عبد الله عرقوب لم يستطع نوفيل، المكلف بشؤون القنصلية الفرنسية، الانتظار حتى صباح الغد لإخبار المفوضية الفرنسية في طنجة بما حدث. في تلك الليلة سيطلب من قبطان الباخرة «أرمينيا» القيام بهذه المهمة. لم تكن هناك وسيلة أخرى غير هذه. كما أنه لم يكن يستطيع السفر وترك القنصلية دون مسؤول في مثل تلك الظروف، خصوصا أن العديد من الفرنسيين بدؤوا يتدفقون على القنصلية بحثا عن ملجأ بها. فيما طلب القناصل الأوربيون من رعاياهم التزام الحذر وعدم مغادرة منازلهم. كانت حالة من الترقب والقلق تستبد بالجميع مخافة أن يتكرر سيناريو مشابه لما حدث في الصباح، خصوصا أن شائعات كانت تتردد بأن أهالي الشاوية شرعوا في التدفق على المدينة من باب مراكش وباب السوق. في تلك الليلة غادر قبطان «أرمينيا» ميناء الدارالبيضاء نحو طنجة. فيما قال كريستيان هويل وجورج بوردون إن الدكتور ميرل هو من قام بذلك. والواقع أن ميرل لم يذهب في الليلة ذاتها، وإنما غادر نحو طنجة في اليوم الموالي- كما يذكر أندري آدم- للقيام بالمهمة ذاتها. حين وصل القبطان إلى طنجة التقى مباشرة بدو سانت أولير، الذي كان ينوب عن السفير رينيو، الذي كان في عطلة. كانت الرابعة صباحا من يوم 31 يوليوز 1907، يحكي أولير في مذكراته، حين أيقظه الجندي الجزائري، الذي كان يحرس المفوضية الفرنسية، وأخبره بأن قبطان «أرمينيا» يود التحدث إليه في الحال. نزل أولير ببيجامته إلى مكتبه حيث كان القبطان ينتظره. كان «شاحبا جدا، يروي أولير، كمن قضى ليلة بيضاء بعد انفعالات عنيفة». وأضاف: «جاء يحث الباخرة من الدارالبيضاء حيث طلب منه قنصلنا أن يخبرني، لعدم توفر وسيلة أخرى، بالوقائع التالية: بعد ظهيرة 30 يوليوز قتل الرعاع، الذين كانوا مهيجين من قبل عملاء ألمان، تسعة من عمال الميناء، برجمهم بالحجارة، وكان ضمنهم أربعة فرنسيين، والآخرون إسبان أو إيطاليون. جثثهم رمي بها في البحر، فيما جرح آخرون. كان المنادون يجوبون الشوارع على ظهور الأحصنة يحرضون الأهالي على قتل النصارى، وفي المسجد كان ينادى إلى الجهاد. فيما لم يقم باشا المدينة، الذي كان عاجزا أو متواطئا، بأي محاولة لإعادة الأمن». هل هذا فعلا ما رواه قبطان «أرمينيا» لأولير، أم أنه فبرك تلك الوقائع كلها ليجد مسوغا منطقيا يبرر به تلك الحملة الدعائية الشرسة التي شنها على المغرب مباشرة بعد سماعه بخبر مقتل الأوربيين التسعة؟ لم تكن هذه أول مرة يتحامل فيها أولير على المغرب، إذ كان معروفا عليه ذلك. لكن طبيعة الحدث في حد ذاته جعلته يتحرك في جميع الواجهات وينشر العديد من المغالطات لدفع السلطات الفرنسية إلى توجيه ضربة عسكرية إلى المغرب. وكانت أولى خطوة قام بها هي اتصاله بأوليفييه, قائد السفينة الحربية «غاليلي»، الذي أخبره بضرورة رؤيته في أقرب وقت. لم تكن الساعة قد تجاوزت بعد السادسة صباحا حين كان أوليفييه في مقر المفوضية الفرنسية. وبعد أن حكى له أولير ما حدث بالدارالبيضاء قال له: «تدرك مثلي ضرورة أن تصل فرنسا إلى الدارالبيضاء هي الأولى، وأن تحمي وحدها حياة وممتلكات الأجانب. أبلغ عامل المدينة أن رأسه يقابل رأس أي واحد من مواطنينا. وحاول أن تتأكد من موافقته ودعمه لقنصلنا في حالة وقوع إنزال عسكري. ولا تتردد في قصف المدينة، إذا كان ذلك ضروريا، لحماية الجالية الأجنبية. وحاول أن تحصل على دعم «دي شايلا» (الباخرة العسكرية) التي تبحر في الساحل الجنوبي. اطلب منها أن تلتحق بك عاجلا في الدارالبيضاء». بعد ذلك سأل أولير قائد «غاليلي» إن كان يريد أن يكتب له هذه التعليمات رسميا، فرد عليه أوليفييه قائلا: «لا داعي. أعرف أني إذا احتجت إليك ستساندني حتى النهاية. أنا سأتحمل مسؤوليتي وأنت ستتحمل مسؤوليتك. يمكنك أن تثق بي كما أثق بك».