تقوم قضية تنزيل الدستور المغربي الجديد بالشكل الديمقراطي المأمول على عدة اعتبارات وعوامل أساسية تتمثل، على مستوى عام، في دينامية الممارسة والخطاب لدى مؤسسات الدولة وسلطاتها العامة، وكذا في مقياس تشبع هذه المؤسسات بالرغبة الجادة في تفعيل دستور 2011 الجديد ومدى استعدادها لتطبيق وتنزيل المضامين الدستورية التنزيل الأنسب والسليم، كما تتمثل، على مستوى خاص، في تحريك الآلة التشريعية بالسرعة الزمنية المعقولة وتفعيلها من خلال آلية سن القوانين. ولعل مسألة إصدار القوانين التنظيمية تعد إحدى أهم حلقات تفعيل دستور 2011 وتكميله. قبيل إعلان حكومة عبد الإله بنكيران عن النسخة النهائية لمخططها التشريعي لسنوات الولاية التشريعية، الحالية منها والقادمة، والذي وقعته بموجب يناير 2013، أضحت قضية إقرار القوانين التنظيمية وإخراجها إلى الوجود حديث مختلف الفرقاء السياسيين ومختلف المتدخلين في مجال التشريع، حيث تبرز جليا بين الفينة والأخرى على واجهة الأروقة التشريعية والإعلامية نقاشاتٌ عمومية ترتبط بالجانب القانوني والتشريعي، وهي نقاشات تفتح المجال لتقييم أداء الحكومة في هذا المضمار. ولعل ما يلفت الانتباه في محور هذه النقاشات أن أغلبها انصب حول توجيه المؤاخذات والانتقادات الحادة للحكومة كسلطة تنفيذية تمتلك بدورها حق المبادرة التشريعية، حيث لم يشكل ذلك الاختصاص المخول للحكومة حافزا إجرائيا على العدول عن تباطئها وتأنيها في طرح مشاريع القوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور. وقد تمحورت أبرز النقاشات والتجاذبات السياسية والقانونية خلال الولاية التشريعية الجارية حول رهان تفعيل الدستور من زواياه المتعددة، لعل أبرزها تلك المتعلقة بإصدار القوانين التنظيمية المنصوص عليها دستوريا وصدورها بعد الموافقة النهائية عليها، هذا إذا شئنا أن نعتبر قضية إقرار القوانين التنظيمية مدخلا أساسيا في ورش تفعيل الدستور في شقه التشريعي. بغض النظر عن كون إقرار القوانين التنظيمية وإصدار الأمر بتنفيذها مقترنا بدور واختصاص المحكمة الدستورية في إطار الرقابة الإجبارية على مطابقة الدستور كما سنأتي على توضيح ذلك لاحقا، فإنه من المسلم به، قانونيا ودستوريا، أن إصدار القوانين التنظيمية هو مسؤولية مشتركة بين السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (البرلمان) معا، مسؤولية الحكومة من جهتين اثنتين: الأولى، من خلال التعبير عن إرادة سياسية حقيقية وتمثيل واضح حول تصورها لمحتوى هذه القوانين التنظيمية، ومن ثم أخذ المبادرة التشريعية والدفع بها كمشاريع لقوانين؛ والثانية، عبر الالتزام بمقتضى الوثيقة الدستورية في منطوق فصلها السادس والثمانين من الدستور، حيث على الحكومة أن تعمل وجوبا على إخراج جميع القوانين التنظيمية المنصوص عليها دستوريا، وعددها تسعة عشر قانونا تنظيميا، وعرضها على أنظار البرلمان في غضون هذه الولاية التشريعية التاسعة والمحددة حتما في خمس سنوات 2011 - 2016، هذا قياسا على الجدول الزمني الذي حددته الحكومة لعملية طرح القوانين في مخططها التشريعي في الفترة الممتدة ما بين سنتي 2012 و2015. أما مسؤولية البرلمان بدوره، كسلطة تشريعية بأغلبيته ومعارضته، فتتجلى في جدية مناقشة القوانين وتداولها، سواء تلك المعروضة عليه أو المقترحة من طرفه قبل التصويت والمصادقة النهائية عليها، وكذا عبر آلية التقدم بمقترحات للقوانين التنظيمية مثلما رأينا ذلك عبر مبادرات بعض الفرق النيابية، ولو أن الأمر كان محدودا ولم يكن بالشكل الكافي والمطلوب. قبل الخوض في مجالات القوانين التنظيمية التي نصت عليها المراجعة الدستورية الأخيرة وإبراز مدى أهميتها وما اعتراها من ملاحظات خاصة، نتطرق أولا لمفهوم ومدلول "القوانين التنظيمية": I - مفهوم القوانين التنظيمية Les Lois Organiques 1-1 القوانين التنظيمية ومبدأ تدرج القوانين: يأخذ النظام القانوني المغربي بمبدإ هرمية التشريعات وتدرجها أو بما يصطلح عليه بتراتبية القوانين، ونجد الدستور المغربي الجديد بدوره ينص على إلزامية هذه القاعدة، حيث تعتبر دستورية القواعد القانونية وتراتبيتها ووجوب نشرها مبادئ ملزمة، وبمعنى أدق فإنه من اللازم احترام ترتيب القوانين حسب مكانتها وأهميتها وقيمتها (الدستور، القوانين التنظيمية، القوانين العادية، الأنظمة الداخلية للبرلمان...)