فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اسطنبول: فتنة البَيْن والعين
نشر في العلم يوم 02 - 01 - 2012

لقد مرت ثلاثة أرباع الساعة، لم يبق ( والله أعلم) إلا الربع؟! نحو خط الوصول!!بالنسبة للكاتب، كاد أن يكون قبل هذه اللحظة، أشواطا إضافية إذن؟! لولا الألطاف الإلهية..فيما تبقى يقول المرء لنفسه ولرفيقة دربه، ينبغي تكثيف الإيقاع، لم يعد هناك وقت للضياع..فهل عرف المرء الدنيا؟ أم سمع بها؟ هل استمتع أم امتنع؟ فهناك من سمع بها فقط (وهم كثر)، قضى عمره في حيز صغير، كادحا، شقيا، فقيرا، مريضا، معدما، فهل عرف الدنيا؟ قبل أن يتهيأ له أو يزعم معرفة الأخرى؟ لعله صراع بين الذين يعرفون( يحيون) والذين لا يعرفون ( يعيشون فقط) في هذا النهائي..بين تأجيل الحياة وتحيينها هنا والآن..فهل يتعلق الأمر بمسارين منفصلين أم بمسار واحد متصل فيه ما هو دنيوي وما هو ديني، ماهو آني عيني، وما هو مؤجل ميتافيزيقي؟ لعله السؤال الذي سال حوله مداد كثير في العالم العربي منذ اجتهادات علي عبد الرازق في الخمسينيات من القرن الماضي، وكيف فصل بين الدين باعتباره أمرا إلهيا، والدولة باعتبارها أمرا دنيويا، بين محمد رسولا للعالمين فيما يخص كلية الأحكام الشرعية وتبليغ رسالة الوحي، وما بين محمد رئيسا للدولة المحمدية..وكم اجتهد المعتزلة من قبل، عندما فصلوا بين منسوب الحرية في السلوك الإنساني بما في ذلك سلوك الرسول، فقد فصلوا ما بين محمد " ص" رسولا مسيرا، ومحمد إنسانا مخيرا..
لم يقتصر الأتراك على الجدل النظري بل إن مصطفى أتاتورك كان قد حسم الأمر عمليا، قبل الإجتهادات العربية الحديثة بتأسيس جمهورية علمانية في بداية القرن العشرين ( 1921) تفصل بين مقتضيات الدين ونواميس السياسة على صعيد تدبير الكوكب التركي...هكذا أتفكر الآن في الطائرة نحو إسطنبول برفقة ثورية رفيقة العمر، في اليوم العاشر من الشهر الثامن في السنة الحادية عشرة من القرن الواحد والعشرين عبر الخطوط التركية Turkish Airlines التي تضاهي الخطوط العالمية، على الأقل، تلك الخطوط التي عرفتها كالخطوط الأمريكية والفرنسية والألمانية والهولاندية..على امتداد أربع ساعات ونصف من الطيران انطلاقا من مطار محمد الخامس بالدار البيضاء.
عندما تطأ قدماك مطار أتاتورك الدولي تنتابك الدهشة، والدهشة أساس الإكتشاف، فالمطار فسيح وحديث، ومجهز بأحدث الأجهزة التكنولوجية، ويتوفر على رأسمال بشري في غاية الخدمة والإستقبال..تزداد دهشتك وأنت في الطريق إلى فندق ايليد وورد بريستيج Elite World prestige الذي يقع بالشارع رقم 40 بمنطقة التكسيم حيث يقام النصب الجمهوري، والذي يجسده بشكل لافت مصطفى كمال أتاتورك إلى جانب رفاقه والجنود، على ارتفاع 11 متر، وهو مصنوع من مرمر إيطالي بلونين: أخضر وأحمر(1).
