مولاي اسماعيل العلوي، رجل اجتمعت فيه كل الهويات والتقت عنده كل التوجهات المتناقضة، بانسجام.. فهو الشريف العلوي، والمناضل الشيوعي، وخاله الإسلامي (عبد الكريم الخطيب)، وابن الباشا، أمه حفيدة الكباص، وزير الحرب والصدر الأعظم، وخاله الآخر (عبد الرحمان الخطيب) وزير الداخلية، وابن خالته (حسني بنسليمان) أقوى جنرالات المملكة... على «كرسي الاعتراف»، يُقر مولاي اسماعيل بأن شخصيته تأثرت بثلاث شخصيات: «أبي الذي ألهمني الجدية والاستقامة؛ وجدتي لأمي، للا مريم الكباص، التي كانت شخصية قوية، وكانت تحارب الخرافات إلى درجة أنها كانت تنكر وجود الجن؛ وخالي عبد الرحمن الخطيب (وزير الداخلية الأسبق) الذي ألهمني فكر الحداثة والعقلانية». على «كرسي الاعتراف»، يحكي مولاي اسماعيل عن الوعي الوطني الذي «داهمه» وهو لم يتجاوز الرابعة من عمره، عندما احتل العساكر الفرنسيون بيتهم في سلا، عقب انتفاضة يناير 1944، وكيف كانت الأميرات، كريمات محمد الخامس، يسألنه وهو طفل، عند زيارتهن لبيت جدته في الجديدة، عن انتمائه الحزبي فيجيب: «أنا حزبي مخزز» (يعني استقلالي حتى النخاع). ثم يتوقف مولاي اسماعيل طويلا عند استقطابه من طرف السينمائي حميد بناني إلى الحزب الشيوعي، وكيف أن والده، الرجل الصارم، لم يفاتحه في الموضوع، ولكنه بكى -في غيابه- بحرقة على تحول ابنه إلى الشيوعية. في «كرسي الاعتراف»، نتطرق مع مولاي اسماعيل العلوي إلى تجربته السياسية والإنسانية الغنية بالأحداث والأفكار. - في أي سنة تزوج والدك عبد الحميد العلوي من والدتك مليكة الخطيب؟ سنة 1938. - وبعد سنتين ازددتَ أنت، بكر والديك؟ نعم، ازددتُ في مارس 1940، وبعد حوالي سنة ونصف ازداد أخي الطيب في أكتوبر 1941. - الطيب العلوي الذي كان واليا على تطوان؟ نعم، وبعده ازداد أخي ادريس الذي كان أستاذا في طب الأطفال وطبيبا في قسم الإنعاش، وهو الآن يزاول الفلاحة. - والدك كان يشغل منصب محتسب مدينة سلا؟ والدي، بعد أن حفظ القرآن وتعلم قليلا اللغة الفرنسية، توفي والده، فبدأ مشواره المهني كنجّار، لكنه لم يستمر طويلا في حرفة النجارة، وانتقل رفقة أخيه إلى مزاولة التجارة، فكان يتاجر، بالجملة، في السكر والشاي والشمع، ويوزع بضاعته على أحواز سلا وقبائل زمور، وفي فترة من الفترات اتسع نشاطه التجاري، هو وأخوه، فوصل إلى حدود تافيلالت. بعدها كانت أزمة الثلاثينيات فقلص والدي من نشاطه، ثم ما لبث أن باع المحل التجاري لصديقه الكبير، السي ادريس عواد، وبقي بدون عمل إلى أن عيّن محتسبا للمدينة، مع ولادتي، في سنة 1940، وقد بقي في هذا المنصب إلى أن عينه محمد الخامس، في دجنبر 1955، باشا على مدينة القنيطرة، ثم أنهى مساره الإداري باشا على مدينة فاس. - كيف كانت نشأتك في سلا؟ ولدت ونشأت وسط منزل العائلة في حي بابا احساين، الذي ينسب اسمه، كما سبق الذكر، إلى رجل زاهد، اسمه احساين، كان معتكفا في هذا الحي خلال مرحلة السعديين. لقد كان هذا البيت الكبير، شأن كل منازل العائلات القديمة، يضم منزلين تفرق بينهما «دويرة» بها عدد من المرافق.. في أحد هذين المنزلين كانت تسكن عائلتي وعائلة عمي سيدي محمد، كما كان هناك محل خاص بعمي سيدي عبد الله الذي كان مستقرا في تيفلت وكان يتردد على المنزل من حين إلى آخر، كما شغله من جاء للدراسة بالرباط من أبنائه؛ أما المنزل الثاني فكان مخصصا لجدتي لأبي، للا الباتول الحصينية، التي كانت تسكنه رفقتها عمتي للا فاطمة (بتسكين الطاء)، رحمهما الله. هكذا نشأت وسط هذه الدار محاطا بأفراد عائلتي وأبنائهم وخدمهم. وللحقيقة، فقد عوضني هؤلاء، وخصوصا النساء منهم، عن صرامة وقسوة والدي، وخصوصا جدتي للا الباتول ومربيتنا التي كنا نناديها أنا وأخواي ب «دادة موي»، والتي كانت تهتم بنا وتعطف علينا كثيرا. - متى التحقت بالمدارس الفرنسية التي كُنت من المغاربة القلائل الذين سُمح لهم بالدراسة فيها، اعتبارا للأصول الجزائرية لوالدتك مليكة الخطيب؟ في أكتوبر 1944، وأنا لم أتجاوز الخامسة من عمري. وكمقابل لتسجيلي في مدرسة لا مجال فيها لتعلم اللغة العربية والقرآن، استدرك والدي الأمر وتعاقد مع فقيه اسمه الفقيه التازوطي، تكلف بتعليمي اللغة العربية وتلقيني القرآن، وهكذا تعلمت العربية رغم أنني لم أكن أتقنها قدر إتقاني للفرنسية. وبعد الفقيه التازوطي، درست على يد الفقيهين العوني واشماعو، ثم استفدت لاحقا من دروس بعض شباب المدينة (سلا)، من أمثال الأستاذ محمد الغربي وأحمد اليابوري (الرئيس الأسبق لاتحاد كتاب المغرب) الذي كان معروفا حينها باحمد الدمناتي. - هل كان هؤلاء الأساتذة يترددون على منزلكم خصيصا لتدريسك أنت العربية والقرآن؟ لا، كان أخواي الطيب وادريس وابن عمي المؤرخ المرحوم سيدي عبد الوهاب العلوي، يستفيدون بدورهم من هذه الدروس.. - خلال مرحلة انتقال عائلتكم إلى القنيطرة، سنة 1955، بعد تعيين والدك باشا على المدينة، كان قاضي القنيطرة هو عبد المجيد الفاسي، والد عباس الفاسي.. نعم، كان عبد المجيد الفاسي هو قاضي المدينة، لكنه لم يكن هو من تلا ظهير تعيين والدي في المسجد، كما كانت قد جرت العادة على ذلك حينها، لأنه كان منبوذا من طرف الحركة الوطنية. وقد اضطر عبد المجيد الفاسي، لاحقا، إلى الذهاب إلى طنجة، وهناك (يصمت).. أما عباس فقد كان زميلا لي في القسم سنة 1957.. - أنتما من نفس العمر؟ نعم، كلانا من مواليد 1940. وقد درسنا موسما دراسيا كاملا مع بعضنا، قبل أن ينتقل عباس رفقة عائلته إلى طنجة. - هل كان ذلك الموسم الدراسي هو موسم الباكلوريا؟ لا، كان «La seconde» أي القسم السابق على الباكلوريا، ففي النظام القديم كان هناك شطران، الشطر الأول ثم الشطر الثاني، وفيه نتخصص إما في الفلسفة أو في العلوم الرياضية أو في العلوم الطبيعية.. - هل كان لكم، حينها، وعي بأن القاضي عبد المجيد الفاسي كان مواليا لمحمد بنعرفة، السلطان الذي عينته فرنسا قبل نفي محمد بن يوسف؟ هذه أشياء كانت معروفة، والابن لم يكن مسؤولا عن مواقف أبيه. - يعني أنكم لم تكونوا، وأنتم في بداية الاستقلال والفورة الوطنية، تعيّرون عباس الفاسي أو تستفزونه بوالده؟ لا، أبدا. لا أتذكر أننا كنا نفعل ذلك. وقد كان معنا حينها في نفس المؤسسة مومن الديوري أيضا.