منذ أيام معاوية بن أبي سفيان والحملات تتوالى على القسطنطينية. ظلت حلما يراود الفاتحين المسلمين قرونا طويلة لمجموعة من الأسباب لعل أهمها على الإطلاق رغبة الأمراء المسلمين في إحراز شرف فتحها. كل منهم تمنى أن يتحقق فيه حديث رسول الله (ص): «لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش». ومن الأسباب التي كانت محفزة لهم أيضا على تجييش الجيوش وإرسالها إليها أهميتها الاستراتيجية، فهي عاصمة الدولة البيزنطية، التي قيل عنها: لو أن للعالم عاصمة واحدة فليس أجدر بهذا الفضل من القسطنطينية. ظلت هذه المدينة مستعصية على الفاتحين إلى أن كان زمن محمد الفاتح، السلطان السابع من آل عثمان، فتحقق الحلم. وقد كان محمد الفاتح رجلا بمواصفات استثنائية أهلته للقيام بعمل جليل عجز عنه الأمويون والعباسيون من قبله. نشأ الفاتح في مدرسة الأمراء وساهمت تربية العلماء في صقل مواهبه وبث روح الكفاح والنضال في داخله، وقد سكنته نبوءة الفتح منذ الصغر، وقيل إن أثر العالم أحمد بن إسماعيل الكوراني كان كبيرا في تكوين شخصيته، فقد كان رجلا ذا مهابة، وكان مراد الثاني والد الفاتح نفسه ينحني لتقبيل يده إذا التقى به. ولهذا لم يكن يتوانى في ضرب الفاتح ضربا شديدا إذا رأى من داع لذلك. كما كان للشيخ آق شمس الدين أثر حاسم في تحفيز همة الفاتح، فقد كان يوحي له منذ الصغر أنه المقصود بحديث الرسول الكريم. مارس الفاتح السياسة وعرك أهوالها منذ نعومة أظافره وخبر حياة الجندية وشظف عيشها، فبرزت بذلك مواهبه القيادية، وكان أول عمل سيقوم به، في سياق سعيه إلى فتح القسطنطينية التي راودت أحلامه منذ الصبا، بناء قلعة «روملي حصار» على مضيق البوسفور، فأصبحت القسطنطينية على بعد سبعمائة متر منه فقط، وصارت كل السفن التي تعبر البوسفور تحت رحمته. وقد حاول الإمبراطور البيزنطي ثنيه عن تلك الخطوة بشتى الطرق، ووعده بأموال طائلة تصرفها له الإمبراطورية البيزنطية فأبى. وضع الفاتح برنامجا صارما للوصول إلى غايته، مما يدل على نباهته وحكمته. فقد اهتم أولا بتحديث أسلحته ودعم تطوير المدفعية، ومول صناعة المدفع السلطاني الذي يزن مئات الأطنان، واهتم بإنشاء الأساطيل البحرية التي ستعينه في الحصار، فبلغت أساطيله أربعمائة سفينة حربية مجهزة بما يلزم من عتاد حربي، ثم انتقل إلى عقد الهدنة مع خصومه، فعقد معاهدات مع المجر وإمارة البندقية وغيرها من الإمارات ليتفرغ لحصار القسطنطينية، دون أن يترك شيئا للصدف. كانت القسطنطينية منيعة محاطة بالأسوار، فضلا عن تحصيناتها الطبيعية التي تزيدها منعة، فهي محاطة بالمياه من جهة البوسفور وشاطئ مرمرة، ومن جهة القرن الذهبي تنتصب حولها الجبال، فكان من الصعب اختراقها. وفي يوم الخميس 26 ربيع الأول عام 857ه الموافق ل1453م وقف محمد الفاتح خطيبا في جيش جرار قوامه مائتان وخمسون ألف جندي فبشرهم بالفتح بعد أن تلا عليهم حديث رسول الله عن الجيش الذي سيفتح المدينة، ونصب المدافع ثم أحكم حصار القسطنطينية وانطلق في تنفيذ مشروع ظل مؤجلا طيلة ثمانية قرون. وقد تدفقت على المدينة أفواج من الفرسان الأوروبيين الذين حركتهم حمية الدين فاسترخصوا أنفسهم في سبيل معتقدهم. وقد نقل المؤرخون صورا تنضح بالبطولة سطرها البيزنطيون في الدفاع عن مدينتهم. كما نقلوا عن استماتة محمد الفاتح ورجاله في الحصار ما يثير الدهشة، فقد أفلح الفاتح في مفاجأة عدوه بهجوم مباغت من جهة القرن الذهبي واستطاع بطريقة عبقرية أن يجر سفنه في البر بدل البحر. يقول أحد المؤرخين البيزنطيين: « ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار، وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلا من الأمواج. لقد فاق بهذا العمل الإسكندر الأكبر». كان البيزنطيون قد اطمأنوا إلى منعة جبهة القرن الذهبي التي تحميها الجبال فارتبكوا لما هاجمهم الفاتح منها واختلت دفاعاتهم. وقد كان الفاتح قائدا فذا مبدعا، فما لبث بعد خطة السفن تلك أن حفر الأنفاق حول القسطنطينية ودفع الجنود فيها للقضاء على عدوهم وصنع أبراجا عالية يفوق علوها علو الأسوار لتسلق مراكز دفاع خصومه. ولما صار الفتح قاب قوسين أو أدنى من الفاتح أرسل إلى خصمه يدعوه إلى تسليم المدينة، والخروج منها بسلام، وأكد له أنه سيحقن دماء الناس بالقسطنطينية، وأنه سيسمح لهم بالبقاء فيها إن شاؤوا، فكان رد الإمبراطور دالا على نبله وبطولته، إذ آثر الدفاع عن مدينته إلى الرمق الأخير، وفضل أن يدفن تحت أسوارها، فأجابه الفاتح بلهجة الواثق: «عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر». كان صراعا بين إرادتين يقف خلفهما بطلان لا يرضى أي منهما بالهزيمة. وقبل المعركة الفاصلة جمع الفاتح قادة جيشه وأحضر الشيخين الكوراني وآق شمس الدين فألهبا حماس رجاله، وحثاهم على الثبات. فيما انصرف إمبراطور القسطنطينية إلى كنيسة أيا صوفيا، فودع رجاله وأخبرهم أنه عقد العزم على الموت مدافعا عن مدينته، فأبكى كل من حضر. وكان اللقاء على أسوار القسطنطينية بين البطلين. كلاهما كان في مقدمة جيشه، وقد قتل قسطنطين في المعركة وفاز الفاتح بمجد دخول القسطنطينية وحرص على أن يحفظ للرهبان مكانتهم، وأن يتركهم وما نذروا أنفسهم له. كما أوصى رجاله بالرفق بالمستضعفين والنساء والشيوخ وسائر الذين لم يحملوا السلاح في وجه جنوده، والحق أن مآثر الفاتح كثيرة يضيق المقام بذكرها جميعا، ولكن أجلها على الإطلاق تحقيقه أملا راود العشرات من القادة قبله وانكسرت دونه جيوش وحملات عديدة. يوسف الحلوي