كانت آخر خيوط أشعة الشمس آخذة في الأفول، وشرع الليل في إرخاء سدوله، حينها كان علي ومحمد يشقان طريقهما في اتجاه مقر سكناهما، ممتطيين دراجتيهما الهوائيتين، وما هي إلا ساعة حتى تناهى إلى مسامعهما صدى العويل، يكسر سكون الحي المعتاد. لم يتمالك بوجمعة بوحو نفسه، فبدأت الدموع تنهمر من عينيه، وهو يروي تفاصيل مشاهد هدم السلطات لمنزله بجماعة «سيدي الطيبي» بإقليم القنيطرة، الذي دفع فيه كل أمواله التي ظل لسنوات طويلة يكابد من أجل توفيرها، قبل أن تدكه جرافات المخزن في ثوان معدودة أمام مرآى ومسمع من أفراد أسرته الصغيرة، ليتحول حلم المسكن إلى رماد. معاناة بوحو، اقتسمتها معه ما يزيد عن عشرين أسرة تعيش الفقر والحرمان، تفاجأت في الرابع والعشرين من مارس المنصرم، ب«طراكس» رئيس الجماعة وقائد المنطقة، وهي تجرف البيوت على وهنها وبساطتها، رغم أنها شيدت تحت أنظارهما وأنظار أعوانهما، أضحوا معها عرضة للتشرد والضياع، بعدما لجؤوا إلى الاحتماء بجدران «كوري» مخصص للبهائم والدجاج، باتوا خلالها هدفا مفضلا لجحافل من البرغوت والناموس وحشرات أخرى مضرة، تنهش أجسادهم وأجساد أطفالهم الصغار، ما ضاعف من معاناتهم وآلامهم. مأساة جندي متقاعد يقول بوشتى الحاكمي، 60 سنة، الذي أنعم عليه ملك البلاد سنة 2001 بوسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الاولى، «أنا جندي متقاعد، برتبة سارجان، تفانيت بكل إخلاص في الدفاع عن أرض الوطن، وشاركت في المسيرة الخضراء، تحملت لوعة فراق أبنائي في وقت كنت في أمس الحاجة إليهم، ولما حن الله علي بقليل من المال، بعد أن أحلت على التقاعد، اشتريت بيتا يؤويني أنا وزوجتي وأطفالي الخمسة، لأعيش فيه ما تبقى لي من العمر، لكن سرعان ما تبدد هذا الحلم الذي لم أهنأ بالاحتفال بنشوة تحقيقه، سوى شهور معدودة على رؤوس الأصابع». لم يصدق الجندي المتقاعد ما حصل له ولأسرته، بعد أن تحول قبر حياته إلى مجرد أطلال إسمنتية، لكنه مع ذلك، يحاول قدر المستطاع أن يبدو صامدا، كأنه على خط التماس مع جيش العدو، محافظا على مشيته ونخوته العسكرية، عز عليه أن يظهر أمام أبنائه بمظهر المستسلم في أرض معركة الحياة، وهو الذي كان لا يترك أية مناسبة، دون أن يروي لهم أدق تفاصيل إخراج الإسبان من الصحراء المغربية، التي ما زال يعلق وسام ذكراها على صدره بكل افتخار، ويعتز بأنه «حامل الرضى ديال سيدنا». بداية حلم جماعي أجمعت جميع الأسر المهدمة بيوتها، على أن «محمد س»، وهو السمسار الذي باع البقع الأرضية لهم، معروف لدى السلطة المحلية ورئيس الجماعة، وكان يتصرف بكل حرية، وبمباركتهم في أحايين كثيرة، حسب ما رواه لهم السمسار نفسه، الذي لم يتردد، حسب ما جاء على لسانهم، في الكشف عن قيمة الهدايا التي كان يقدمها لبعض المسؤولين المحليين لشراء ذممهم والسكوت عما يجري. «اشترينا البقع بمنطقة أولاد الطالب الشرقية، شهرا قبل حلول عيد الأضحى الماضي، وكان ثمن المتر المربع يتراوح ما بين 400 و600 درهم، لم يساورنا أدنى شك في أن ما نقوم به من إجراءات تملك الأرض هو مجرد ذر للرماد في العيون، ومشاهد سينمائية خادعة ومفبركة»، يكشف المتضررون في تصريحات متطابقة ل«المساء»، وقالوا إن شاحنات نقل الرمال والإسمنت والآجور كانت تمر إلى موقع بناء «الصنادق» وهو الوصف الذي يطلقه ساكنة المنطقة على المنازل، دون أن يوقفها أحد. والأكثر من ذلك، تضيف المصادر ذاتها، أن ثقتهم ازدادت وتقوت، بعد الزيارة التي قام بها عاهل البلاد لجماعة «سيدي الطيبي»، شهر أكتوبر من السنة الماضية، واستبشروا خيرا، بكون الملك أعطى تعليماته خلال هذه الزيارة بالحرص على أن يسلك مشروع التأهيل العمراني للجماعة مسلكه الصحيح، وباتوا مقتنعين، أكثر من أي وقت مضى، بأن ما يملكونه حاليا