كيف يقرأ المبدعون أعمالهم الأولى بعد أن تطويها الأيام والأعوام؟ وكيف ينظر المبدع والمفكر والكاتب لباكورة إنتاجاته بعد أن يعيد استنطاقها في سياق مسار تخصيب عطائه الفكري ورؤاه المجددة تجاه قضايا وجوده وأسئلته المقلقة ؟ وما هي حدود الحميمية التي تربط الكاتب بنصه « الأول « الذي خرج إلى النور لتجسيد فعل اختراق رتابة الواقع والإعلان عن ميلاد الجديد لذات الكاتب أولا ثم لسيرته الذهنية ثانيا ؟ وأخيرا، كيف يمكن لتجميع حيثيات تجسيد الولادة الأولى أن يشكل مدخلا للتأسيس لمنطلقات التاريخ الثقافي حسب ما تراكمه التجارب الفردية الموزعة في الزمان وفي المكان، وحسب ما تغنيه الأنساق الثقافية الجماعية التي انتظم في إطارها سلوك الفرد والجماعة ؟ ... إنها أسئلة ارتكازية، تشكل أساس البحث في منطلقات المساءلة النقدية التقييمية التي تتوخى تلمس أوجه تطور التمثلات الذهنية للنخب المبدعة والفاعلة في المجال الثقافي الذي يسم المغرب الراهن. فالتأريخ لتحولات المشهد الثقافي الوطني، ورصد أنساق المبادرة والخلق في عطاء المبدعين والمفكرين، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال العودة لقراءة صفحات التراكم المنجز المرتبط بقدرة الذوات الفاعلة على الخلق وعلى تأثيث عوالم المعرفة والتفكير والتخييل والمساءلة التفكيكية لخصوبة الواقع ولأشكال تفاعل الذوات مع حيوية هذه الخصوبة. وعلى أساس ذلك، أضحى من الواضح نزوع المهتمين برصد إبدالات التاريخ الثقافي إلى العودة لمساءلة سياقات ولادة « المولود الأول «، ليس بهدف التوثيق التقني لشروط ولادته على مستوى التحديد الزمني والظروف الخاصة بالمؤلف والظروف العامة التي صدر فيها وأشكال تفاعل المتلقي معها، بل - كذلك - من أجل تلمس الأثر الذي خلفه هذا « المولود الأول « في مجمل مسار المنجز اللاحق الذي راكمه صاحبه من جهة أولى، ومن أجل وضعه في سياقاته الوطنية الإبداعية المعرفية التي تشكل سمة مميزة للهوية الثقافية الوطنية من جهة أخرى. فالعودة لقراءة الإصدار الأول تسمح بالاستجابة لرغبة المؤرخين والنقاد في رصد أشكال القطائع القائمة / والممكنة بين عناصر الثابت والمتغير، سواء في علاقة الكاتب بعطائه الفكري وبمشروعه الثقافي، أو في علاقة رصيد المنجز مع التحولات العامة للمشهد الثقافي الوطني وبمنطلقات التأصيل لقيم البحث والتوثيق لمرجعيات التاريخ الذهني للمجتمع ولإفرازات ذلك على المجالين المادي / السلوكي والرمزي / المجرد التي يحبل بهما المجتمع في سياق تطوره الطويل المدى. في إطار هذا التصور العام، يندرج اهتمامنا بتقديم الكتاب التجميعي الهام الذي أصدرته وزارة الثقافة تحت عنوان « المنازل الأولى : شهادات أدباء مغاربة حول كتبهم الأولى «، وذلك على هامش فعاليات الدورة 18 للمعرض الدولي للنشر والكتاب الذي احتضنته مدينة الدارالبيضاء خلال الفترة الممتدة بين 10 و19 فبراير الماضي ( 2012 ). وقد صدر الكتاب في حلة أنيقة، توزعت مضامينها بين ما مجموعه 130 صفحة من الحجم العريض، من دون أن تخضع لأي تبويب تصنيفي ولا لأي توجيه تقييمي، بل إنها تركت الكتاب يتحدثون - بتلقائية وبحميمية واضحتين - عن ظروف « الحمل الأول «، ثم عن « المخاض الأول «، وأخيرا عن «الولادة الأولى». ( ... ) وبالعودة لأسماء المبدعين الذين شاركوا في إنجاز هذا العمل الذي أشرف عليه كل من حسن الوزاني وبشرى لطيفي، يمكن القول إنها تمثل مختلف تلاوين طيف تجارب الإبداع الوطني المعاصر في مجالات الكتابة الشعرية والنثرية التي صنعت معالم بنية الإبداع المغربي في مجالات القصيدة والقصة والرواية، بأعلامها المميزين وببنياتها الإبداعية المؤطرة لفعل الكتابة. ( ... ) ورغم أن بعض الأسماء الوازنة في الساحة الإبداعية والثقافية المغربية الراهنة قد غابت من بين ثنايا متون الكتاب، فالمؤكد أن التجربة تشكل مبادرة غير مسبوقة، أحسنت ترجمة فكرة تجميع قراءات الذوات لمخاضات إصدارها لأعمالها المدونة الأولى. ويمكن القول إن التجربة قد نجحت في إثارة الانتباه إلى أهمية مثل هذه المبادرات في توفير عناصر مساءلة رصيد المنجز الإبداعي الوطني المعاصر، في أفق توفير عناصر البحث والتصنيف الضرورية بالنسبة للنقاد ولمؤرخي تطور الذهنيات الوطنية ولمجمل المهتمين بالبحث في قضايا التاريخ الثقافي للمغرب الراهن. ولا شك أن توسيع مجال التصنيف والتجميع لكي يشمل كل مجالات العطاء الفكري، من قبيل الفلسفة والتاريخ والفكر الإسلامي وعلم الاجتماع والتشكيل والسينما والموسيقى ... سيشكل مدخلا لإعادة قراءة مجمل سياقات فعل الإبداع لدى الكتاب المغاربة المعاصرين، ليس فقط على مستوى جرد التراكم الكمي للإصدارات، ولكن - أساسا - على مستوى الكشف عن خبايا الإكراهات الذاتية والعامة التي تكبل تطلعات الكاتب نحو تعميم نتائج جهده الفكري وعمله الإبداعي، وكذا على مستوى الارتهان لضغط عوائق اللحظة الأولى. ( ... ) إنها تجربة للمساءلة من أجل فهم مسار التحول لدى الذوات، ومن أجل استنكاه سياقات تطور التجارب، في أفق رسم معالم التطورات اللاحقة التي تسم مجمل رصيد المنجز الذهني والثقافي للنخب وللأجيال وللمدارس ولمجمل أوجه الخصوبة المؤثثة لعناصر الهوية الثقافية المغربية الراهنة، في نزوعاتها الفردانية المميزة وفي تقاطعاتها الرمزية والسلوكية الجماعية المشتركة.