يبدو أن الإدارة الأمريكية أدركت مؤخرا أهمية اللحاق بقطار أفريقيا السريع، فقررت تبني صيغة منتديات القمة من أجل الوصول إلى عقول وقلوب الأفارقة. ففي الفترة بين 4 و6 غشت الجاري استضافت واشنطن أول قمة أمريكية أفريقية، وذلك بعد أن سبقتها في هذا التقليد دول أخرى مثل الصين واليابان والهند؛ فما الذي تريده الولاياتالمتحدة من أفريقيا؟ وما الذي يدفع القادة الأفارقة إلى السعي والهرولة صوب القوة العسكرية الأبرز في عالم ما بعد الحرب الباردة؟ وكيف نفهم ذلك في ظل التدافع الدولي المستميت على ثروات أفريقيا والذي يدشن لمعارك جيل التكالب الثالث على أفريقيا؟ يسعى هذا المقال إلى محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال الوقوف على الأهداف الحقيقية للقمة، ومدى انعكاس ذلك، سلبا أو إيجابا، على مستقبل النهضة الأفريقية. المخفي والمعلن من اللافت للانتباه أن الإدارة الأمريكية لم توجه الدعوة إلى أربعة من رؤساء الدول الأفريقية، وهم: الرئيس روبرت موجابي (زيمبابوي) والرئيس عمر البشير (السودان) بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة عليهما، بالإضافة إلى الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي ورئيسة أفريقيا الوسطى كاثرين سامبا بانزا بسبب تحفظات الاتحاد الأفريقي. ومع ذلك، فقد وجهت الدعوة إلى المغرب رغم عدم عضويته في الاتحاد الأفريقي بحجة أن مشاركته ترتبط بالعلاقات الثنائية مع الولاياتالمتحدة. وقد قرر كل من رئيس ليبيريا وسيراليون إلغاء السفر لحضور القمة بسبب تفشي مرض الإيبولا القاتل في بلديهما. وإذا أخذنا بعين الاعتبار عدم مشاركة بعض الزعماء الأفارقة بأشخاصهم بسبب المرض، مثل رئيسي كل من الجزائر وزامبيا، أو لأسباب سياسية غير خافية، مثل حالة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فإن القمة تمثل فرصة تاريخية لحشد الجهود من أجل تطوير وتنمية العلاقات الأمريكية الأفريقية وفقا للمنظور الأمريكي. وبغض الطرف عن الأهداف المعلنة المتعلقة بوقوف الإدارة الأمريكية خلف جهود دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في أفريقيا، نستطيع الحديث عن أربعة أهداف رئيسية تريدها إدارة أوباما من وراء هذه القمة: يتمثل الهدف الأول في تشجيع التجارة والاستثمار، وهو ما يعني إعادة الاعتبار إلى الشعار الذي رفعه الرئيس بيل كلينتون في تعامله مع أفريقيا حينما أكد على التجارة بدلا من المساعدات. ولعل الدافع الأبرز هنا يتمثل في محاولة اللحاق الأمريكي بركب أفريقيا الصاعدة، حيث تملك هذه القارة البكر، الغنية بمواردها الطبيعية، ستة من الاقتصادات العشرة الأسرع نموا في العالم، كما أن الولاياتالمتحدة تأتي في أعقاب كل من الصين والاتحاد الأوربي من حيث معدل التبادل التجاري مع أفريقيا. لم يكن مستغربا أن يتم الإعلان في القمة عن صفقات لشركات أمريكية بنحو 14 مليار دولار من أجل الاستثمار في أفريقيا. أما الهدف الثاني فهو ذو طبيعة أمنية واستراتيجية، إذ لا يخفى أن تحديات الجماعات المتطرفة، مثل بوكو حرام في نيجيريا والشباب المجاهدين في الصومال، وإعلان بعض الدول الأفريقية الحرب على الإرهاب، مثل كينيا ومالي، تمثل جميعها مخاطر قد تعوق عمليات النهوض الاقتصادي في أفريقيا. وعليه، فإن