هذه حكايات فيروز شاه وهي قصة غريبة الوجود فيها سر الأولين وعبرة للاحقين، وأخبار الأمم الماضية اعتبارا للباقين وهي قصص ينازع فيها الخيال الواقع ويتحقق المحال، وهي مستقاة من السيرة الشعبية فيروز شاه بتصرف من الكاتب، نقدمها للقارئ الكريم وبالله التوفيق. .. أما فيروز شاه فاتجه إلى الجبل عائدا حيث ترك القافلة التي رافقها إلى المدينة، فاعترضه الأمراء الذين بعثهم الشاه سرور وطلبوا منه أن يقبل ضيافته وأن يحضر الوليمة التي سيعدها الشاه سرور بمناسبة الانتصار .. فاعتذر لهم في الحال وقال لهم أن يخبروا الشاه سرور بأنه مجرد مملوك للخواجة آيان رئيس القافلة، وأنه لا يمكنه الحضور بمفرده دون إذن منه. فرجعوا إلى الشاه سرور وأخبروه بما كان من أمر فيروز شاه، فقال وهو متعجب من ما وصله من أخبار: لابد من إكرامه و ترفيع منزلته.. وطلب منهم أن يذهبوا عند الخواجة آيان وأن يأتوا به مع مملوكه.. أما فيروز شاه فقد أخبر الخواجة بما قاله للأمراء عن كونه مملوكا له.. فقال له الخواجة: ما هذا الكلام ولكن الأوفق أن تظهر نفسك للشاه سرور حتى يعرف مكانتك ويسمح لك بزواج ابنته. قال له فيروز شاه: لا يمكن أن أظهر له حقيقتي الآن، وأفضل أن يعتبرني مملوكا لأكون قريبا من عين الحياة.. فأجابه الخواجة إلى طلبه وقال له إنه سيقدمه للشاه سرور على أنه مملوك له.. تم باتوا تلك الليلة في أحسن طعام وحديث، وفي الصباح نهض فيروز شاه وركب جواده الكمين وقال لرئيس القافلة: سأتقدمكم قليلا وألقاكم قبل دخول المدينة.. وسار مقدار نصف ساعة حتى وصل إلى شجرة كبيرة وجلس عندها قليلا فلاحت منه التفاتة فرأى جماعة من العساكر مقدار نحو ألف فارس يسيرون جهة المدينة، فتعجب من أحوالهم خاصة وقد رآهم كلهم على خلقة واحد فكل واحد عظيم الهيكل كبير الرأس.. ولما رأوه متجها نحو المدينة اقترب منه واحد منهم وسأله هل هو من جماعة الشاه سرور... وسألهم فيروز شاه عن غرضهم من القدوم إلى المدينة فقالوا إنهم جاؤوا لنصرة الشاه سرور، وأن غاية سيدهم هو الزواج بعين الحياة.. فلما سمع فيروز شاه ذلك الكلام صار الضياء في عينه ظلاما وهاج كما تهيج فحول الجمال، ولم يطق صبرا وضرب السائل بالحسام وعجل بموته وما أمهله، واخترق أولائك الفرسان والعساكر بالسيف والحسام، كما يخترق الذئب الجائع الخرفان، وأعمل فيهم السيف.. وفي تلك الساعة وصل فرخو زاد فوجد فيروز شاه في أشد نزال، فحمل بدوره على الفرسان، وبقي القتال إلى آخر النهار حتى أبادوهم عن آخرهم فمات من مات وفر من فر في البر والبحر، ولم يبق لهم من ذكر ولا خبر .. أما فرخو زاد فإنه اجتمع بفيروز شاه وحكى له بالاختصار كل ما جرى وصار، وقال له فيروز شاه أطلب منك أن لا تذكرني باسمي ولا تظهر أمري خوفا من أن أحرم من النظر إلى عين الحياة فأجابه إلى ذلك.. و في تلك الساعة أقبل عليهما الخواجة آيان رئيس القافلة وكان قد أوصل الأحمال والبضائع إلى عين الحياة، وقابل الشاه سرور، فقال لهما: اعلما أن الشاه سرور بعثني إليكما مع هؤلاء الأمراء لنقوم بخدمتكما وهو يدعوكما إليه لأنه سر منكما سرورا عظيما وهو يريد أن يكرمكما ويقيم لكما احتفالا يليق بمقامكما.. أسرع الخواجة