إن ما يكحل العين ويدهشها أكثر هو هذا البين كفتنة حقيقية، والذي يتشكل في مدينة اسطنبول، هذا البين بصيغة الجمع، والذي تجد له تجليات ودلالات، فالبين في المدينة ليس فقط ذلك المجال أو الحيز ما بين حدين أو نقطتين( البين :Entre ). وإنما البين ملتقى، حرف عطف، جسر، جمع وتأليف بين أشياء وحوادث وظواهر و فضاءات، وملامح ووجوه، البين وسط، البين مشترك، البين برزخ، برازخ أرضية، جغرافيا، حضارة، حياة، أفكار، إيديولوجيات، جمال، ملكيات إنه سر العين، سر الفتنة والجمال في هذه المدينة..يبدأ ( بالنسبة لي ) من المجسم إلى العيني والمعيش والماثل واليومي، من المجسم انطلاقا من حديقة مينياتيرك (Minia Turk)، كمفتاح (Legende) للترحال في المدينة واختيار الفضاءات أو المآثر، حيث فكرت بلدية اسطنبول بطريقة في غاية الذكاء، فخصصت 60 ألف متر مربع لمجسمات ومآثر تركيا بصفة عامة واسطنبول بصفة خاصة، فضلا عن مجسمات تركية خارج القطر. إن هذه المينيا تورك أو ( تركيا بشكل مصغر) تشكل معلمة في حد ذاتها يدخل إليها الزائر عبر حجز تذكرة، حسب اللغة التي يود التواصل بها فيسمع نبذة عن المجسم ( مأثر أو معلمة)..وهكذا يمكن أن يتعرف على كل معالم ومآثر ومنشآت الأناضول واسطنبول ما بين مدارس وثانويات وكليات ومساجد وجوامع وأضرحة وقصور وجسور وبروج وحصون وكنائس وحمامات وأعمدة ومنارات وأحواض ومتاحف ومعابد ونبوع ومذابح وحارات و أسوار وأبواب..ومنشآت عصرية دالة كمطار أتاتورك وملعب كرة القدم ومحطة السكك الحديدية...فهل يستطيع المرء أن يدركها في الواقع؟ كما هي ماثلة للعيان؟ في مدينة اسطنبول التي تحتضن وحدها ثمانية وأربعون معلمة وأثرا، حيث تشكل أكثر من 50/? من معالم وآثار تركيا كلها؟؟
هل يمكن القبض على هذه الوفرة من الفضاءات والأمكنة والأزمنة والعصور..في هذا العبور؟ كيف يمكن أن تعبر المدينة وتقرأها وتترحل فيها في زمن قصير؟ لا يمكن ? فيما أحسب- إلا وفق براديغم جمالي يكحل العين، أو هكذا أظن وأنظر، إلا وفق البين، أو البيني سواء بالمفرد أو بالجمع، سواء المخفي أو البين ( بفتح الباء وكسر الياء وتشديدها) هذا البين الفاتن حقا:
1- بين حضارات
وأنت تتجول في إسطانبول اليوم، تجدها عملاقة، شامخة، حوالي 16 مليون نسمة تحيا في الماضي السحيق والماضي القريب، الراهن، تحمل أسماء وأيقونات فبيزنطانا عاصمة البيزنطيين مازالت حاضرة في المجال العمراني والمجال الجغرافي، ما زالت الأسوار البيزنطية قائمة، شاهدة على عصر، على زمن، مازال معلم " أيا صوفيا" مثلا معلما بيزنطيا بارزا، يقع في ساحة السلطان أحمد، الذي تم تشييده في 537م، مازال المعلم البيزنطي الأشهر في إسطنبول عنوان إمبراطورية شرق روما، والذي أدخلت عليه تعديلات في الزمن العثماني، والذي أصبح متحفا، منذ 1934(2)، لا مندوحة عن زيارته، قبلة للوافدين الذين يتدفقون من أجل الإستلذاذ التاريخي والثقافي والحضاري...ومازالت القسطنطينية العاصمة العثمانية حاضرة بشكل مكثف في قصر توب قابي Top Kapi، هذا القصر ( المتحف الكبير) الذي شيد مابين 1460-1468 في زمن السلطان العثماني محمد الفاتح، ومنذ هذا القرن ( الخامس عشر) إلى القرن التاسع عشر، عاش فيه 24 سلطانا مع أزواجهم وأولادهم ومساعديهم من الخدم(3) فيه رصد لمختلف مظاهر حياتهم بدءا من الألبسة إلى أواني الطبخ، إلى مختلف الحلي والمجوهرات إلى قاعات الإجتماعات واتخاذ القرارات، إلى الحمامات والمكتبات ( كمكتبة السلطان العثماني أحمد الثالث التي أنشأت في عام 1719) إلى غرفة الختان إلى مختلف الحدائق والقصور كقصر العدالة، وقصر بغداد، وقصر مصطفى باشا وقصر المجيدية وقصر محمد الفاتح الذي شيد ما بين 1462-1463(4)..لا يستطيع الزائر أن يعبر كل فناءات وأقسام وأجزاء هذا المتحف الكبير في يوم واحد، قد يصيبه العياء حقا، إلا أنه لا يستطيع أن يقاوم الرغبة المزدحمة نحو رؤية ومشاهدة كل جوانب المتحف، هذه المعلمة الكبرى حقا والتي تزورها جيوش من السائحين، خاصة من اليونان، وقبرص والألمان والأمريكان، والعرب، خاصة دول الخليج والمغرب العربي، أغلب هؤلاء يريد أن يسترجع تاريخا مضى، لامبراطورية كانت مترامية الأطراف، تشمل العالم العربي، والعالم الإسلامي، ماعدا المغرب والفرس(ايران) وجزءا كبيرا من أوربا، معلمة تلخص قرونا من الحياة والوقائع والحوادث والتفاصيل...لا يحتوي هذا القصر على حياة السلاطين، بل وأيضا على بعض المآثر البيزنطية فضلا عن بعض المقدسات، كالقدم الشريف، وتحديدا أثر قدم الرسول(ص) على الحجارة التي صعدها في ليلة المعراج(5).
