قراءة بيسوا تبعث على الذهول. فعل القراءة، في هذه الحالة الاستثنائية في تاريخ الشعر، ينجذب لأغوار من المعرفة المرحة، التي تضع كل شيء في مهب السؤال، بما في ذلك ذات الكتابة نفسها وما يترتب عنها من أوضاع اعتبارية. إن لعبة الأنداد، ضمن هذا الأفق، تفيض على قواعد لعبها، لتشرط الكتابة بفعل تراجيدي أصلي، تنشطر معه الذات إلى ذوات أخرى، تحظى بمطلق الاستقلالية، وتتمتع بمزايا الجموح، التي تجعل الشاعر لا يعود يتعرف على أناه الخاصة الجريحة، ضمن مسرح من الأصوات، تنادي على بعضها البعض، مدفوعة بغريزة القتل، وإن كانت تتظاهر بمظهر الأخوة، والانتماء لشجرة نسب، تتغذى من أنساغ فلسفية متنوعة، يوحّد بينها الارتياب وحسوية معذبة، تندفع لتكتشف، وتسقط لتعلو، وتتأمل لتعيش، وتسعى لتنسى، وتصمت ليغمرها الوجود في شكل موسيقى متاخمة للعدم. يكاد يكون بيسوا شخصا غير مرئي. نصوصه تمنح هذا الاحتمال، الذي فجر شعريته في جوانبها الأكثر شفافية وتعتيما. إنه شخص يتوارى بقوة خلف ما يكتب، وخلف أنداد ابتكر لهم حيوات أخرى، ليصير هو بينهم الأقل شأنا، والأكثر مدعاة للارتياب. لعله العطاء الأمومي التراجيدي، الذي يمنح الحياة للآخرين، في الوقت الذي ينزلق هو إلى القبر. وإذا ما قُيِّد له البقاء على قَيد الحياة، فإنه يكتفي بالظل، يراقب مخلوقاته، وهي تشق لأنفسها طريقا من الحياة إلى الحياة، من الولادة إلى الرمز، من الشخص المرتبط بمسار أوتوبيوغرافي معين، إلى الصوت الشعري الخالص. وهنا تحديدا، تلتحق المخلوقات النِّدِّية بقدر صاحبها، فتصبح بدورها غير مرئية، إلا كجمالية وإرادة قوة تَغيَّر بموجها طريقُ الشعر والرؤيةُ إليه، على حد سواء. ومع فعل القراءة والترجمة، توسَّع المشهد المسرحي، وأصبح الصوت الشعري منجذبا للانهائيته. إن بيسوا، وهو يجسد قِربانية شعرية بامتياز، بالرغم من أوراقه الشعرية الشخصية المُتَجسدة في أغانيه، فإنما كان يسعى بذات الفعل إلى تحويل الشِّعر السابق عنه إلى أضحية. وأثر الهذيان، من جنون هذا الفعل الوثني، صارخ في حالة الند البارودي كامبوس، الأقرب إلى نفسه من كل الآخرين. أقرب حتى من معلمه، الند ألبرطو كاييرو (راعي القطيع)، الذي عثر عليه، بإحدى الإشراقات، وهو يتجلى بداخله. لكن بيسوا، المأخوذ بغريزة القتل عند أنداده، لم يجد غير التنحي، ليترك لهم جرأة الفعل، الذي سيكون هو أول ضحاياه. ترك لهم أيضا، حرية الإعلان عن نسبهم الشعري، في مفارقة خلاقة: القاتل، يتلذذ بالإعلان عن أجداده القتلة، مهددا بتحويل فضائهم إلى مسرح للدم. تلك تحديدا، هي علاقة الند، الحسوي، الهذياني، ألبارودي كامبوس بالشاعر الأمريكي والت ويتمان. عندما أقرأ «أغنية نفسي» لويتمان، وأعمال بيسوا الشعرية، أستشعر وجود قرابة خاصة، أضاءتها لي أكثر قراءة قصيدة ألبارودي كامبوس: «تحية إلى والت ويتمان». قراءة جعلتني أعتبر أن مصادر إلهام بيسوا تكمن في جانب خصيب منها، عند هذا الشاعر الأمريكي، الذي خلق احتمالات شعرية، حسية، مستقبلية، تأملية، رعوية، وثنية، جعلته شاعرا، لا مدرسيا، منطويا على تعدد هو تحديدا «مفرد بصيغة الجمع»، في تلك الحقبة من بناء الحلم الأمريكي. لعل هذا المفرد، هو الذي توزع، بنوع من فيض الأصالة المدهشة، على الأقل، عند ندين من أنداد بيسوا، هما: الرعوي ألبرطو كاييرو، والحسوي ألبرودي كامبوس. قصيدة «تحية إلى ويتمان» ترسم بورتريها شعريا، لهذا الشاعر الأمريكي الباخوسي، الذي هو دفعة واحدة «رجل امرأة طفل طبيعة آلات ». ويعترف البارودي كامبوس أنه عندما يقرأ هذا الشاعر، يشتم «رائحة العرق، الزيوت، النشاط الإنساني والميكانيكي»، حتى أنه لا يعرف، عند مستوى معين مِن القراءة المتوحدة، أكان يقرأ أم يعيش. وعندما يهتاج كامبوس بحسه الحيواني المتقلب، وهذيانه المُجاوز لبشريته المعذبة، فإنه يخاطب «شيخه» وايتمان: « ثِبْ معي في هذه الرقصة المصطدمة بالنجوم/ إهو معي خائر القوى على الأرض/ اصطدم معي مخبولا بالجدران/ تحطَّم وتمزَّق معي». لعلها دعوة دموية تفصح عن احتفاء مسرحي بهذا «الشيخ/ المخلِّص»، لكن على طريقة المستقبلي البارودي كامبوس.