أصبح مجال الممارسة التشكيلية ببلادنا ينحو نحو الاهتمام بإنجاز المقاربات التقييمية الضرورية لمساءلة رصيد المنجز الوطني الذي راكمته تجارب الفن التشكيلي المعاصر على امتداد عقود القرن 20 ببلادنا. لذلك، فقد توالت الإصدارات التصنيفية ذات الصلة، وأصبح المهتمون بتتبع إبدالات«تاريخ الذهنيات» وتحولات «التاريخ الثقافي «أكثر نزوعا للإنصات لنبض إيقاع العمل التشكيلي ولمنطق الاشتغال على طلاسمه، ليس فقط باعتباره تجربة إبداعية ذاتية تعكس مخاضات فعل الخلق والتمثل لدى أصحابه، ولكن، أساسا، بالنظر لقيمته المركزية في تجميع شتات عناصر الهوية الثقافية التي راكمها المجتمع في سياق تطوراته «البطيئة» والعميقة، وبارتباط بمختلف عناصر«التخصيب» التي تخضع لها الاهتمامات الثقافية والإبداعية للأفراد وللجماعات. في هذا الإطار ، يندرج اهتمامنا بتقديم الكتاب التصنيفي الصادر عند نهاية سنة 2010، تحت عنوان «دليل الفنانين التشكيليين المغاربة» (2010 - 2011)، باللغة الفرنسية، وذلك بتوقيع جماعي وبتعاون مع مجلة «ماروك بريميوم»، في ما مجموعه 242 صفحة من الحجم المتوسط. ويمكن القول إن الكتاب يستجيب للأفق العام للبحث ولتجميع عطاء الممارسة التشكيلية ببلادنا، حسب ما جسدته أعمال رائدة ومؤسسة، وعلى رأسها الكتاب الصادر سنة 2003 باللغة الإنجليزية تحت عنوان «المعجم التشكيلي لطنجة » لمؤلفه أندريو كلاندرموند وتيرينس ماكارتي، ثم كتاب دنيا بنقاسم الصادر سنة 2010 باللغة الفرنسية تحت عنوان «فهرس الفنانين المغاربة المعاصرين». لذلك، فالكتاب الجديد يعتبر إضافة هامة لمجال الاشتغال على الذاكرة التشكيلية المغربية المعاصرة، حفاظا على قيمها الفنية وتوثيقا لإبدالات خطاباتها ولآليات اشتغالها. وتزداد معالم هذا التوجه وضوحا إذا أخذنا بعين الاعتبار الطابع الاحترافي الراقي الذي انتظم في إطاره هذا الجهد التصنيفي، مما جعله يتجاوز منطق التجميع الكمي إلى البحث في «الخطابات» والتحولات النوعية التي تصنعها تجارب الذوات الموزعة على امتداد خريطة الوطن. وقد استهل الكتاب مضامينه بكلمة تقديمية عامة رسمت سقف العمل وانتظاراته، ثم دراسة تركيبية لمصطفى شباك حول تاريخ الممارسة التشكيلية بالمغرب، حسب ما راكمه المغاربة على امتداد عقود القرن الماضي، مع الحرص على إبراز نقاط القوة المتحكمة في المنعرجات التي اغتنت بالتراث المحلي المجهري المنتشر بربوع البلاد، إلى جانب غنى التكوين الذاتي ومحطات النبوغ والانتقال في الممارسة التشكيلية الوطنية التي صنعت مدارس مرجعية أصبح لها صوتها الواسع وصداها المديد داخل البلاد وخارجها. وبالنسبة للتصنيف الأصلي لمضامين هذا«الدليل» ، فقد احتوى على بطاقات تعريفية لتجارب مختلفة شملت ما مجموعه مائة فنان، ينتمون لجهات متباينة من البلاد ويعكسون تنوعا كبيرا في انتمائهم الجيلي وفي أنماطهم الإبداعية وفي آليات تطويعهم الذاتي للممارسة التشكيلية. وقد احتوت هذه البطاقات على معطيات مركزة حول شخصية كل مبدع، إلى جانب نموذج واحد من أعماله وبعض المحطات الرئيسية