الولاياتالمتحدة تحاول اغتنام هذه الفرصة لفرض وجودها العسكري والاستخباراتي في هذه الدول بحجة محاربة الإرهاب؛ ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى إقامة معسكر للطائرات الأمريكية بدون طيار في النيجر، وتثبيت الوجود الأمريكي العسكري في منطقة خليج غينيا الغنية بالنفط بحجة محاربة جماعة بوكو حرام. ويشير الهدف الثالث إلى دعم الاستمرارية في سياسة الولاياتالمتحدة الأفريقية، فالرئيس بيل كلينتون أصدر قانون النمو والفرص الأفريقية (اجوا)، أما الرئيس جورج دبليو بوش فقد قدم برنامجه لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) في أفريقيا؛ وعليه فإن الرئيس أوباما، الذي ينحدر من أصول أفريقية، يسعى هو الآخر إلى ترك بصمته في القارة بعد أن يترك منصبه، وربما يمثل تفشي مرض الإيبولا في غرب أفريقيا فرصة للإدارة الأمريكية لتظهر وجهها الإنساني وتقلل من غلواء مصالحها المادية في أفريقيا. وأحسب أن الهدف الرابع والأهم هو احتواء الصين، فقد ارتفعت واردات الصين من النفط الأفريقي والمعادن الطبيعية على مدى العقدين الماضيين، بالإضافة إلى الاستثمارات الصينية الضخمة في مشاريع البنية التحتية الأفريقية التي اجتذبت أكثر من مليون مواطن صيني يعيشون اليوم على التراب الأفريقي. ويبلغ حجم التجارة الصينية مع أفريقيا نحو مائتي مليار دولار، مقابل 85 مليار دولار للولايات المتحدة، ويعني ذلك أن الولاياتالمتحدة تخوض حربا جديدة غير معلنة في مواجهة الصين على الأراضي الأفريقية. الحرب الأفريقية الجديدة على الرغم من أن أفريقيا باتت تخوض حروبا في جبهات متعددة، مثل الحرب على الإرهاب والتي تنطلق من شرق أفريقيا وحتى سواحل غربها وصولا إلى منطقة الساحل والصحراء، بالإضافة إلى الحرب على فيروس الإيبولا الذي قضى على مئات المواطنين في ليبيريا وسيراليون وغينيا ويهدد سكان الغرب الأفريقي كله، فإن حربا أخرى بدأت تتضح معالمها تدور بين الولاياتالمتحدة والقوى القديمة والصاعدة في النظام الدولي من أجل اقتسام الثروة والنفوذ في أفريقيا. ويمكن تصور ملامح الحرب الباردة الجديدة في أفريقيا على النحو التالي: محور الدول الغربية والولاياتالمتحدة في مواجهة الصين. وربما يعكس ذلك الصراعُ بعضَ خصائص الصراع الإيديولوجي بين المعسكرين الشرقي والغربي في أفريقيا زمن الحرب الباردة. وثمة كتابات أمريكية وأوربية متعددة تتحدث عن مخاطر الصعود الصيني في أفريقيا، حتى ذهب بعضها إلى نعت الصين بالقوة الاستعمارية الجديدة. وعليه، فقد أضحت مسألة احتواء النفوذ الصيني في أفريقيا على قائمة «أجندات» السياسات الخارجية الغربية. إن القراءة الواعية لمقاصد ومرامي القمة الأمريكية الأفريقية تؤكد أنها خالية من أي مضمون حقيقي وتفتقد العمق، كما أنها تعبر عن «موضة» دبلوماسية جديدة لجأت إليها الدول الكبرى في التعامل مع أفريقيا. وعلى الرغم من المخاطر الأمنية التي تواجهها الولاياتالمتحدة في كثير من أنحاء العالم، مثل العراق وليبيا وفلسطين المحتلة، فإن الهاجس الأكبر الذي يدفعها نحو الاهتمام المبالغ فيه بأفريقيا يتمثل في خطر التنين الصيني. وعلى صعيد آخر، فإن ثمة تنافسا أمريكيا واضحا مع بعض القوى الأوربية التقليدية في أفريقيا مثل فرنسا، وذلك على اقتسام