من مساكن تنعدم فيها أبسط شروط العيش، سيخضع هو أيضا للتأهيل، وسيتحول إلى فضاء آخر تراعى فيه كرامة الإنسان المغربي. يقول محمد بلهاس «كانت كل هذه الأمور، حافزا لنا في هذه الحياة، لم نكن متخفين حينما كنا نبني، ولم نكن نشتغل في جنح الظلام، كنا نوفر المال من أجل أن يتحقق الحلم المنشود، فيما كان السمسار مكلفا بتحضير التنازلات، والمصادقة عليها بإحدى المقاطعات الحضرية، بعدما كان يصحب معه بطائق تعريفنا الوطنية». وأوضح بلهاس، أنه كان أول القاطنين بحي «السانية»، على اعتبار أنه كان يشتغل بأرض فلاحية مجاورة، تحولت هي الأخرى إلى بقع للسكن، وأضاف أن العديد من أعوان السلطة لم يصدر عنهم أي رد فعل أثناء شروعه في البناء، ولم يشعروه قط، أن الأمر يدخل في إطار «البناء العشوائي» التي أضحت، اليوم، تهمة لصيقة بما قاموا به، خاصة أنهم تلقوا تطمينات من السمسار، صاحب الأرض، الذي أشعرهم بأنه «مفاهم مع السلطة، ولا شيء يدعو إلى الخوف، طالما أن كل ترتيبات تسليم البقع قد بوشرت دون أدنى مشكل». «المخزن» يبخر الحلم المنشود كان أرباب الأسر قد خرجوا للتو بحثا عن قوت أبنائهم اليومي، حينما ظهرت الجرافة فجأة بالمنطقة، تتقدمها قوات المخازنية، والمسؤوليون المحليون، والمقدمون، وما هي إلا لحظات حتى بدأت تتعالى صيحات النساء وبكاء الأطفال، حين شرعت آلة الهدم في عملية دك منازلهم وتحويلها إلى أنقاض، بما فيها من أثاث وأغراض خاصة أخرى، ليترك المشرفون على هذه العلمية الموقع وهم منتشون ب«الانتصار» الذي حققوه أمام جموع من نسوة لا حول ولا قوة لهن. كانت آخر خيوط أشعة الشمس آخذة في الأفول، وشرع الليل في إرخاء سدوله، حينها كان علي ومحمد يشقان طريقهما في اتجاه مقر سكناهما، على متن دراجتيهما الهوائيتين، وهما أشد شغفا بلقاء فلذات أكبادهما، بعد يوم عمل مضن. كان كل واحد منهما يحمل معه شيئا من «الديسير» و«الحلوى» لإدخال الفرحة في نفوس أسرتيهما الصغيرتين، وما هي إلا ساعة، حتى تناهى إلى مسامعهما صدى العويل، يكسر سكون الحي المعتاد. لم يضع علي ومحمد في حسبانهما، مطلقا، أن يجدا في يوم من الأيام، أفراد أسرتيهما على هذه الحال وفي هذه الوضعية بالذات، مشهد مؤلم، قريب مما تشهده العديد من أصقاع العالم، بعد تنفيذ غارات جوية عليها، أو حلول كارثة طبيعية بها أشبه ب«أمواج تسونامي»، نساء مكلومات جلسن القرفصاء، يولولن، ويتمرغن في التراب، ويصرخن في حركات هستيرية، لوعة على مساكنهن التي أفرغن منها بالقوة، وبين أيديهن أطفالهن يبكون، وبعضهم ما زال يحتضن محفظته المدرسية، وأطلال منازل حطمت بالكامل، لم تصمد منها سوى جدران إسمنتية، أبت إلا أن تبقى شاهدة على حجم الدمار الذي حل بالمنطقة. لم تنفع توسلات المتضررين الذين بادروا، صباح الخميس الماضي، إلى تنظيم وقفة احتجاجية أمام مقر الجماعة، رغم أنهم أدلوا بالحجج على أنهم لم يكونوا خارجين عن القانون وقت البناء، وأن التشييد تم في واضحة النهار، وأغلبهم ظل يتردد على أقسام الجماعة القروية لقضاء مآربه، دون أن يشعرهم أحد بهذا «الخرق» الذي ألصق بهم فجأة. لم يستسغ «أوعقا» ما فعله «المخزن»، وذهب يحتج بقوة على منفذي قرار الهدم، وعوض أن تعطى له مبررات مقنعة، وجد نفسه رهن الاعتقال والاحتجاز، قبل أن يتم إخلاء سبيله. لكن المصاب الجلل الذي رزئت به الأسر المتضررة، هو فقدانها لأحد الجيران، يدعى عياد، العامل بمحطة القطار بسلا، الذي من شدة وقع الصدمة عليه، فقد عقله، وتحول إلى جسد بلا روح، بعدما كان مفعما بالحيوية والنشاط، شأنه في ذلك شأن العديد من الأطفال الصغار الذين أصبحوا يعانون من أزمات نفسية، جراء ما شاهدوه. تروي فاطمة، زوجة علي، التي اكتسحت تجاعيد الزمن القاسي وجهها النحيف، «كان مشهدا مريعا وقت التخريب، حتى