذلك، فإنها لم تتخلص بعد من الوسائل التقليدية في العمل المتعلقة بتسخير المخبرين والاعتماد على التعذيب. مهام الفرقة الوطنية حسب الفصل 22 من قانون المسطرة الجنائية، فإن الفرقة الوطنية للشرطة القضائية لا يتم تكليفها بالبحث إلا من قبل السلطتين القضائية والعمومية دون غيرهما، وذلك في القضايا العاجلة التي تكتسي أهمية معينة. فهي لا تباشر الأبحاث بصفة تلقائية، كما أنها لا تتوصل بالشكايات أو الوشايات، وهذه الأمور غير منصوص عليها في قانون داخلي مكتوب، ولكن بمقتضى عرف إداري ثابت. ناهيك عن صفتها الأساسية كجهاز مركزي منبثق بشكل مباشر عن مديرية الشرطة القضائية. وهذه الوصاية الرئاسية قد تقررت رسمياً من خلال الهيكلة الأخيرة لمصالح الأمن الوطني بهدف جعل الفرقة الوطنية للشرطة القضائية تنخرط في مهمة مزدوجة الأولى تولي الاختصاصات المنصوص عليها في الفصل 18 من قانون المسطرة الجنائية المتعلقة بمعاينة الجرائم، وجمع الأدلة، وتعقب الفاعلين، والثانية تولي اختصاصات إدارية تهم جمع وتحليل المعلومات الجنائية، وذلك بواسطة أبحاث إدارية دون تبعات قضائية إذا ما اقتضى الأمر ذلك. دواعي إحداث الفرقة يفصل مصدر أمني في دواعي إحداث هذه الفرقة في تعداد جملة من الاعتبارات متعلقة بمعيار خطورة الجرائم المسجلة وتعاظم أنشطة مافيا التهريب والهجرة السرية. ناهيك عن أن القضايا التي أنجزتها الفرقة الوطنية مؤخرا في إطار محاربة الإرهاب أبانت على أن الجماعات المتطرفة تنتظم في خلايا جد متحركة عبر التراب الوطني بأكمله، وترتبط في ما بينها بخيوط دقيقة. وبعضها له خاصية غاية في الاحتراز عبر تتوسطها مراكز حضرية تفضل ألا تنشط فيها كي لا تثير انتباه السلطات الأمنية، بينما تعمل على تركيز تحركاتها في مدن أخرى نائية... وهذا ليس أمراً اعتباطياً أو عفويا، بل إن عناصرها قد تلقوا تداريب خاصة في مراوغة المراقبة الأمنية، وهو ما يسمى بدروس «الأمنيات»، دروس تدرب الفرد على كيفية الاستفادة من اختلالات عمل المصالح الأمنية ذات النفوذ الترابي المنحصر في منطقة من المناطق. وبالتالي يتأصل وجود الفرقة الوطنية للشرطة القضائية من أجل الحد من وجود احتمال الخلل الأمني الناتج عن انحصار النفوذ الإقليمي. فالحاجة إلى مصالح وطنية مركزية لمحاربة الجريمة، يضيف المصدر ذاته، ليست خاصية يمتاز بها المغرب عن الدول الأخرى. ففي البلدان الأنجلوساكسونية، هناك مكتب التحقيقات الفدرالي FBI الذي يتوفر على اختصاص وطني كلما انسحبت الجريمة على ولايتين فيدراليتين. وأما بالنسبة للنموذج الفرنسي، فإن المكاتب المركزية تختص بالبحث في الجرائم على مجموع التراب الفرنسي بما فيه أقاليم ما وراء البحار. وفي فرنسا على سبيل المثال، فإن مراسيم إنشاء المكاتب المركزية للشرطة القضائية دأبت على استعمال نفس العبارة لتحديد الاعتبارات التي تملي إنشاء هذه المكاتب وهي عبارة “القضايا التي تكتسي طابعا خاصا من الأهمية”. عبارة فضفاضة استعملت عن قصد من أجل ترك هامش من المرونة حتى تتمكن القيادة من اتخاذ ما تراه لازما حسب ظروف الزمان والمكان. وعلى صعيد آخر، فإن الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، كباقي مكونات الشرطة القضائية الأخرى، تتأقلم مع محيطها المتغير باستمرار. وقد طغت على انشغالاتها في الآونة الأخيرة ظاهرة تفاقم الإرهاب، وتجارة المخدرات، والجرائم المالية والاقتصادية وغيرها. ولعل مرونة التنظيم الإداري التي تتمتع بها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية تمكنها من النجاح في مهامها بسهولة أكثر من غيرها. هل الفرقة ضحية لنجاحها؟ ردا على الاتهامات التي توجه للفرقة يعتبر مصدرنا أن الفرقة الوطنية للشرطة القضائية «ضحية» لنجاحها، إذ أنها كثيرا ما أصبحت توكل إليها قضايا غاية في التعقيد كتلك المتصلة بالجرائم الاقتصادية والمالية. وبالتالي فقد بدأت تعرف هذه الفرقة نوعا من التراكم والضغط الكبيرين، خاصة في هذا النوع من القضايا التي تتطلب تقنية عالية وتخصصا دقيقا. غير أن الباحثين التابعين للفرقة الوطنية للشرطة القضائية عرفوا كيف يكونون لأنفسهم تراكما معرفيا وتقنيا قل نظيره بالنسبة لمصالح الشرطة القضائية الأخرى. أما من ناحية الموارد البشرية للفرقة الوطنية للشرطة القضائية، يضيف المصدر ذاته، فهي مكونة من أجود عناصر الباحثين الجنائيين، رؤساء ومرؤوسين، والذين يجمعون بين الأخلاق العالية والنجاعة المهنية، ويعملون بروح من التفاني في العمل قل نظيره. بل إن أهم قيمة ذاتية تطبعهم هي تحليهم بالتكتم واحترام السر المهني، وهي مميزات كان لا بد أن تتوفر فيهم نظرا لحساسية الملفات التي يشرفون عليها طيلة ساعات اليوم، وفي مناطق نائية تتطلب تنقلات مرهقة وتوقيت عمل صعب. لهذا، تصرف لهم منح شهرية خاصة بهم، الغرض منها تحفيزهم أو على الأقل تخفيف العبء عنهم. هيكلة الفرقة الوطنية للشرطة القضائية يعتبر رئيس الفرقة الوطنية للشرطة القضائية موظفا أمنيا تابعا بصفة مباشرة لمدير الشرطة القضائية الذي يرفع إليه تقاريره. ويتوفر على كتابة خاصة، كما يقوم بالسهر على أربعة مكاتب وهي مكتب محاربة الإرهاب وجرائم العصابات الكبرى، ومكتب محاربة المخدرات، ومكتب محاربة الهجرة غير الشرعية، ومكتب محاربة الجريمة الاقتصادية والمالية. وتتوفر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية على صفة قسم مركزي، لكنها تنشط مباشرة على أرضية الميدان. ولا تتوفر على أي سلطة مباشرة تجاه المصالح الخارجية التي تبقى تحت إشراف وتسيير مدير الشرطة القضائية وولاة الأمن ورؤساء المصالح الإقليمية. غير أن هذه المصالح مجتمعة ملزمة بأن تمدها بنسخ عن طريق برقيات قصد الإخبار، حتى تحتفظ الفرقة بنظرة شاملة عن تطور واتجاهات الجريمة. وتعليقا على ما سلف يوضح مصدر أمني مقرب من الفرقة أن كل ضباط الشرطة القضائية في العالم يحلمون بالتفرغ لقضية واحدة يخصصون لها كل اهتمامهم بغرض إنجاز مسطرة غاية في الإتقان، بدل التخبط في سيل من القضايا المتقاطرة على مكتبهم. فتحت ضغط مدد الحراسة النظرية، يجد ضابط الشرطة القضائية نفسه مرغماً على إعطاء الأولوية لقضايا حالات التلبس، خصوصاً تلك التي يكون فيها الفاعلون موقوفين.وتحت ضغط الواقع، يكون الضابط مرغماً على إهمال قضايا غير عاجلة من صنف الأبحاث التمهيدية. على هذا المستوى، فإن الباحثين بالفرقة الوطنية للشرطة القضائية لا يساورهم القلق ما داموا يتوفرون على الوقت الكافي لإتقان عملهم. صحيح أن هناك أوقاتا تتخللها فترات من الضغط الشديد حيث يستمر العمل 24 ساعة على 24، لكن في الغالب الأعم، تتواتر فترات أقل حدة حيث يتم تصريف قضايا ذات أهمية متوسطة. لكن وفي كلتا الحالتين، فإن الأمر يتطلب كل العناية المركزة، ذلك أن ضباط الفرقة الوطنية ملزمون بالنتيجة الإيجابية، حيث لا مجال للخطأ أو انعدام الثقة، فالسلطة القضائية أو الإدارية تثق بهم وبعملهم، وتنتدبهم بالتحديد لكي ينجزوا هذه الأبحاث بالجودة والسرعة الكبيرتين.