ليس قصر طوب كابي هو الذي يعكس حياة السلاطين العثمانيين، ومستوى التحضر الذين بلغته الإمبراطورية العثمانية، بل هناك مآثر أخرى، مازالت قائمة في المدينة كقصر السلطان عبد المجيد (من أواخر السلاطين العثمانيين) والذي يعكس تفاصيل الحياة السياسية والثقافية والحضارية في عهد هذا السلطان العثماني..إن الحضارة الإسلامية ماثلة للعيان، في كل ربوع اسطنبول، خاصة المساجد والجوامع، كمسجد السلطان أيوب والذي بني من طرف السلطان محمد الثاني فاتح مدينة اسطنبول، والذي بني في ذات المكان الذي استشهد فيه الصحابي الجليل أيوب الأنصاري أثناء حصار اسطنبول، والذي يغص بدوره بالزائرين، عربا وأجانب، ويضفي عليه كثير من الزوار المسلمين طابعا تقديسيا ( المستشف من مكان الإستشهاد واعتبارية المستشهد) لا أنسى، أن كل مكان من هذه الأمكنة، مجهز بما يليق من مطاعم ومقاهي ومتاجر، من أجل أخذ جرعة من الراحة أو تلبية حاجة المعدة..وتلبية الحاجات الرمزية من كتب ودلائل ( ج دليل) وخرائط وبيانات وبيبليوغرافيا كتب حول مدينة اسطنبول..لعلها سياسة مدروسة من أجل الإستجلاب حيث يمكن أن أزعم بأن المدينة قبلة واسعة وكثيفة ومكثفة للسائحين من بلاد المعمور، لاشك أنها تحتل مواقع متقدمة في الجاذبية السياحية والثقافية.
إن المدينة تحيا اليوم في هذا البين الإسلامي والبيزنطي والروماني، لكنها ليست قديمة أو تعيش في قدامة أو على إيقاع زمن فائت وماضوية ميتة، بل أن هذا الماضي هو روح المدينة، يعطي لاسطنبول نكهة مخصوصة، فأنت أمام مدينة بروح عالية، وليس أمام مدينة إسمنتية طارئة؛ لأن العمارة في المدينة لا تخلو من ملامح الحداثة الأوروبية وجماليتها كما لا تخلو ? في ذات الوقت- من لمسات شرقية وإسلامية؛ جمالية تقوم على البين، فترتاح العين، فلا الأعناق تشرئب عاليا وأنت تنظر من الأرض، ولا الأعين تصدم بجبروت الإسمنت ووحشيته وأنت تشاهد المدينة من نافذة غرفة الفندق رقم 1603 من الطابق السادس فالعلو ليس متطرفا أمامك بل وعلى امتداد المدى الذي يجول به بصرك، تبدو لك العمارات ناعسات بسطوح مكسوة بقرميد أحمر..بحث دائم عن كينونة مخصوصة وانتماء يتيم إلى الجمال والعمران والإنسان، دون أن يمنع المدينة من الجري حتى تتلاحق الأنفاس من أجل التحديث، ومن أجل حداثة ندية على الطراز الأوربي والغربي، بل قل إنها تضاهيها أو تحيا في حضرتها أو أن منسوب الحداثة أكثر من غيرها خاصة على مستوى المواصلات كالترامواي والمترو والمتروباص كأسرع وسيلة نقل داخل المدينة. إن خصيصة البين قد يلمسها العابر في هذه المواصلات من حيث الإستعمال بشكل خاص، فأنت تستعمل كل وسائل المواصلات البرية والبحرية والجوية في اليوم الواحد وهكذا فأنت تنتقل بحرا عبر البواخر إلى الجزر ومضيق بوزفور (Bosphore) وتنتقل جوا عبر التيليفريك نحو مقهى بيير لوطي(Pierre lotti) التي تقع في أعلى جبل، تطل على كل المدينة، فاحتساء قهوة يمكنك من تلبية شهوة الإستمتاع بإسطنبول من أعلى لتراها بين أحضان الجمال و الحضارة والطبيعة؛ كما أنك تستعمل كل وسائل النقل البري من حافلات أو طاكسيات أو مترو وترامواي..بل وحتى الوسائل التقليدية كالعربات المجرورة بحصان وأنت تتجول في جزيرة من الجزر المحيطة بالمدينة.
