عبد الله عرقوب ما رواه كريستيان هويل عن المواجهة التي وقعت بين نائب القنصل الفرنسي، ميكري، وملازمين من «غاليلي» سينفيها لاحقا ميكري وكذا يحيى زكيري، مترجم القنصلية، رغم تشبث هويل بصحة ما رواه. جورج بوردون سيروي هو الآخر حادثا مماثلا وقع أيضا لميكري، لكن هذه المرة ليس في القنصلية الفرنسية وإنما على متن «غاليلي». وقع الحادث، كما يروي بوردون، يوم الأحد 4 غشت على الساعة السادسة مساء حين كان نائب القنصل في زيارة للسفينة فوجد نفسه محاطا بمجموعة من الضباط أوضحوا له ضرورة استدعاء سرية للإنزال العسكري لأن «شرف فرنسا» يفرض، من وجهة نظرهم، عدم التأخر في معاقبة قاتلي الفرنسيين الثلاثة. لكن نائب القنصل سيتشبث برأيه الرافض لأي إنزال، وهو ما أغضب الضباط، وحوّل النقاش إلى مواجهة حادة، فتجرأ أحد الضباط على اتهامه بعنف بأنه «ترك علم فرنسا يداس بالأقدام». ويتابع بوردون أن هذه الجرأة غير المتوقعة أثارت ميكري وجعلته يرتجف ويصير لونه ممتقعا، قبل أن يدخل على أوليفييه، قائد السفينة، ويشتكيه هذا الهجوم غير المبرر، ويقول له: بما أنهم يتجرؤون على القول بأني أمرغ العلم الفرنسي تحت الأقدام، فإني أقترح عليك أن أنزل هذه الليلة وأنذر الباشا رسميا بأن يسلمني فورا عددا من الجناة وإلا ستقوم أنت بالإنزال غدا. لقد صارت لديك إذن ذريعة. هل تريد ذلك؟ لكن أوليفييه سيرفض الاشتراك في هذه المزحة، كما يسميها بوردون، وافترقا في السابعة مساء، بعد أن جددا مرة أخرى اتفاقهما على أن تضمن «غاليلي» حماية الفرنسيين وألا تقوم بأي عمل ردعي. ما يثير في روايتي هويل وبوردون هو تشابههما حد التطابق في المواقف، وإن كان الاختلاف الوحيد بينهما يكمن فقط في زمان الأحداث ومكانها. في رواية هويل تقع الأحداث يوم السبت 3 غشت في القنصلية الفرنسية، وفي رواية بوردون تقع يوم الأحد على متن السفينة «غاليلي». ويعلق أندري آدم على هذا التشابه الغريب بالقول: «يمكن ألا تكون إحدى الحادثتين قد وقعت، ويمكن أن تكونا وقعتا معا، وأن الأولى كانت السبب في ذهاب القنصل إلى السفينة، لكن ليس مرجحا ألا تكونا كلتاهما قد حدثتا. ويبدو أن الثابت على كل حال هو عقلية ضباط غاليلي، الذين يريدون ليس فقط الانتقام للموتى وإنقاذ شرف فرنسا، ولكن أن يكون ذلك بأيديهم». ويضيف «بدون هذه العقلية كان يمكن، بدون شك، تجنب مأساة 5 غشت. لكن هذه المأساة لا يمكن أن تبرر فقط بسيكولوجية ضباط غاليلي». إذ رغم نزقهم ورغبتهم في الانتقام الفوري والبحث عن بطولة زائفة، فإن سلطة القرار في الأخير لم تكن في أيديهم. إذ بعيدا عن الدارالبيضاء، وبالضبط في طنجةوباريس كانت المؤامرة تحبك. ففيما كانت برقيات المفوض الفرنسي بطنجة، سانت أولير، تتوالى لحث السلطات الفرنسية على احتلال الدارالبيضاء، كان رئيسه رينيو وكذا أقطاب الحزب الاستعماري في باريس يتحركون لتكوين جبهة تدافع عن الاحتلال، رغم رفض الاشتراكيين المناوئين لفكرة الاحتلال، وعلى رأسهم جان جوريس. وقد توجت هذه التحركات بإعطاء التدخل العسكري في الدارالبيضاء صبغة دولية. إذ اتفقت الحكومة الفرنسية مع نظيرتها الإسبانية على القيام بحملة عسكرية مشتركة، عكس ما كان يطمح إليه سانت أولير. وهكذا أرسلت فرنسا وحدها كتيبتين من القناصين الجزائريين، وكتيبة من اللفيف الأجنبي و300 فارس ومدفعية، فيما أرسلت إسبانيا 500 من جنودها. على الجبهة المغربية، ظل المخزن عاجزا عن اتخاذ موقف حازم تجاه ما كانت تحيكه فرنسا من مؤامرات. وكل ما كان يستطيع فعله هو تقديم المزيد من التنازلات بعد حادث 30 غشت. إذ في رسالة بعثها القنصل الفرنسي بفاس في الرابع من غشت إلى سانت أولير أخبره فيها أن وزير الخارجية المغربي صرح له بأن السلطان يأسف لما حدث، وأنه «مستعد لإعطاء جميع الترضيات الضرورية للحكومة ولعائلات القتلى»، وأن «باشا المدينة سيعزل ويستبدل بآخر أكثر قدرة على حفظ الأمن، وأن أوامر سلطانية أعطيت لنائبه بطنجة لإرسال قوة إلى الدارالبيضاء للقضاء على الاضطراب وحماية الأجانب، وأن أوامر أخرى ستعطى لقواد القبائل لإلقاء القبض على المسؤولين عن الحادث، وأن جلالة السلطان يأمل أن «تقدر الحكومة الفرنسية هذه الإجراءات الفورية».» لكن يبدو أن هذه «الإجراءات الفورية» جاءت متأخرة جدا. إذ قبل يوم واحد من تاريخ هذه الرسالة بدأت القوات الفرنسية تنسل إلى الدارالبيضاء دون أن ينتبه إليها أحد.