الثروة والنفوذ. ففي يوليوز، أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أثناء جولته الأفريقية تدشين عملية «الهلال الرملي» الرامية إلى الإبقاء على حضور بلاده العسكري والاقتصادي في منطقة الساحل والصحراء. وطبقا لوزارة الدفاع الفرنسية، فإن عدد أفراد قوة الهلال الرملي سوف يصل إلى نحو ثلاثة آلاف جندي مزودين بمائتي مدرعة وعشرين طائرة عمودية وعشر طائرات للنقل والتموين وست طائرات مقاتلة وثلاث طائرات بدون طيار، وسوف يكون مركز قيادة هذه القوة في العاصمة التشادية نجامينا. ولا يخفى أن هذه المبادرة الفرنسية قد شدت انتباه كثير من الدول التي اكتوت بنيران الجماعات المتطرفة، كما هو الحال بالنسبة إلى كل من الجزائر وتونس، بل إن بعض الأصوات المصرية طالبت بأن يكون لمصر نصيب من هذا الهلال الرملي الفرنسي الطابع. وعلى أية حال، فإن معالم المشهد الأفريقي باتت تكرر نفس ملامح وسياقات التكالب والتدافع الدولي من أجل اكتساب النفوذ والثروة، وأحسب أن هذا الصراع الدولي الجديد قد لا يصب بالضرورة في صالح المواطن الأفريقي. كيف نفسر، مثلا، غياب الرئيس البشير عن القمة وحضور الرئيس الكيني يوهورو كينياتا على الرغم من أن كليهما متهم أمام محكمة الجنايات الدولية؟ إنها لغة المصالح الأمريكية التي تعتبر كينيا دولة محورية في شرق أفريقيا بينما يتم النظر إلى السودان بحسبانه دولة عاصية وراعية للإرهاب، وفقا للفهم الأمريكي. ما الذي تريده أفريقيا؟ لعل أحد الأهداف الكبرى لمثل هذه القمة تتمثل في محاولة تغيير الصور النمطية والقوالب الجامدة المرتبطة بأفريقيا في الإدراك الأمريكي العام، فكثير من الناس في الولاياتالمتحدة مازالوا على اعتقادهم بأن الأفارقة يسكنون الغابات ويتضورون جوعا ويعيشون مأساة العنف والحروب المسلحة. والعجيب أن صورة الولاياتالمتحدة عند الأفريقي تحمل معنى إيجابيا، حيث تهفو إليها القلوب وتصبو إليها العقول، ومع ذلك فإن القادة الأفارقة يسعون إلى الاستفادة من المبادرات الأمريكية، ولاسيما في مجال الاستثمار والحفاظ على السلم والأمن ومحاربة الأمراض. وقد استطاعت الولاياتالمتحدة من خلال وجودها العسكري (الآفريكوم) أن تجد لها موطئ قدم في عقر مناطق النفوذ الفرنسي التقليدية مثل جيبوتي والنيجر. وتمثل التهديدات التي تسببها الحروب والجريمة والإرهاب في العديد من المجتمعات الأفريقية تحديا خطيرا أمام زعماء هذه الدول، وعليه فإنهم يأملون بلورة أهداف مشتركة لبناء قدرات وطاقات بلدانهم لمجابهة هذه التهديدات التي تكون عادة عابرة للحدود ولدفع الولاياتالمتحدة نحو المشاركة في عمليات حفظ السلام التي ترعاها الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي. على أن سؤال «ما العمل؟» يظل مرتبطا بمسألة النهوض الأفريقي والاعتماد الجماعي على الذات، إذ تظل فكرة المنتديات ومؤتمرات القمة إحدى الأدوات التي تلجأ إليها القوى الكبرى لاكتساب عقول وقلوب الأفارقة، بما يحقق لها مآربها في الوصول إلى مصادر الثروة والموارد الطبيعية في أفريقيا. وعليه، فإنه ما لم ينهض الأفارقة ويحملوا على عاتقهم عبء التطور والتنمية في مجتمعاتهم، لن تجدي مثل هذه المؤتمرات والمنتديات نفعا، وإنما ستسهم في تكريس تخلف وتبعية أفريقيا، وهذا هو التحدي الأكبر.