محمد فائد إن المجتمعات لا ترقى إلا بقيمها وأصولها، ولا تكتمل سعادتها إلا باحترام تقاليدها وهويتها. والأمة التي تستنبط نمط عيشها من غيرها، تبتعد عن أصالتها وحقيقتها وتفقد القدرة على الوجود بنفسها، ولن تعود إلى أصلها لجهلها بمكوناتها. لهذه الأسباب جميعها، توجب على الإنسان المغربي أن يهتم بثقافته وتاريخه على كل المستويات، ومن بينها، إن لم يكن من أهمها، ثقافته الغذائية؛ لذلك سنحاول، في هذا المقال الأسبوعي، التطرق إلى أهم التحولات الغذائية التي يعيشها الإنسان المغربي وما تحمله بين طياتها من أمراض فتاكة تشكل خطرا حقيقيا على صحته. قبل الحديث عن الذرة كمادة غذائية، نوضح أننا نتكلم عن الذرة البلدية المحلية البورية الطبيعية. ويجب ألا تشتبه الأمور على الناس لأن هناك أنواعا كثيرة تزرع للماشية فقط، ولا تصلح للاستهلاك البشري، وهي أنواع قد تكون مغيرة وراثيا. كانت الذرة تستهلك بقوة في بلدان المغرب العربي، خصوصا في فصل الخريف، وذلك على شكل كسكس أو على شكل خبز بعدما يضاف إليها قليل من دقيق القمح، لأن الذرة لا تحتوي على الكلوتن Gluten الذي يعطي للخبز شكله المتماسك والمتمدد؛ كما كانت تستهلك مع لبن الخض المتخمر، في ما يسمى بالدارجة (سيكوك). وخبز الذرة يفوق خبز القمح من حيث الجودة الحسية والغذائية، وهو ما كان يسمى بالدارجة (المحراش)، لكن خبز الذرة لم يكن يسطح ويترك ليختمر أو «يطلع»، وإنما كانت النساء يعجنَّ خليط دقيق الذرة مع قليل من دقيق القمح، ويضفن الخميرة التقليدية الحامضة، ثم يتركنه في القصعة حتى يتخمر، ويسطحنه مباشرة فوق آنية الطين المسماة في لساننا الدارج ب(الفراح). كانت الذرة تسد حاجة جل سكان البوادي لنصف سنة، حيث كان استهلاك الذرة يبدأ من شهر شتنبر ولا ينتهي إلا في شهر أبريل، لكي يبدأ بعده استهلاك الشعير. والذرة كانت طعام (المؤنة) في البادية، والمؤنة هي إطعام الشغالين في الحقول أثناء موسم إزالة الأعشاب الضارة، وأثناء موسم الحصاد كذلك. ولم يكن هناك طعام معروف ساعتئذ إلا سيكوك الذي غالبا ما كان يحضر بالذرة، حسب المناطق. واستهلاك الذرة بالنسبة إلى الأطفال كان جاريا وعاديا، ولذلك لم تكن معروفة ًالأمراضُ المترتبة عن التغذية كالأنيميا والسيلياك والحساسية ونقص النمو ونقص التركيز. وقد كان الاعتماد في تغذية الأطفال على الذرة ينطوي على أهمية بالغة بالنظر إلى احتوائها على عوامل النمو، وهناك مكونات غذائية لا يمكن الاستغناء عنها في تغذية الطفل، ومنها حمض الفوليك والمنغنيز. تحتوي الذرة على فايتمينات ثمينة جدا، منها فايتمين B 5 وB 1، ومكونات غذائية ذهبية، منها الألياف الغذائية والفلافونويدات مثل الكريبتوزانتين Cryptoxanthin، وبعض الأملاح المعدنية بكمية هائلة مثل المنغنيز والفوسفور والكلسيوم. ونلاحظ أن هذه العناصر تعتبر من المركبات الهامة التي تحول دون وقوع بعض الحوادث التي تخل بفايزيولوجيا الجسم كما سنرى في ما بعد. وتحتوي الذرة على بروتينات وسكريات مركبة منها النشا، وبعض السكريات الحرة مثل الكلوكوز. وتستعمل الذرة لاستخراج سكر الكلوكوز الذي يباع في الأسواق، كما تحتوي الذرة على كمية جيدة من الزيوت في النبتة، وهي زيوت نباتية عادية. ولا تحتوي الذرة على مكون الكلوتن Gluten الذي يسبب إسهالات حادة بالنسبة إلى المصابين بعرض سيلياك، والقولون العصبي، وعرض كروهن، وبعض الأمراض المتعلقة بالجهاز الهضمي. ويسبب مكون الكلوتن انزعاجا بالنسبة إلى المصابين بمرض التوحد، وإن كانت بعض الجهات تنفي هذا الحادث. ويلاحظ أن الأشخاص المصابين بالمرض التوحدي تتحسن حالتهم لما يتوقفون عن تناول الكلوتن Gluten والكسين Casein، وتبقى الذرة، إلى جانب الرز، هي النشويات