في«سيرته الفنية.» وقد حرص أصحاب الكتاب على اعتماد أسلوب الترتيب الأبجدي، وعلى نمط التتبع الكرونولوجي للعطاء ولعناصر التجديد، مع التركيز على إبراز مستويات الحضور الراهن في الساحة التشكيلية الوطنية، حسب ما أمكن رصده بالكثير من عناصر الضبط والتحري والتدقيق. ومن بين الأسماء الواردة في«الدليل»، يمكن أن نستدل، على سبيل المثال لا الحصر، بتجارب كل من محمد المليحي، مليكة أكزناي، بوعبيد بوزيد، عبد الكريم الأزهر، أنس البوعناني، شفيق الزكاري، عبد الله الحريري، أحمد جاريد، محمد الفقيه الركراكي، عبد الباسط بن دحمان، خديجة طنانة، عبد الكريم الوزاني،... وبذلك أمكن التأسيس لمعالم موجهة لترشيد جهود التوثيق لرصيد المنجز التشكيلي ببلادنا، حفاظا له على هويته الفريدة، وتعريفا بمضامينه الفنية والجمالية المميزة، وتمهيدا لاستغلاله في جهود الاشتغال على مكونات التاريخ الثقافي المعاصر ببلادنا. وعلى الرغم من أهمية كل ما سجلناه من قيم مضافة اكتساها الكتاب وتفاعلنا معها من موقعنا كمهتمين بالبحث في أنساق الممارسة الثقافية بالمغرب وبالاستغلال التأريخي لقيمها الإنسانية المميزة، فالمؤكد أن اللائحة المقترحة لابد وأن تثير تحفظات جوهرية لدى بعض الفاعلين في الحقل التشكيلي الوطني المعاصر ممن لم يجدوا مكانا لهم داخل التصنيف العام للكتاب. ومع ضرورة التأكيد على هذه الملاحظة الرئيسية التي ميزت قراءتنا الأولية لمضامين الكتاب، فالمؤكد أن لأصحاب العمل مبرراتهم «المنهجية»التي تحكمت في عمليات التنقيب ثم الانتقاء، خاصة منها تلك المرتبطة بمقياس الحضور والتجديد المستمرين في ساحة العطاء التشكيلي. وعموما، فالحسم في مثل هذه الملاحظات يبقى أمرا خاصا بمؤرخي الفن المغربي المعاصر وبعموم النقاد المشتغلين في هذا المجال. ويبدو أن أصحاب «دليل الفنانين التشكيليين المغاربة» (2010 - 2011)، قد أدركوا هذا البعد، عندما اعتبروه، في الكلمة التقديمية، «عملا مفتوحا» ، لابد وأن يبقى مشرعا على كل أوجه العطاء والتجديد المستمرين الذين تفرزهما الساحة التشكيلية ببلادنا. وفي ذلك إنصات دقيق لنبض الفعل الإبداعي المبادر الذي يواكب آخر الاجتهادات ويصنف آخر الإبداعات بشكل يسمح بقراءة تلاوين خريطة التشكيل بالمغرب المعاصر، وبتتبع مختلف الطفرات والتحولات التي تحملها أنساق التعاطي «الاحترافي» مع إشكالات التشكيل ومع خطاباته المركبة ومع أدواته المتجددة. وفي جميع الأحوال، فمن الواضح أن الكتاب قد نجح في وضع أسس ممارسة تقييمية وتصنيفية وتوثيقية لعطاء التجارب التشكيلية الوطنية، وفق ما يحبل به الواقع وليس اعتمادا على الأحكام «الجاهزة» التي قد تكون من ورائها دوافع لا علاقة لها بجوهر الإبداع التشكيلي الصرف، ولا بعناصر العطاء المجدد والاجتهادات المبادرة. ولا شك أن تطوير هذه التجربة، وإضفاء صبغة الصدور الدوري المنتظم عليها، يبقى أمرا حيويا لتقديم المادة الخامة الضرورية للبحث ولتقييم عطاء الفن التشكيلي الوطني المعاصر، باعتباره أحد دعائم المشهد الثقافي الوطني الخصب والمتنوع.