، والمستنبطة في الأساس من طبيعة المسطرة التي تخضع لها عند سنها، حيث تختلف إجراءات وضع وتعديل الدستور عن مسطرة سن القوانين التنظيمية وعن مسطرة سن القوانين العادية وما إلى ذلك من أنواع التشريعات. على هذا المحمل، جعل الدستور المغربي الجديد الاتفاقيات الدولية تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، كما خول للملك ولكل من رئيس الحكومة ورئيسي مجلسي النواب والمستشارين وخمس أعضاء مجلس النواب وأربعين عضوا من مجلس المستشارين إمكانية إحالة هذه الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب على المحكمة الدستورية لتبت في مطابقتها للدستور. بناء عليه، تأتي القوانين التنظيمية، حسب نظرية تراتبية القوانين، في المرتبة الثانية بعد الدستور الذي يعتبر أسمى وأعلى القوانين مكانة ومنزلة، وعليه تتموقع القوانين التنظيمية، من ناحية القيمة والدرجة، بين الدستور وبين القوانين العادية، فهي إذن أقل من الدستور منزلة وأعلى من القوانين العادية مكانة. وبدافع استنباط الإشكالات التي يمكن إثارتها في هذه الزاوية المتعلقة بمبدإ تراتبية القوانين، نطرح التساؤل التالي: على أي أساس أو أي معيار تنبني نظرية التراتبية القانونية التي يتم بموجبها تصنيف قوانينَ في مراتب عليا وقوانين أخرى في مراتب دنيا؟ يرجع أصل نظرية تدرج القواعد القانونية إلى السيرة النبوية الشريفة والفقه الإسلامي، حيث كان للصحابة الكرام والفقهاء المسلمين السبق في استنباط هذه النظرية، وذلك من خلال عملهم بأحكام الشريعة الإسلامية حسب تسلسلها على النحو الشرعي المعروف: القرآن الكريم، السنة النبوية الشريفة، الاجتهاد.. إلا أننا، وحسب النظام الدستوري المغربي، نجد سبيلنا إلى تبرير الإجابة عن هذا السؤال المطروح في الأسلوب والطريقة التي يتم بها وضع الدستور ومراجعته وتعديله والتي تتميز بنوع من الجمود، حيث لا يمكن أن يتم تعديل الدستور أو مراجعته إلا عن طريق تنظيم وإجراء عملية الاستفتاء الشعبي عليه واستنفاد جميع المراحل المسطرية السابقة لهذه العملية، بخلاف مسطرة سن القوانين التنظيمية التي تعتبر أقل جمودا وصرامة من إجراءات وضع الدساتير. كما تعتبر مسطرة سن هذه القوانين بدورها أكثر تعقيدا من القوانين العادية والمتمثلة حسب الفصلين 85 و132 من الدستور في عدم جواز التداول في مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية إلا بعد مرور عشرة أيام على إيداعها لدى مكتب مجلس النواب، علاوة على أنه لا يتم إصدار الأمر بتنفيذ القوانين التنظيمية إلا بعد قرار المحكمة الدستورية بمطابقتها للدستور. وعليه، تحال القوانين التنظيمية على أنظار المحكمة الدستورية بصفة إلزامية في إطار الرقابة الإجبارية على دستورية القوانين، بعكس الإجراءات التشريعية الخاصة بالقوانين العادية حيث لا تخضع هذه القوانين للرقابة الدستورية بصفة إجبارية وإنما بصفة اختيارية، وبالتالي لا يجوز تغليب القاعدة القانونية الأدنى على القاعدة القانونية الأعلى، وذلك تحت طائلة عدم الدستورية وكذا في إطار التقيد بسلم تدرج القواعد القانونية. 1-2 أهمية القوانين التنظيمية وفق النظام الدستوري المغربي: تصنف القوانين التنظيمية في منزلة موالية بعد الدستور الذي يسمو على جميع أصناف التشريعات، لكونها -أي القوانين التنظيمية- وُضعت لتكون مكملة له، وهذا ما يميز الدساتير المكتوبة، فسميت كذلك نظرا إلى طبيعة النص الدستوري، حيث إن النصوص الدستورية بطبيعتها ليست قوانين إجرائية، وإنما هي نصوص قانونية أساسية مختصرة ومقتضبة في شكلها المكتوب، لا يمكن أن تضم جل التفصيلات والجزئيات التي تستوعبها القوانين الأخرى الأدنى درجة من الدستور، وهذا هو دور القوانين التنظيمية -والقوانين العادية والمراسيم التطبيقية أيضا- التي تفرد وتتطرق لهذه التفصيلات والجزئيات التي أشارت إليها الوثيقة الدستورية في مواد خاصة على سبيل الحصر دون الخروج عن المطابقة لأحكام الدستور ومضامينه؛ لهذا وُصفت القوانين التنظيمية، عند جانب من الفقه، بالقوانين المكملة، خصوصا بعد استعاضة الدستور عن إعطاء تعريف لها، واكتفائه فقط بتسميتها ب"التنظيمية"، فمن جهة مصدرها هو الدستور، ومن جهة أخرى هي مكملة ومفصلة له، حيث يرجع أصل تسمية القوانين التنظيمية وإدراجها، كصنف خاص من القوانين داخل النسق الدستوري المغربي، إلى النموذج الفرنسي، وذلك إذا ما سلمنا بأن ترسانة القوانين المغربية هي، في معظمها، محاكاة للتشريع الفرنسي. وهناك بعض الفقه الذي اعتبر أن الترجمة من الفرنسية إلى العربية لمصطلح القوانين التنظيمية هي ترجمة غير دقيقة، باعتبار أن مقابل كلمة Les lois organiques في اللغة العربية هي كلمة "القوانين العضوية" وليس التنظيمية، وبالتالي كان حريا بالمشرع الدستوري أن يستعيض عن مصطلح القوانين التنظيمية بمصطلح آخر كالقوانين العضوية أو القوانين الأساسية.. وذلك تفاديا للخلط بين القواعد القانونية التي تصدر عن السلطة التشريعية والأخرى الصادرة عن السلطة التنظيمية. * باحث في القانون