الوحيدة لتغذية هؤلاء. ويدخل الفايتمين B 1أو التيامين Thiamine في استقلاب الدهون والسكريات واستخراج الطاقة، ويدخل التيامين في المفاعلات الكيماوية التي يحتاجها إنتاج مكون الأسيتيلكولين Acethycholine، وهو موصل عصبي ضروري للذاكرة؛ والملاحظ أن هناك نقصا ظاهرا في هذا المكون عند المصابين بمرض الألزايمر، ولهذا فإن استهلاك الذرة يساعد كل الذين يشتكون من أعراض على مستوى الجهاز العصبي. ومن الملاحظ أن استهلاك الشعير والذرة كان يساعد الأطفال على الحفظ، خصوصا في الأرياف التي كان أطفالها يواظبون على حفظ القرآن قبل الالتحاق بالدراسة؛ ونركز هنا على منطقتين كانت الذرة تستهلك فيهما بكثرة وهما منطقتا دكالة وعبدة، وبالتالي فقد كانت تقل فيهما الأمراض، كما كان سكانهما يمتازون بقوة جسمانية خارقة. ويعمل حمض الفوليك على استخراج الطاقة من الدهون، ولذلك يكون استهلاك الذرة في فصل الشتاء، لأنه فصل البرد الشديد، والذرة تعطي طاقة كبيرة للجسم، والمعلوم أن حمض الفوليك يبقي مستوى الهوموسيستاين منخفضا لكي لا يحدث تآكل داخل الأوعية الدموية، فتتجمع الصفائح وتضيقها. ويعتبر استهلاك الذرة من الأغذية التي تساعد على الوقاية من أمراض القلب والشرايين. لكن الفايتمين B 5 أو ما يعرف لدينا بحمض البانتوتينك Pantothenic Acid فيعمل على خفض الكوليستيرول، وهو مركب يكون Coenzyme A، وبهذا المركب تعطي الذرة طاقة هائلة للجسم، لأن حمض البانتوتينك هو الذي يحول السكريات إلى طاقة داخل الخلايا، ولذلك لم يكن العياء معروفا لدى الأشخاص الذين كانوا يقتاتون على الذرة، أما اليوم بعد أن أهمل الناس هذا المكون الغذائي المهم فإن القوة الجسمانية لديهم قد انخفضت ونقصت إلى مستوى فظيع، خصوصا منهم الأطفال، بمن فيهم أطفال البوادي الذين كانوا يتمتعون بقوة جسمانية هائلة لما كان استهلاك الذرة مرتفعا، إذ الملاحظ أنه حتى في البوادي قل استهلاك الذرة. وتحتوي الذرة، في ما تحتوي عليه، على مكون البيتاكريبتوزانتين Beta-cryptoxanthin، وهو فلافونويد يعطي اللون الأصفر للمواد الغذائية، مثل القرعة الحمراء والبابايا والذرة. ويلعب هذا الفلافونويد دورا أساسيا في الحد من السرطان، ونخص -حسب الدراسات التي بين أيدينا- سرطان الرئة، وبهذا تدخل الذرة في حمية المدخنين لأنهم معرضون أكثر من غيرهم لسرطان الرئة، لكن يبقى مفعول هذا المركب كمهدئ لألم المفاصل Arthritis هو الأهم، وهذا النوع من الفلافونويدات معروف لدينا في علم التغذية كمضاد للالتهابات. ويضاف مفعول هذا المركب إلى مفعول الفايتستروجينات الموجودة في الذرة ليساعد على الضبط الهرموني لدى النساء. ولا تحتوي الذرة على مركب الكلوتن، وهو السر القوي للتركيب الكيماوي لهذا المكون الغذائي الهام، ومع الأسف الشديد فإنه كانت هناك أخطاء علمية فادحة، منها تصنيف الذرة مع العلف وتخصيصها لتغذية المواشي مع الشعير، والاكتفاء بالقمح والرز للتغذية البشرية. وهذا الطرح، مع الأسف الشديد، لايزال راسخا لدى كثير من الناس. ومع سحب الذرة والشعير من التغذية البشرية، بعدما أزيلت النخالة من القمح، ترتبت أمراض متعلقة بالتوازن الفايسيولوجي، والنقص في المركبات الحافظة للجسم، والمنظمة للمفاعلات الكيماوية داخل الجسم، ونخص بالذكر الألياف الغذائية والفايتوستروجينات، التي تمتاز بها الذرة والشعير، وكذلك المغنيزيوم والكروميوم والكلسيوم والمنغنوز والفلافونويدات، ولذلك لم يكن مشكل العصر الذي يسمى الكوليستيرول معروفا لدى المغاربة، لأن من خصائص الذرة والشعير خفض وضبط الكوليستيرول في الجسم، وبالتالي لا يمكن للأشخاص الذين يتغذون على النبات أن يكون لديهم هذا المشكل الذي بات يهدد العالم، لأنه أصل جل الأمراض.