في كتابه «التدخل الأجنبي والمقاومة بالمغرب» يقول علال الخديمي إن العديدين يتوهمون بأنهم يعرفون أحداث الدارالبيضاء سنة 1907/1908 «لأنهم قرؤوا عنها بعض الأسطر أو بعض الصفحات في المؤلفات التي اهتمت بتاريخ المغرب». ويتعمق الوهم أكثر حين يربط هؤلاء ربطا مباشرا بين مقتل التسعة أوربيين في 30 يوليوز 1907 وبين قصف المدينة وتدميرها يوم 5 غشت من العام نفسه. ربطٌ حاولت الكتابات الفرنسية، التي تناولت الحدث أن تمرره قصدا لإخفاء المبررات الحقيقية لمذبحة الدارالبيضاء. في هاته الحلقات سنحاول ما أمكن استرجاع ما حدث في تلك الأيام العصيبة من تاريخ الدارالبيضاء، مستندين على شهادات صحافيين عايشوا عن قرب فجائع تلك الفترة أمثال كريستيان هويل وشارل بوردون، وعلى مؤلفات أكادميين أمثال أندري آدم وعلال الخديمي. يحكي بوردون، استنادا إلى ما كشفه له أحد الفرنسيين الذي شارك في مذبحة السور الجديد: «هل تتذكرون معسكر المرتزقة في صلامبو (رواية تاريخية لفلوبير تحكي عن الحرب التي وقعت في القرن الثالث قبل الميلاد بين القراصنة وسكان قرطاج)؟ هل تتذكرون الجثث الملتوية، والذباب الذي يتنازع حول مكان العفونة، ورائحة الجثث؟ لقد رأيته وشممته.. معسكر المرتزقة في صلامبو! لقد كان على مقربة من السور الجديد، فوق أرض واسعة جرداء، نحو الغرب، في منطقة هذا الحي البشع، التناكر، الذي هو حي الأهالي العرب. هناك التجأ سكان الدارالبيضاء، الهاربون، في الوقت نفسه، من النهب والقصف، وجنود المخزن والنهاب الذين أربكتهم قنابلنا (...) التي وهي تسقط فوق كتلة محاصَرة ومولولة (...) لا. لا (...) لن أبين لكم ذلك. هذا الجندي المخزني الذي لم يعد له أي وجه، وتورم فمه والتوى، والذي نزع منه انفجار قنبلة ثلاثة أرباع من رأسه.. وهذه المرأة الحامل، التي ولدت هناك وسط الرعب، والتي سقط رأسها إلى الأمام وكانت أرجلها منثنية، وردفها مرتفع ومنفتح، وكانت تضم إلى لحمها المختلج العاري صغيرها الذي ولد للتو، والذي لم يولد إلا ليموت.. وهذه الخيل الواقعة، ببطنها المفتوح، فوق فرسانها. تشابك مرعب، هائل، وفاحش للحيوانات والرجال والنساء، الذين كانت تغضنات احتضارهم بشعة، والذين كان لحمهم، المنتفخ بالغاز الذي سخنته الشمس، ضخما، منفوخا، ممدودا، جعل منهم أجساد عمالقة، جهازهم التناسلي منتصب بشكل ضخم.. وأخيرا هذا الذباب، هذه الرائحة، وهذه النتاتة التي تنفلت من ركام الجثث (...) هذا جزء مما رأيته». شاهد آخر يصف ما حل بالمدينة من دمار قائلا: «لقد شقت الدور وتساقطت الحيطان وارتفعت غيوم الغبار وانتشر دخان النيران التي أشعلتها القنابل أو النهاب في كل اتجاه». فيما كتب كريستيان هويل، مراسل جريدتي «لومتان» و«لادبيش ماروكين»، وكان شاهد عيان هو الآخر عن تلك المرحلة السوداء من تاريخ الدارالبيضاء: «مظهر المدينة، في اليوم الموالي للإنزال، تجاوز في الرعب كل ما يمكن أن نتخيله. الأزقة الضيقة كانت من النتانة التي تثير، في حالة التأخر في البقاء فيها، تقيؤ الاختناق. أشياء من كل نوع تغطي الأرض، متراكمة، مكسورة، في ركام لا يوصف. والجثث، ثلاثة أرباعها عار، كانت تتعفن تحت الشمس. كانت ضخمة، منتفخة بالغاز، وأعضاؤها الجنسية الممدودة كانت في حالة انتصاب بشع. فيما عدد لا يحصى من الذباب يتجول في الجروح، فوق الأفواه وفوق الأعين. والجزء المحترق من الملاّح ليس سوى ركام من الأنقاض المسودة. نساء جالسات على الحجر بوجوه مندوبة، وموسومة بالحداد والفقر. والرجال لهم لحى مشعثة، ووجوههم مسودة بالسخام، وملابسهم ملطخة وممزقة». لم أبانت فرنسا عن كل تلك الوحشية المدمرة تجاه أهالي الدارالبيضاء؟ ألأنهم فقط تجرؤوا على قتل تسعة عمال أوربيين، كما ظل يردد ذلك أغلب من كتب عن مجزرة الدارالبيضاء من الفرنسيين، أم كانت هناك دوافع أخرى خفية كانت المحرك الأساس لآلة التدمير الفرنسية؟ وهو يتحدث عن الظروف التي رافقت مقتل العمال الأوربيين التسعة، انفلتت من كريستيان هويل العبارة التالية: «كنا سنحاول تقديم الشكر للقايد المتمرد (يقصد الحاج حمو قايد اولاد حريز) لو لم يدفع العمال التسعة حياتهم ثمنا لطموحاته». لِمَ يفكر الفرنسيون في تقديم الشكر لقايد كانوا يتهمونه بنشر البلبلة في الدارالبيضاء وتحريض الأهالي على قتل الأوربيين؟ هذا الالتباس يُجليه هويل قائلا: «منذ مؤتمر الجزيرة الخضراء، الذي كان عليه، حسب تفكير الدبلوماسيين، أن يضع حدا للتنافس الفرنسي الألماني على المغرب، كانت فرنسا، في الواقع، تجد صعوبة في الحفاظ على هيبتها فيه». ولتوضيح ذلك أكثر يضيف أن «المصالح الألمانية كانت قليلة الأهمية، فنمت بوتيرة مثيرة للإعجاب. إحدى شركاتها حصلت من السلطان على الموافقة على بناء ميناء طنجة، والإخوة مانيسمان امتد نشاطهم من الريف حتى حدود سوس. وفي الداخل كان نظام الحماية يجذب الجموع نحو القنصليات الألمانية. ولا ندري إلى أين كانت ستصل هاته التطاولات الاقتصادية والسياسية لولا انقلاب الدارالبيضاء الفجائيcoup de théâtre de casablanca». هذا الربط بين قصف الدارالبيضاء والصراع الكولونيالي على المغرب سيشير إليه شارل بوردون هو الآخر. يقول بوردون إن «الظروف السياسية الدولية أعطت لأحداث الدارالبيضاء صيتا عالميا. إذ سمحت لفرنسا بعرض قوتها العسكرية الهائلة والحاسمة وبترميم هيبتها في المغرب، التي لم تكن تحلم باستعادتها بعد معاهدة الجزيرة». عبد الله عرقوب