لا يمكن التأصيل لكتابة التاريخ الثقافي لزماننا الراهن إلا من خلال تجميع سير الرواد ومنعرجات عطاءاتهم في شتى حقول المعرفة والإبداع. ولا يمكن تقييم حصيلة المنجز المدون إلا من خلال الانفتاح على سياقات الصدور والنشر التي انتظمت/ وتنتظم في إطارها التجارب والمبادرات. ولا يمكن اقتحام عتبات هذه السياقات إلا من خلال الإنصات المباشر للأصوات العميقة للفاعلين المباشرين في صنع الحدث الثقافي وفي إكسابه عناصر المنعة والتميز والمبادرة. لذلك أمكن القول إن التاريخ الثقافي يظل – في نهاية المطاف – تأريخا لتجارب الذوات في تفاعلها مع قناعاتها ومع ملكات الإبداع لديها ومع إواليات صنعة الكتابة وتفجير المخيال المركب المتفاعل مع الذات ومع المحيط. هي كتابة نسقية تعيد تجميع رصيد المنجز وتضعه داخل سياق إطاره التاريخي المتميز الذي يجعل العمل / الكتاب والإنتاج الثقافي، يتحول إلى ملكية مشاعة بين القراء والمهتمين. وفي ذلك أحد أبرز عناصر تخصيب الهوية الثقافية الجماعية، باعتبارها إطارا ناظما، تتلاقح – داخله – التجارب وتغتني – عبره – الرؤى وتتكامل – من خلاله - التصورات، وقبل كل ذلك، تبحث – بواسطته – الذات المبدعة عن صنع عناصر تميزها داخل نسق الاهتمامات الثقافية الجماعية التي يفرزها المجتمع في سياق تطوراته التاريخية طويلة المدى. وإذا كان من البديهي القول إن الانشغال بإبدالات تاريخ الذهنيات داخل حفل الكتابة التاريخية المتخصصة قد أفضى إلى انفتاح المؤرخين على مجالات الإبداع المدون ورصيد العطاء الفكري، فإن التوجه قد انتهى بتحقيق نقلة شاملة نحو تطوير القراءات التفكيكية المنقبة عن الرموز وعن مختلف تمظهرات توظيف هذه الرموز، المادية والمجردة، الفردية والجماعية، في سياق المتون الإبداعية لمغاربة الزمن الراهن، في مستوياتها المتعددة والمتقاطعة، شعرا ونثرا ومسرحا وتشكيلا وألحانا. باختصار، فالأمر أصبح يشكل زاوية بحث علمي يقدم أجلى تجسيد لمعالم تطور مجالات الاشتغال بالنسبة للمدارس التاريخية المعاصرة. هي ثورة منهجية تسائل التراث اللامادي، وترصد امتداداته واستثماراته داخل نظيمة عطاء المخيال الفردي / الجماعي حسب ما تعكسه الكتابات الإبداعية التي ما هي إلا تعبير عن طبيعة انشغالات نخب المرحلة وعن سقف جهودها لتعزيز عناصر الخصب والابتكار والتجديد والتحديث داخل مكونات الهوية الثقافية المشتركة لمغاربة المرحلة. وفي ذلك، أجلى تعبير عن انتمائنا للعصر وعن انخراطنا داخل نهر الإبداع الحضاري الذي يكتب الخلود لمنجزنا الإبداعي ويضفي عليه قيمه الإنسانية الواسعة. واعتبارا لهذه المنطلقات المنهجية، أمكن القول إن صدور كتاب «عطر القراءة وإكسير الكتابة» سنة 2014، لمؤلفه محمد البغوري، يشكل قيمة مضافة للتوجه العلمي التوثيقي الذي حددنا خصائصه أعلاه. فالكتاب، الذي قدم له صاحبه بعنوان فرعي دال «حوارات مغربية»، يمثل انفتاحا شاملا على نماذج من عطاء رواد الفكر والإبداع والثقافة بمغربنا الراهن. وقد بذل المؤلف الكثير من الجهد في تجميع مواد حواراته وتصنيف أسئلتها وتوجيهها وفق ما يستجيب لمحدداته المعرفية والثقافية التي كانت وراء إطلاق مشروعه الرائد. ويذكرني هذا المنحى بتجربة سابقة كان قد أطلقها بنسالم حميش سنة 1988 بإصدار كتابه الحواراتي/ التوثيقي المعنون ب»معهم حيث هم»، الذي كان قد أثار الانتباه – في حينه – إلى أهمية هذا العمل في تجميع شتات المنجزات الفردية وإدراج التقييمات المرتبطة بها داخل سياقاتها الوطنية، وأحيانا الدولية الواسعة. وبخصوص الإطار العام الذي انتظم فيه عمل البغوري، فقد لخصه محمد المسعودي بشكل واضح، عندما قال في كلمته التقديمية: «وعلى العموم، فإن هذا الكتاب الذي رافقت صاحبه وهو يعد حواراته ويهيئ لها ويتواصل مع محاوريه ويحثهم على الاستجابة والإجابة، قد أخذ نصيبا موفورا من عناية محمد البغوري وجهده، وقد أثمرت هذه العناية، وأينع هذا الجهد، فأخرجا للوجود سفرا هاما من أسفار المحاورات في شجون الأدب المغربي وشؤونه. ومن خلال هذا الكتاب سيتمكن القارئ من الاطلاع على رؤية بانورامية، ومشهد حي متسع عن واقع حال الأدب المغربي، وعن الواقع الثقافي في مغرب القرن العشرين والأعوام العشرة الأولى من الألفية الثالثة. كما يمكنه من معرفة دقيقة بالنقاد والأدباء الذين حاورهم محمد البغوري، واستطاع أن يستخلص من خلال أسئلته الذكية والمتنوعة عصارة فكرهم، وخلاصة ذوقهم الأدبي، وثمالة ميولاتهم القرائية وتجاربهم الكتابية والحياتية...» (ص. 4). هي حوارات منفتحة على واقع الثقافة المغربية الراهنة وعلى أسئلتها المركزية وعلى انتظاراتها المؤجلة، من خلال تجارب ومسارات أثثتها أسماء تنتمي إلى حقول إبداعية ومعرفية مختلفة، نذكر منها تجارب محمد أنقار، وأحمد الطريبق، وشعيب حليفي، ويحيى بن الوليد، وخالد أقلعي، والبشير الدامون، وعبد السلام الطويل، وفاطمة الزهراء الرغيوي، ومحمد اكويندي، وزهير الخراز، وإدريس علوش، ومحمد العربي غجو، والزبير بن بوشتى، ... هي تجارب تسائل قيم المنجز الثقافي، لا شك أنها تفتح الباب واسعا أمام كل جهود «إنصاف» أصوات المجتمع التي تصنع معالم البهاء بمشهدنا الثقافي والفكري الراهن. ولا شك أن توسيع التجربة بالانفتاح على مسارات أخرى سيعطي قيما غير متنازع حولها لهذا العمل الريادي الذي يستحق البغوري أن يفتخر باكتساب عناصر السبق في ارتياد الكثير من أغواره وفي سبر خباياه. أسامة الزكاري