مولاي اسماعيل العلوي، رجل اجتمعت فيه كل الهويات والتقت عنده كل التوجهات المتناقضة، بانسجام.. فهو الشريف العلوي، والمناضل الشيوعي، وخاله الإسلامي (عبد الكريم الخطيب)، وابن الباشا، أمه حفيدة الكباص، وزير الحرب والصدر الأعظم، وخاله الآخر (عبد الرحمان الخطيب) وزير الداخلية، وابن خالته (حسني بنسليمان) أقوى جنرالات المملكة... على «كرسي الاعتراف»، يُقر مولاي اسماعيل بأن شخصيته تأثرت بثلاث شخصيات: «أبي الذي ألهمني الجدية والاستقامة؛ وجدتي لأمي، للا مريم الكباص، التي كانت شخصية قوية، وكانت تحارب الخرافات إلى درجة أنها كانت تنكر وجود الجن؛ وخالي عبد الرحمن الخطيب (وزير الداخلية الأسبق) الذي ألهمني فكر الحداثة والعقلانية». على «كرسي الاعتراف»، يحكي مولاي اسماعيل عن الوعي الوطني الذي «داهمه» وهو لم يتجاوز الرابعة من عمره، عندما احتل العساكر الفرنسيون بيتهم في سلا، عقب انتفاضة يناير 1944، وكيف كانت الأميرات، كريمات محمد الخامس، يسألنه وهو طفل، عند زيارتهن لبيت جدته في الجديدة، عن انتمائه الحزبي فيجيب: «أنا حزبي مخزز» (يعني استقلالي حتى النخاع). ثم يتوقف مولاي اسماعيل طويلا عند استقطابه من طرف السينمائي حميد بناني إلى الحزب الشيوعي، وكيف أن والده، الرجل الصارم، لم يفاتحه في الموضوع، ولكنه بكى -في غيابه- بحرقة على تحول ابنه إلى الشيوعية. في «كرسي الاعتراف»، نتطرق مع مولاي اسماعيل العلوي إلى تجربته السياسية والإنسانية الغنية بالأحداث والأفكار. - في 1961، وهي السنة ذاتها التي حُظر فيها الحزب الشيوعي المغربي، بحكم صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط، التحقت أنت، تنظيميا، بهذا الحزب. اِحك لنا تفاصيل تبلور هذا الانتماء.. كما سبق أن حكيت لك، فقد كنت قبيل انتمائي التنظيمي إلى الحزب الشيوعي المغربي مولعا بالكتابات الماركسية والفلسفية عموما؛ كما أن التحاقي بالدارالبيضاء لمتابعة دراستي بالقسم التحضيري الذي كان يسبق الالتحاق بالجامعة (Propédeutique)، وإقامتي في منزل خالي عبد الرحمان الخطيب (سبق أن كان وزيرا للداخلية ووزيرا للشبيبة والرياضة)... - (مقاطعا) والذي يمكن أن نقول إنه كان علمانيا على عكس شقيقه الدكتور عبد الكريم الخطيب؟ نعم، لقد كان خالي عبد الرحمان علمانيا، وقد تأثرت بالعديد من أفكاره، بالإضافة إلى أن المدرسة الفرنسية -والحق يقال- تنمي في الإنسان مساءلة الذات ومساءلة المحيط، وهو ما لم يعد موجودا، مع كامل الأسف، في تعليمنا الحالي، خذ -مثلا- مسألة الشك المنهجي «Le doute méthodique» فهي تبقى شيئا أساسيا في العملية التعليمية التعلمية لكنها لم تعد تمارس الآن. أذكر أن بعض أساتذتنا الفرنسيين في مادة الفلسفة كانوا مؤمنين ممارسين للطقوس الدينية المسيحية، لكنهم كانوا يناقشون معنا كل الأفكار دون تردد ودون توجيه لتلامذتهم إلى هذا الاتجاه أو ذاك، وبالتالي فقد كنا نحن التلاميذ، في إطار تعليمي تعلمي بهذه المواصفات، نقدم عروضا نناقش فيها أفكارا جريئة، وهذا كان يبدأ من مستوى الثالثة إعدادي، عبر مادة الأدب، ولاحقا عندما يبدأ التلميذ في دراسة مادة الفلسفة يكون قد نمى شخصيته على أساس مواقف نسبية وعقلانية ونقدية تجاه كل القضايا والمواضيع. - هل هذه المرحلة (1960)، التي كنت فيها موجودا بالدارالبيضاء، هي التي انتميت فيها إلى الحزب الشيوعي المغربي؟ لا، لم أنتَمِ إلى الحزب إلا بعد انتقالي إلى الجامعة بالرباط. - ما الذي تميزت به مرحلة إقامتك في الدارالبيضاء، إلى جانب دراستك للحصول على شهادة القسم التحضيري المؤهل لولوج الجامعة (Propédeutique)؟ في هذه الفترة، شكلتُ، رفقة طالبٍ يهودي اسمه دايان وبعض الطلبة الفرنسيين، مجموعة ثقافية. ولعل أهم ما قمنا به في هذه المجموعة هو أننا راسلنا الفيلسوف جانكلفتش «Vladimir Jankélévitch» (فيلسوف وعالم موسيقي فرنسي من أصل روسي)، وسألناه خلال ذلك عن مفهوم «L ennui» (الملل)، لأن جانكلفتش كان قد اشتغل على التعريف بعدد من المفاهيم الفلسفية. وقد رحب بنا وشجعنا، لكننا لم نكن في المستوى فلم نذهب بعيدا إلى غاية الحصول على النتيجة المعرفية التي كنا نطمح إليها. - في السنة الموالية (موسم 1960-1961) التحقت بالجامعة؟ نعم، انتقلت إلى الرباط والتحقت بالكلية، لدراسة الجغرافيا العامة والتاريخ القديم. - في هذا الموسم نفسه عُيّن محمد عزيز الحبابي عميدا لجامعة محمد الخامس بالرباط.. نعم، لقد جاء الحبابي خلفا لشارل أندري جوليان الذي كان أول عميد. وفي هذا الموسم، التحقتُ بالاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وفي هذا الخضم، اتصل بي أحد زملائي السابقين في الأقسام الثانوية بالقنيطرة، وهو السينمائي حميد بناني، صاحب فيلم «وشمة»، واقترح علي الالتحاق بالحزب الشيوعي المغربي.. - وصادف ذلك هوى في نفسك، لأنك كنت مهيأ فكريا للإقدام على مثل هذه الخطوة التنظيمية.. نعم. وقد حُكي لي لاحقا، من طرف بعض رفاقي، ومنهم السي حميد بناني، أن طالبا كان زميلا لي في قسم الجغرافية العامة -الذي لم يكن عدد طلبته يتجاوز السبعة- وكان اسمه لوباردي، وكان يتحدر من مدينة سطات.. هذا الطالب (لوباردي) كان صديقا لأستاذ في الكلية اسمه جاك مارتان؛ وذات نقاش بينهما، التفت الأستاذ إلى الطالب وقال له: «هذاك اسماعيل العلوي عندو شي تقوليبة اللي تكون ميالة للحزب الشيوعي».. - يعني أن الأستاذ الفرنسي والطالب المغربي كانا منتميين إلى الحزب الشيوعي؟ من الوارد ذلك. والمؤكد هو أن الأستاذ جاك مارتان كان يساريا. - حينها كان أغلب المثقفين يساريين، أليس كذلك؟ نعم، معظم الذين كانوا يفكرون بشكل سليم، كنت تجدهم يساريين. المهم هو أنه عندما اتصل بي حميد بناني وعرض علي الالتحاق بالحزب الشيوعي، قلت له «ما كاين مانع»، ثم التحقت بإحدى خلايا الحزب فوجدت فيها السي عبد العزيز بنزاكور (رئيس مؤسسة الوسيط «ديوان المظالم» سابقا)، كما وجدت في الخلية ذاتها السي محمد العلوي المدغري الذي غادر الحزب في مرحلة لاحقة وأصبح وزيرا للميزانية، والسي محمد البوزيدي، إلى جانب السي حميد بناني.. - في أي شعبة كان السينمائي حميد بناني يتابع دراسته حينها؟ كان في شعبة الفلسفة، قبل أن يلتحق بالمعهد العالي للدراسات السينمائية المعروف اختصارا ب(IDHEC) في باريس. المهم أنني التحقت في هذا السياق بالحزب الشيوعي، وكان في هذا الالتحاق شيء من الصدفة، كما كان فيه نوع من التحضير الذاتي.. - في هذه المرحلة، بداية الستينيات، كان أغلب الطلبة المسيَّسين ينتمون إما إلى الحزب الشيوعي أو إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.. تماما؛ فوجود طلبة ينتمون إلى حزب الاستقلال كان شبه منعدم تقريبا. - لكن قبيل هذه المرحلة، كان الطلبة الاستقلاليون يشكلون الأغلبية.. قبل انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال في 1959..