في كتابه «التدخل الأجنبي والمقاومة بالمغرب» يقول علال الخديمي إن العديدين يتوهمون بأنهم يعرفون أحداث الدارالبيضاء سنة 1907/1908 «لأنهم قرؤوا عنها بعض الأسطر أو بعض الصفحات في المؤلفات التي اهتمت بتاريخ المغرب». ويتعمق الوهم أكثر حين يربط هؤلاء ربطا مباشرا بين مقتل التسعة أوربيين في 30 يوليوز 1907 وبين قصف المدينة وتدميرها يوم 5 غشت من العام نفسه. ربطٌ حاولت الكتابات الفرنسية، التي تناولت الحدث أن تمرره قصدا لإخفاء المبررات الحقيقية لمذبحة الدارالبيضاء. في هاته الحلقات سنحاول ما أمكن استرجاع ما حدث في تلك الأيام العصيبة من تاريخ الدارالبيضاء، مستندين على شهادات صحافيين عايشوا عن قرب فجائع تلك الفترة أمثال كريستيان هويل وشارل بوردون، وعلى مؤلفات أكاديميين أمثال أندري آدم وعلال الخديمي. عبد الله عرقوب بعد لقائه بقائد «غاليلي» سيبعث أولير ببرقية إلى وزير الخارجية الفرنسية بيشون. ويبدو أنه لم يبعثها إلا بعد لقائه بالدكتور ميرل. كانت البرقية مؤرخة بتاريخ 31 يوليوز/ 1غشت، وكانت هي الأخرى محشوة بالمغالطات. كتب أولير: «تبعا للمعلومات التي قدمها لي الدكتور ميرل، فإن مجموعة من الأوربيين أصيبوا بجروح في الأحداث التي كلفت حياة خمسة من مواطنينا، رجموا ورمي بهم في البحر، ونخشى تفاقم الأوضاع غدا يوم السوق إذا لم يلزم الأجانب منازلهم أو البواخر التي صعدوا إليها. وأعتقد أن الأهالي لن يعترضوا طريقهم حين ركوبهم بها، والتي لن تكون كافية لاستقبالهم. وقد وصل مع الدكتور ميلر عدد من الأجانب كقنصل إسبانيا وعائلته وحوالي 300 يهودي». وأضاف أولير: «بالأمس فقط توصلت من ممثلنا بالدارالبيضاء (يقصد المعلومات التي بعثها إليه نوفيل عبر قائد «أرمينيا») أن النواحي يتصاعد فيها التحريض من طرف المحتجين المغاربة على الفوضى. وقد انضم إلى تلك الحركة عدد من القبائل المجاورة وقسم من سكان المدينة، خاصة الذين احتجوا على أشغال الميناء». كما ذكر بأنه طلب من قائد السفينة الحربية غاليلي «التوجه حالا إلى الدارالبيضاء ليكون هناك غدا فاتح غشت»، قبل أن يوضح في ختام هذه البرقية / التقرير أن «شركة التفريغ وضعت رهن إشارتنا كل إمكانياتها لحمل ألف رجل من الجزائر لاحتلال الدارالبيضاء، والدفاع عن السكان الأوربيين ضد إرهاب القبائل المجاورة. وعملنا لن يكون مشتركا مع أي قوة أخرى، ولا حتى مع إسبانيا، لأن الاعتداء كان موجها إلى المنشأة الفرنسية خاصة، والضحايا كانوا فرنسيين، ولا شك أنكم ترون أن الخطة صارت ضرورية من غير انتظار الاتفاق مع إسبانيا، الذي قد يكون صعبا. القنصل الإنجليزي في تلك المدينة أخبر بأنه سيرسل باخرة بحرية، ولكن ذلك ليس ملحا. وأكرر بأن الأنظار مركزة علينا لترى ما إذا كانت فرنسا ستنتظر العون». كان أولير يحاول ما أمكن التعجيل بإصدار قرار فرنسي لاحتلال الدارالبيضاء كما حدث سابقا في وجدة. وهكذا سيبعث من جديد برقية أخرى إلى وزير الخارجية الفرنسي لحثه على عدم التأخر في احتلال المدينة. وقد ضمن رسالته تلك عددا من المطالب، التي اقترح أن تطلبها فرنسا من المغرب. كان منها تعويض فرنسا ماديا، إعدام المسؤولين الرئيسين عن مقتل الأوربيين، عزل عامل المدينة بوبكر بن بوزيد. وأكد أولير في رسالته أن «المطلب الأخير ليس صعب التحقيق كغيره من المطالب، وستكون له نتائج هامة جدا، ذلك أن المخزن سيصبح بين أيدينا مدة طويلة». بعد 43 سنة عن هذه الأحداث سيعترف أولير، في مذكراته التي نشرها سنة 1950، أن كل ما قام به في تلك الفترة كان مخططا له سلفا وفق سيناريو محبوك وضعه رفقة الوزير الفرنسي رينيو. يكتب أولير «كنت مستعدا لمواجهة الحادث بسيناريو متفق عليه سلفا مع رئيسي رينيو، وقابل للتنفيذ في خطوطه العريضة أمام كل الفرضيات، باستثناء المتغيرات التي تتحكم فيها الظروف». كان هذا السيناريو يرتكز بالأساس على: - القيام بهجوم مضاد، إذا كانت الإمكانيات متوفرة، دون انتظار أي تعليمات من السلطات الفرنسية، مخافة عرقلة العملية أو تأخيرها أو إشراك أطراف أخرى خارجية. - أن يكون الهجوم فوريا حتى لا تترك الفرصة للدول الأخرى، التي تضررت من اعتداء 30 يوليوز، خاصة إسبانيا، كي تقوم هي الأخرى بعمل مسلح. إذ بالنسبة إلى أولير، فأي عمل من هذا القبيل سيضر بمصالح فرنسا، التي تسعى إلى الاستفراد لوحدها بالمغرب. - البحث عن غطاء شرعي لتبرير الهجوم أمام الرأي المغربي والأجنبي، خصوصا بعد تدويل القضية المغربية عقب معاهدة الجزيرة الخضراء. ويبدو أن قبائل الشاوية استشعرت أن فرنسا تخطط لعمل عدواني. لذلك بدأت، مباشرة بعد حادث الدارالبيضاء، عملية استنفار واسعة استعدادا لأي هجوم محتمل. وتبين رسالة، موقعة في 31 يوليوز من قبل أعيان قبائل الشاوية، وكانت موجهة إلى قبيلة أولاد حريز، طبيعة الاستنفار الذي كانت تشهده تلك القبائل. جاء في بعض من مقاطع هذه الرسالة: «وتعيّن إعلامكم لتكونوا على بال، وتتلاقوا مع بعضكم، وتعلموا جواركم من إخواننا أولاد بورزك بأن يكونوا ببال (...) وتبرّحوا في الأسواق، وتكونوا على بال، بحيث إذا ظهر شيء في البحر تكونوا فيه يدا واحدة». في اليوم الموالي لكتابة هذه الرسالة سيتحقق ما كانت تتوقعه قبائل الشاوية. إذ في الثامنة صباحا من يوم الخميس 1 غشت سترسو السفينة الحربية «غاليلي» على بعد 400 متر تقريبا من شاطئ الدارالبيضاء. وكان ذلك بداية العد العكسي لقصف المدينة.