آيان إلى الشاه سرور وأخبره بما جرى وصار من أمر فيروز شاه وكيف دافع عن ابنته عين الحياة وهاجم ألف فارس من الزنوج وقتل كبيرهم، وأنه سيدخل المدينة هو وفرخو زاد بعد قليل ويتقدما إلى مجلسه .. فتعجب الشاه سرور وفرح فرحا شديدا ما عليه من مزيد وقال لوزيره : لولاه لكنا هلكنا وأنا أتعجب من كونه مجرد مملوك للخواجة، لذلك لا بد أن نجازيه على فعله بترفيع منزلته .. و في تلك الساعة دخل الخواجة فقال له الشاه سرور: أراك وحدك فأين مملوكك فإني مشتاق إلى أن أراه.. فقال له: ينتظر أمرك بالمثول .. فأمر له بالدخول فدخل وأدى فروض التحية، ثم أمر له بالجلوس فجلس، وأكرمه إكراما زائدا، فأخبره الخواجة كيف اشتراه من بلاد اليونان لخدمة عين الحياة وكيف أنقذ القافلة عدة مرات من الزنوج ومن قطاع الطريق.. فقال الشاه سرور: قد جعلته منذ الآن بهلوان مملكتي وغفيرها مع فرخو زاد، وأعطيتهما مكانا معتبرا داخل قصري، ويقوم على خدمتهما فيه الخدم والحشم.. ثم أمر بإحضار العبدين العاصيين له قاطر وقطير، وأراد أن ينتقم منهما فقال له فيروز شاه: أسألك أن تعفو عنهما من أجلي. فأطلقهما الشاه سرور إكراما له.. وفي الحال كتب الشاه سرور إلى ابنته عين الحياة كيف جاء الخواجة بالبضائع المطلوبة و جاء معه لخدمتها بمملوك فارس لا مثيل له .. وبعد ذلك أحضر الشاه سرور الأموال، وأعطى كل من كان حاضرا على حسب قدره، وأنعم على الخواجة وفيروز شاه بالكثير فرفض فيروز شاه أخذ الأموال ووزعها على الأمراء وأعطاهم من الجواهر التي معه.. فتعجب الشاه سرور غاية العجب وقال لوزيره: من أين له هذه الجواهر.. وبعد ذلك انصرف فرخو زاد وفيروز شاه إلى القصر المعد لهما وهما في غاية الفرح والسرور.. أما ما كان من عين الحياة فلما وصلتها رسالة أبيها انشغلت بأمر الفارس ودعت خادمتها وقالت: إن الصفات التي ذكرها أبي في رسالته تشبه صفات صاحب الصور التي وصلتنا، وربما كان هو وما جاء إلى هذه البلاد إلا من أجلي .. وبينما هي على تلك الحال دخل عليها أبوها وأخبرها بما كان من أمر فيروز شاه وما فعله من أجل إنقاذ مملكته.. فقالت له: وأين هذا الفارس؟ فمثله ينبغي أن يكرم ويدخر عند الحاجة... قال لها الشاه سرور: قد فعلت ذلك وعينت له مكانا داخل قصرنا مع رفيق له يدعى فرخو زاد.. فتأكد لعين الحياة أنه ما جاء إلا من أجلها، فقالت لأبيها: نريد منك أن تكافئ الخواجة آيان الذي أتى به وتجعله وزيرا.. فقبل ذلك وعينه وزيرا أصغر.. ولما انصرف أبوها دعت خادمتها ولبستا ملابس الرجال وتقلدتا بالسلاح وخرجتا وسارتا على السطوح حتى وصلتا إلى المكان الذي يقيم فيف فيروز شاه.. وطافت عين الحياة حول شبابيك الغرف فوقعت عيناها على فيروز شاه وفرخو زاد نائمين كل واحد في فراشه وقالت لخادمتها: أليس هذا صاحب الصور.. قالت لها: بلى يا سيدتي هو بعينه.. ثم عادتا من حيث أتتا وفي طريق عودتهما اعترضهما أحد الحراس فضربته عين الحياة بالسيف وقضت عليه.. ولما عادت عين الحياة إلى غرفتها أمعنت في تأمل الصور فتأكد لها أن الذي رأته هو فعلا صاحب الصور، ثم نامت في فراشها تعبة مما قامت به هذه الليلة منتظرة ما يكون في الليلة القادمة. د محمد فخرالدين