- سقتَ لنا (في الحلقة السابقة) مثالا على قوة شخصية والدك، وكيف أنه ولي العهد (الحسن الثاني) حاول أن يتدخل في أمر موكول إليه، كباشا على مدينة القنيطرة، فما كان منه (والدك) إلا أن أوقفه عند حده، بلباقة، قائلا: "نعام أسيدي.. أنا المسؤول هنا"؛ هل إلى هذا الحد وصلت صرامة والدك؟ -- نعم. ومع ذلك، كان والدي يقدر الأمير مولاي الحسن كثيرا، فقد "كان مقطر لو من عينو"، لكنه كان صارما ولم يكن يسمح لأحد بأن يتدخل في مجال اختصاصه. كما كان مولاي الحسن يبادل والدي نفس التقدير إلى درجة أن والدي دفن، بأمر من الحسن الثاني، في "مولاي الحسن".. - ما المقصود ب"مولاي الحسن"؟ -- ضريح مولاي الحسن الأول داخل القصر الملكي.. (مستدركا) هذا الضريح هو، في الحقيقة، ضريح سيدي محمد بن عبد الله، فقد كان أول سلطان علوي دفن هناك، لكن بعدما دفن مولاي الحسن الأول إلى جواره أخذت المقبرة اسمه. وكان والدي هو ثاني شخص من عائلتنا يدفن في هذا الضريح، إلى جانب جدتي لأمي للا مريم الكباص (ابنة الصدر الأعظم امحمد الكباص) التي أمر الحسن الثاني بأن تدفن بدورها في "مولاي الحسن". - متى وكيف قررت الانتماء إلى الحزب الشيوعي المغربي؟ -- لقد جاء ذلك عن طريق الصدفة، وهذا شيء غريب في حد ذاته، فأنا كانت لي توجهات تنزع نحو النظريات الماركسية، التي قرأت عنها قبل التحاقي بالحزب الذي لم أنخرط فيه إلا في السنة التي أعلن فيها رسميا عن منعه بحكم قضائي.. - أي في 1959؟ -- لا، في 1959 رفعت الحكومة طلب منع الحزب الشيوعي، وكانت المحكمة الابتدائية قد قضت برفض الطلب، فتم استئناف القضية ليصدر حكم بالحظر في 1961، وهذه هي السنة التي التحقتُ فيها أنا بالحزب. - لقد سبق لي أن اطلعت على ملف الحكم القاضي بحظر الحزب الشيوعي المغربي. والغريب في الأمر هو أن ممثل الحق العام، كان فرنسيا، وقد انبرى بقوة للمطالبة بحل الحزب الشيوعي لدواعٍ دينية إسلامية..! -- الوكيل الفرنسي، الذي تتحدث عنه، كان خلال مرحلة الحكم الابتدائي، أما في المرحلة الاستئنافية فإن هيئة الحكم كانت كلها مغربية، وقد حكمت كما شاء من أراد أن يمنع الحزب. - هل كنت طالبا جامعيا أثناء انتمائك إلى الحزب الشيوعي؟ -- وقتها كنت قد اجتزت شهادة ال"Propédeutique" (القسم التحضيري للدخول إلى الجامعة)، ففي زمننا كانت هناك السنتان الأولى والثانية باكلوريا ثم ال"Propédeutique"، قبل الالتحاق بالجامعة. وكنت قد حصلت على شهادة ال"Propédeutique" بالدارالبيضاء حيث كنت مقيما رفقة خالي عبد الرحمان الخطيب.. - الذي كان وزيرا للداخلية؟ -- نعم، كان وزيرا للداخلية وبعدها سيتولى منصب وزير للشبيبة والرياضة. - ما الذي كان يقوم به في الدارالبيضاء حينها؟ -- كان محاميا، وقد كان هو الأكثر تقدمية داخل أسرتنا، على مستوى الأفكار والتصورات، فنهلت كثيرا من خزانته، كما استفدت من أفكاره. (يصمت) في الواقع، هناك ثلاثة أشخاص أثروا في شخصيتي، وهم: والدي بحكم استقامته وجرأته وصراحته، ولو أنني لست جريئا بالقدر الذي كان عليه.. فقد كان لا يبالي بتبعات جرأته، ومن جملة ما ظل يحكيه عمي سيدي محمد أنه رافق والدي، ذات مرة، إلى دار المخزن، عقب عودة محمد الخامس من المنفى، وكان الحديث رائجا آنذاك حول تنصيب مولاي الحسن (الحسن الثاني) وليا للعهد، بشكل رسمي، إلا أن محمد الخامس كان لايزال مترددا في الأمر. في تلك الزيارة، فاتح والدي السلطان في موضوع ولاية العهد؛ وعندما لاحظ تردده، أمسكه من خناقه "شنق عليه" وهو يقول له: "ما نمشي من هنا حتى تقول لي بأن مولاي الحسن غادي يكون ولي العهد"، فيما كان عمي يبذل جهده في ثنيه عما همّ به وهو يقول له: "راه السلطان هذا".. - وهل وعده محمد الخامس بتولية نجله الحسن وليا للعهد؟ -- لا أعرف، محمد الخامس كان له ما يكفي من اللباقة للإعراب عن مواقفه. - من هي الشخصية الثانية التي أثرت فيك؟ -- إلى جانب والدي، كان هناك خالي عبد الرحمان الخطيب الذي أثر فيّ بأفكاره التقدمية، كما كانت هناك جدتي لأمي للا مريم.. هذه السيدة هي التي خلصتنا، أنا وأترابي من أبناء العائلة، من كل أنواع الأساطير والخرافات التي كان ممكنا أن تشحننا بها الثقافة الشعبية حينئذ. - سق لنا مثالا على ذلك.. -- الأضرحة والجن وكل ما هو متعلق بالغيبيات، كانت للا مريم ترفضه نهائيا.. (يضحك) ذات مرة، في بيتنا القديم بسلا، وكان منزلا كبيرا لا يخلو من أماكن مظلمة تبعث على الخوف والرهبة. وقد حدث أن خيّل لي أن شيئا ما خرج من ثقب المرحاض، فقرَّ في روعي أنه جني، فجعلت -مما لابسني من توجس- أقدِّم رجلا وأؤخر أخرى بينما كنت أهم بدخول المرحاض، لكنني تذكرت حديث جدتي إلي، فقلت جازما: "ما كاين لا جن ولا والو"، وهكذا أنرت المرحاض ودخلته للتحقق، فلم أجد أي شيء من ذلك.