1- يورد الروائي التشيكي ميلان كونديرا في روايته الأخيرة "حفلة التفاهة" (2014)، حكاية طريفة عن ستالين وأربعة وعشرين طيرا من الحجل، ثم نقلها عن "مذكرات ستالين". تقول الحكاية : "قرر ذات يوم أن يذهب إلى الصيد. ارتدى معطفا رياضيا قديما وانتعل حذاء تزلج وتنكب ببندقية صيد طويلة واجتاز ثلاثة عشر كيلومترا. عندئذ شاهد أمامه طيور حجل جاثمة على شجرة. توقف وعدها. هناك أربعة وعشرون طيرا من الحجل، لكن يا لسوء الحظ لم يأخذ معه إلا اثنتي عشرة طلقة. يطلق النار عليها، فيقتل منها اثني عشر طيرا، ثم يعود ويجتاز من جديد ثلاثة عشر كيلومترا نحو منزله ويأخذ مجددا اثنتي عشرة طلقة ويجتاز مرة أخرى الثلاثة عشر كيلومترا ليجد نفسه أمام طيور الحجل لم تزل على الغصن ذاته. فيطلق النار عليها وهاهي جميعا أخيرا". 2- تبدو الحكاية لمن يتلقاها أقرب إلى الدعابة. ذلك أن ميلان كونديرا انشغل في كتاباته النقدية عن الرواية بالإشارة إلى كون نواة التأليف الروائي انبثقت من فن الضحك. من ثم اتخذ من رابليه نموذجا تمثيليا في كتابه "الوصايا المغدورة". لكن ألا ينبثق التأليف من الكذب؟ ألا تلتبس الدعابة بالكذب؟. هذا ما توقعنا فيه الحكاية السابقة، والتي لم تكتمل بعد. حين حكى ستالين الحكاية في جمعهم، صدق الجميع دون أن يجرؤ أحد على القول بأن ما تم الاستماع إليه كذب. فاللوذ بالصمت في هذه الحكاية بالضبط صورة عن استبداد خفي ليس بمقدور كائن كسر تأثيره. من ثم، وفي حضرة القوة، ليس أمام الضعف إلا الامتثال. إذ حتى لو افترضنا أن فردا من الجمع انتصب واقفا ليقذف في وجه ستالين فضيحة الكذب، فالمؤكد أن الموت سيلاحقه في هيئة خوف نفسي دائم إلى لحظة الانمحاء. 3- إن ستالين وهو يحكي، يعي أنه يبتكر الكذب، ويخدع الذين يتلقون حكايته في محاولة لقراءة بلاغة التأثير النفسي في/ وعلى الوجوه. ومادام لا أحد زج بنفسه في مواجهة القوة، فإن امتدادات الحكاية تتناسل في هذا النص الروائي "حفلة التفاهة"، والذي كتب بقوة الدمغة الأدبية الإبداعية التي أنجزت بها النصوص الروائية السابقة، بالرغم من فارق السن والظرف. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الروائي يظل روائيا وكفى. فستالين كما يرد في بقية الحكاية أعد لجمعه مبولات من السيراميك على شكل قواقع. وأما هو بالذات، فلم يكن ليشركهم، وإنما يتفرد ليتلقى الموقف الحقيقي مما حكاه. كان يحتمي بالصمت، فيما الجمع يحكي حكاية مغايرة للسابق. كان يمثل الحلقة الأضعف في الظل، فيما الجمع يتدفق بالحقيقة. كانوا يقولون: إنه يكذب، ويضحكون. وكان بدوره يضحك من ضحكهم. وثم تفعل الدعابة بالتأثير النافذ والقوي. وهو التأثير الذي يجعل الرواية تكتب كلاسيكية الخلود.إذ، وكلما ابتعدنا عنها، شدنا الحنين لإعادة قراءتها لأكثر من مرة. 4- لا ليس الغرض من "حفلة التفاهة" كتابة حياة ستالين أو غيره، وهي مهمة من مسؤولية من هم أهل لها. وإنما التأكيد والتثبيت الساخر مما طبع الاستبداد والشمولية من تفاهة تستوقفنا اليوم عبر مجالات الحياة كلها : السياسة، الأخلاق، اللباس، الطعام والإعلام. ذلك بالضبط المعنى الذي يتغيا إيصاله الروائي التشيكي ميلان كونديرا في روايته الأخيرة "حفلة التفاهة"، ومن خلال"ستالين والأربع وعشرين حجلة".