2) بين جغرافيات
إن ما يزيد هذا البين بهاء وفرادة، هو موقع المدينة وملمحها الجغرافي البيني، عنوان هذا البين مضيق بوزفور(Bosphore) الذي يقع بين قارتين: آسيا وأوربا، فالبين هنا جسر، إسطنبول جسر بين قارتين، بين شطرين..أسيوي وأوروبي، الأمر الذي ينعكس على الملامح العمرانية والثقافية والجمالية، فتشكل اسطنبول هذا البين القاري، أو المزيج القاري، الحضاري الثقافي بالتأكيد، هذا المزيج بين الشرق والغرب حيث يتجلى الأمر بوضوح في الرقص والغناء، ففي تلك السهرة الغنائية والفنية على متن الباخرة نحو مضيق بوزفور يوم الأحد، في اليوم الرابع عشر من الشهر الثامن من سنة العبور ، والتي امتدت أربع ساعات قدم فيها الاسطنبوليون منتوجا ثقافيا وسياحيا من خلال الرقص الشرقي لتلك الراقصة السمراء بجمالية الإرتداء الشرقي، وشعرية التواء الجسد وانثناءاته وحركاته..الإيروسية، فضلا عن إيقاع الأغاني، التي لا يخلو نغمها، بل والآلات المستعملة من التماهي مع الموسيقى العربية والمغربية؟ فهل هو تناص هجين، تناص تفاعلي، نوسطالجيا فنية؟ أم بلاجيا ( قرصنة) من "ملحنين" يتسوقون في هذه السوق أو تلك، في هذا الإتجاه أو ذاك؟ لعل الدراسات الفنية المختصة كفيلة بالكشف عن الأثيل من الألحان والموسيقات بين العالم العربي ( المغرب بالخصوص) وتركيا ..فالرقص هنا كما الحب يوحد بين الأجناس والأعراق والقارات، فالكل يرقص على سطح الباخرة، فالأجساد تتآلف والأجناس تتعاشر لغة واحدة كونية، هي حركة الجسد " فالكل يحرك جسده بالطريقة التي يريد، ويستطيع، حسب ما يعتقد بأنه يتناغم مع لغة الإيقاع والموسيقى" الكل يقلد الكل، والكل يقلد الإيقاع، الشرق عنوان والرقص إنسان..ربما تأسيسا على هذا الملمح الشرقي" . بدأت تركيا تحضر في الفضائيات العربية على صعيد الدراما والوجوه والأسماء...فهل هو عصر الإنبعاث؟ عصر البين بين الماضي و الراهن، بين الأثيل والحديث، بين التراثي والحداثي ؟ بين فضاء جغرافي يساعد في تصوير الأفلام والمسلسلات، حيث أثار انتباهنا المرشد إلى المنزل الذي صور فيه ذلك "العشق الممنوع"!! تمتد هذه البينية الجغرافية إلى البين بين البر والبحر، فالمدينة تخترقها بحور كبحر المرمرة وبحر خليج القرن الذهبي والبحر الأسود...فالزائر، يمتطي البواخر، من أجل العبور إلى بوزفور، إلى الجزر الأربعة: كيفا لماذا و بوغاز وهيبلة و بريكدا (الأميرات)، لم نر إلا جزيرة الأميرات، ولقد سميت بهذا الإسم لأنها كانت جزيرة ترتادها الأميرات العثمانيات، من أجل الفسحة والإستجمام بعيدا عن الأعين والعوام، حريم المرأة والمكان؛ وهي جزيرة على صغرها، تجد فيها كل ما تطلب خاصة طواجين السمك المختلفة، المعروضة على طولها في مطاعم مخصوصة تغري بالجلوس على حافة البحر والطعام من جوفه.