بدينا نشكو واش هادو مغاربة ولا شنو، تاشي واحد مَحَنْ علينا، ولا راعا لينا ولْوليداتنا، طْرا لينا فحال لي تيوقع للفلسطينيين»، وتضيف بنبرة حزينة «الغدايد هاذي، هاد الشي راه عار ومكيشرفش بلادنا في زمن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، كل ما جمعناه، حطيناه في هاذ الخربة باش يلاه نوليو فحالنا فحال الناس، وما خلاوناش، أشنو باغيين منا، باغيينا نتشردو حنا وليداتنا، واش هادو كيحاربو الفقر والهشاشة، ولا كيحاربو الفقراء للي ما حيلتهوم غير الدص». وأعربت المتحدثة، الأم لثلاثة أبناء، عن خيبة أملها الكبيرة، في كون الحلم الذي سعت إليه هي وزوجها طيلة عقود من الزمن، تبخر في رمشة عين، وقالت إنه من الصعوبة بمكان تقبل الوضع الجديد، وتحمل متاعب أخرى جديدة، لتقدمها في السن، شأنها في ذلك شأن «زمانها» الذي أضحى على مشارف الستين من عمره، ونظرا لمتطلبات الحياة الكثيرة، وحاجيات أبنائهما المتزايدة، واستمرار غلاء العقار. استرجاع ما ضاع لم تجد الأسر المكتوية بلهيب الصدمة، سوى «كوري»، كان مخصصا في وقت سابق للبهائم والدجاج، للاحتماء به، وإيواء أبنائها من قساوة الطبيعة، وحماية ما تبقى لها من الأثاث وبعض الأغراض الشخصية من التلف. «مشينا لهاذ الكوري، حيت ماعندنا فين نمشيو، فين غادي نعيشوا حنا وليداتنا، الفلوس ليكانت عندنا خسرناها فهاذ الخربات، دابا راه عايشين عيشة البهايم والحمير، لا ما، لا ضو، لا طواليت، الناموس والبرغوت هلكنا، وهلك دراري ديالنا» يقول أحدهم. أعاد المتضررون «هيكلة» «الكوري» وتفننوا في تأثيثه، وقاموا بتقسيمه إلى العديد من الأجنحة، جناح خاص بغرفة نوم النساء، وآخر خصص للرجال، فيما عمدوا إلى تشييد كوخ بلاستيكي صغير يستحمون فيه، هم وأطفالهم، هذا في الوقت الذي أخذ خشب الحطب حيزا كبيرا من هذا المكان المقفر، يتناوب أفراد هذه الأسر في جمعه، ويستعينوا به لطهي طعامهم، الذي دأبوا، منذ أن أصبحوا دون مأوى، على تحضيره بشكل جماعي. فيما لجأت مجموعة أخرى إلى نصب أكواخ بلاستيكية، اختلفت أحجامها وأشكالها، تطل منها وجوه شاحبة، لم تستطع الحصول على مكان لها بداخل «الكوري». المطالبة بفتح تحقيق لم يسفر الاجتماع، الذي حل فيه ممثلو الأسر المكلومة ضيوفا على قائد المنطقة، عن أي شيء جديد يثلج صدور المتضررين، فقط ما أفلح فيه المسؤول الأول بالمنطقة، يكشف أحد الحاضرين، هو تقديم النصيحة لهم باللجوء إلى العدالة لمقاضاة السمسار الذي احتال عليهم، في حين تحاشى الحديث عن مسؤولية السلطة فيما وقع لهم، سيما، أن ذلك جرت فصوله أمام مرأى ومسمع من رجالاتها. « لن نسكت عن حقنا في السكن، وسنتابع قضائيا كل من تورط في الاحتيال والنصب علينا، مهما كان موقعه ومركزه، ليس لدينا ما نخشى عليه، تحويشة عمرنا وقد تم الاستيلاء عليها، فماذا بعد؟»، يقول بلهاس. معظم المتضررين يطالبون الجهات الأمنية بفتح تحقيق نزيه في هذه القضية، وهم متأكدون، أن ما حصل لهم، استفاد منه مسؤولون محليون ماديا، وهم حريصون أشد الحرص على أن يقتص لهم القضاء، الذي يعلقون عليه آمالا كبيرة لاسترجاع ما ضاع منهم، ومعاقبة الجناة الذين يتاجرون في أحلام الفقراء، ويقتاتون على همومهم ومآسيهم، حسب تعبيرهم. وفي شكاية وجهوها إلى «عبد اللطيف بنشريفة»، والي جهة «الغرب الشراردة بني احسن»، التمس أرباب الأسر «المتشردة» التدخل العاجل لانتشالهم من الأوضاع المأساوية التي يتخبطون فيها، بعدما أصبحوا بدون مأوى ولا مسكن، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، وقالوا «اضطررنا إلى طرق بابكم، سيدي الوالي، قصد مدنا بيد المساعدة، وإعطاء أوامركم المطاعة، للقيام بمعاينة ما لحق بنا من أضرار جراء الهدم بدون موجب قانوني، حتى يتم إنصافنا وإعطاؤنا حقنا».