المؤسف أن الهم الشاغل للكثير من علمائنا الأفاضل هو الظهور على الفضائيات أن تمنع دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ العلامة يوسف القرضاوي من دخول أراضيها، إلى جانب علماء آخرين، للمشاركة في الدورة التاسعة عشرة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، فهذا قرار سيادي من حقها أن تقدم عليه، ولكن مصدر الغرابة أن أيا من العلماء المائتين المشاركين في هذه الدورة، ويعتبرون من أبرز قيادات الفكر الإسلامي في العالم بأسره، لم ينسحب احتجاجاً على هذا المنع، بل إن الجميع تعامل مع أمر المنع بشكل طبيعي وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق. الأغرب من ذلك أن الشيخ يوسف القرضاوي نفسه، وقد تصفحت موقعه على الأنترنت، لم يحتج مطلقاً على قرار منعه، بإصدار بيان يوضح موقفه، حتى تأكيد المنع جاء غامضاً، ولا أعرف ما هو السبب. وربما يفيد التذكير بأن الحكومة البريطانية عندما أصدرت قراراً بمنع الدكتور القرضاوي من دخول بريطانيا، استجابة لضغوط جماعات إسرائيلية، بدعوى تأييده للعمليات الاستشهادية في فلسطينالمحتلة، قامت منظمات حقوق الإنسان في بريطانيا بحملات شرسة ضد هذا القرار قادها كين ليفنغستون عمدة لندن السابق شخصياً، وكانت من أسباب خسارته لموقعه في الانتخابات الأخيرة. صمت العلماء المسلمين على إجراءات تمسهم شخصياً، ناهيك عن أبناء الأمة الإسلامية، أمر محير للغاية لا نجد له أي تفسير غير الرضوخ لعقلية «الكفيل»، والتقاعس عن واجبات دينية وأخلاقية لا يجب التراجع عنها. فعندما احتجزت الحكومة السعودية الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة التونسي المعارض وأحد أبرز قادة جماعة «الإخوان المسلمين» في مطار جدة الذي وصله بتأشيرة صالحة من أجل أداء فريضة الحج، وأعادته على أول طائرة تركية إلى لندن عبر إستانبول، لم ينطق الشيخ راشد بكلمة احتجاج واحدة، على أمل أن تثمر اتصالاته في حل المشكلة، ولكنها لم تحل في حينها، واستمر صمته لعله يتمكن من أداء الفريضة في العام الذي يليه، بعد أن تلقى تطمينات في هذا الخصوص، ولكن صمته وعدم احتجاجه لم يغفرا له، ومُنع الموسم الماضي من أداء الفريضة مرة أخرى. واستمر الصمت. الحكومة المصرية تعتقل، وبصفة يومية، أعضاء من حركة الإخوان المسلمين، وباتت أنباء منع الدكتور عصام العريان من السفر أو إعادة اعتقاله من الأمور العادية التي لا تثير اهتمام محرري الصحف من كثرة تكرارها، ومع ذلك لا تنقطع زيارات العلماء المسلمين للقاهرة، وعلى رأسهم الشيخ القرضاوي نفسه. نطالب فقط بالاحتجاج والرفض وممارسة ضغوط على الأنظمة من قبل العلماء الذين من المفترض أن يصححوا الأخطاء، ويرفعوا الظلم، وينحازوا إلى الحق، ويكونوا رأس حربة في عملية التغيير واحترام حقوق الإنسان. إصدار بيانات يوقع عليها مئات العلماء تندد بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أو جنوب لبنان، أمر جميل، ولكن المطلوب أيضا وقفة أو وقفات شجاعة لإصلاح البيت العربي من الداخل، وتقويم ما فيه من اعوجاج، وما أكثره. نعود إلى قضية منع الدكتور القرضاوي من الدخول إلى الإمارات للمشاركة في أعمال مؤتمر هو أحد أبرز مؤسسي المنظمة التي دعت إلى انعقاده، ونسأل عن الأسباب التي دعت إلى ذلك، ونأمل ألا تكون مثل تلك التي تذرعت بها بريطانيا، أي مساندته للعمليات الاستشهادية. فالشيخ القرضاوي تعرض لحملة شرسة من إيران بسبب معارضته لعمليات التشييع في أوساط الطائفة السنية، ومطالبته بوقف سب صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. ودفعت هذه المواقف وكالة أنباء «مهر» الإيرانية الرسمية إلى اتهامه بالعمالة للموساد الإسرائيلي. والأكثر من ذلك أنه كان على رأس فريق العلماء الذي ذهب إلى أفغانستان لمطالبة حركة طالبان بعدم هدم تماثيل بوذا استجابة لنداءات غربية باعتبارها من الآثار التاريخية، وأصدر تنظيم «القاعدة» بياناً شديد اللهجة ضده بسبب إقدامه على هذه الخطوة. ما نريد أن نقوله أن الرجل في قمة الاعتدال ويمثل الوسطية الإسلامية في أنصع وجوهها، ويعارض التطرف والمغالاة، وهو مع الإسلام الذي يضع تطورات العصر في قمة حساباته دون التخلي مطلقاً عن الثوابت الأساسية، فلماذا يتعرض للمنع بينما يتم فرش السجاد الأحمر لآخرين لا نريد أن نذكر فئاتهم أو أسماءهم أو جنسياتهم تأدباً. ومن المفارقة أن المشاركين في المؤتمر المذكور قدموا أكثر من مائتي بحث «علمي قيّم» تتعلق بقضايا عديدة من بينها حرية التعبير عن الرأي، واحترام حرية الإنسان في الإسلام، والأكثر من ذلك أن الشيخ محمد بن خالد القاسمي، أمين عام الأمانة العامة للأوقاف في إمارة الشارقة التي تستضيف المؤتمر، ألقى كلمة مؤثرة لفت نظرنا فيها قوله إن «تقليل الخلاف، وتضييق دائرته أمر مطلوب في عصرنا، حيث أصبح من أهم الواجبات العمل بجهد على تآلف الأمة، وجمع كلمتها ومعالجة الخلاف بين أبنائها، بالاحتكام إلى جهات إسلامية من الأفراد والهيئات على ضوء كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لحل مشكلات المسلمين ومعالجة ما جدّ في حياتهم من قضايا». كيف يمكن معالجة الخلافات الإسلامية، واحترام حريات التعبير في ظل سياسات المنع والإقصاء، وعدم تضامن علماء أجلاء مع زملاء أجلاء لهم لم يتم السماح لهم بالمشاركة؟ أحوالنا تتراجع وتندفع بسرعة نحو الحضيض، ليس فقط بسبب الحكام الذين نلومهم دائما ونحملهم مسؤولية كل ما يلحق بنا من هزائم وإحباطات، وإنما أيضا بسبب النخب، الإسلامية منها أو الليبرالية. فعندما توجد في هذه الأمة قيادات إسلامية لا تخشى في الحق لومة لائم، وتتصدى للباطل، وتنتصر لقضايا حقوق الإنسان والمساواة والعدالة، ستخرج هذه الأمة من عثراتها، ومن المؤسف أن الهم الشاغل للكثير من علمائنا الأفاضل، ولا نعمم هنا، هو الظهور على الفضائيات وإصدار الفتاوى حول قضايا ثانوية، والابتعاد عن القضايا الأساسية المحورية، ولهذا تتغول الأنظمة الحاكمة، وتتراجع الحريات، وتتكاثر الهزائم.