لقد دأبنا هنا في المغرب على توصيف مدننا ما بين الساحلية والجبلية والصحراوية..إلا أن اسطنبول، بحكم بينيتها، فهي بين حقا، بين البحور والغابات والأنهار والجبال، تلفها من كل جانب، " فهي محاطة بالغابات ومن أهم مناطق الغابات هي غابة بلغراد التي تقع على بعد 20 كلم شمالا"(6)، ومن الجبال الشهيرة، التي تطل على المدينة، جبل العرائس، وهو جبل ساحر حقا، ولقد سمي كذلك حسب ما أسر لي مرافقنا التركي ( صادق) بأنه سمي لأن المخيال الشعبي التركي، يعتقد بأنه من ذهب إلى هذا الجبل وغذى عروسه قبل مراسم العرس، وقضى اليوم كله بين أشجاره الوارفة، التي تتخللها مقاعد خشبية جميلة من أجل الجلوس، فقد يستجيب الله لدعائه، بأن يهبه ذرية شقراء، لست أدري كيف أن اللون الأشقر مفضل عند التركي والتركية؟ فهل يعود الأمر إلى رغبة في " التحرر" من سحنات الإنسان الشرقي إلى الإنسان الأوربي؟ مع ما يحمل هذا الفرق من نسبية؟ وإن كانت البشرة التركية بينية أيضا، ما بين اللون الأشقر (أوروبا) واللون الأصفر (آسيا) لون تستطيع أن تميز به التركي، هل البشرة الشقراء أقوى اعتبارا وجمالا من غيرها؟ يسمى الجبل بالعرائس، وهناك من يسميه جبل الزهور، نظرا لكثرة الزهور فيه، وهناك من يسميه جبل العشاق، وهو مكان للإستعراض الرومانسي..حيث تزدهر تجارة الزهور التي "تمتهنها" النساء في الجبل، بين الزوار الجالسين على المقاعد الخشبية من أجل تبادل ورود الغرام، أو الجالسين في المقاهي والمطاعم المنتشرة في المكان، والتي تطل على سحر اسطنبول، كل اسطنبول.
3) بين حيوات
وأنت تجوب شارع الإستقلال، كأطول شارع في اسطنبول، عامر بالحيوية البشرية، وعامر بالمتاجر المختلفة والخدمات، وعامر بالمطاعم و المقاهي بدون شرفات، كما هو الشأن هنا، الشارع للراجلين في مطلق حريتهم، لا تزعجهم كراسي ممدودة أو زاحفة على المكان، حالة مغربية ولبنانية فيما شاهدت، فالشارع يحتفي بالراجلين لا غير، وأنت تجوب هذا الشارع الأنيق، لا تشاهد تحرشا بالمرأة ولا معاكسة ولا نباح من وراء..كما أكدت لي زوجتي، وشهادة المرأة لها مصداقية وصدى، المرأة هنا حققت كينونتها الإنسانية بعيدا عن الليبيدو الذكوري، تحتفي بأنوثتها بالطريقة التي تريد عبر لغات للجسد وشعريات للإرتداء فهي تكشف عن كتف أو كتفين، أو عن مجمل ظهرها، عن جيب نهدها، عن صدرها النافر أو الضامر، عن نهد واحد موشوم دون الآخر؛ بين وشم ولحم بين هدهداتهما، بحث عن جمالية مضاعفة بين الطبيعي والثقافي، بين قدود فارعة وأرداف مكتنزة، سبحان من سواها بهذا البديع، بين الجسد وغواية الجسد..قد تعيش لحظات عميقة، إذا كانت عاشقة في تقبيل أو عناق مرافقها، لا أحد يبالي بما يدور حوله، لا أحد يمعن النظر والتبركيك..لا أرى متحجبات في هذا الشارع وهذا لا يعني العدم، بل إنك عندما تزور المسجد الأزرق، أو مسجد الانصاري..فإنك تجدهن كثيرات كثيرات، لا تلمح السافرات في هذه المقامات، تحيا المرأة بين إسرار الجسد و اللباس، بين إسرار/ إخفاء، كما إسرار/ إفشاء، ما بين كمون الممتلكات أو الكشف عما تيسر منها. إن المرأة هنا، حققت في ظل الدولة المدنية حقوقا مازالت الحركة النسائية في العالم العربي تناضل من أجلها، فالمرأة التركية لها نصف ثروة الرجل سواء عند الطلاق أو الوفاة...إن خضوعها لقوانين الجمهورية، جعل السؤال حول مدى ملاءمة النصوص المقدسة مع المناصفة أو المساواة الإقتصادية، ( في الإرث مثلا) جعل هذا السؤال غير ذي موضوع...رغم ذلك هناك نساء يطالبن بحكم الشريعة والعودة إلى الدولة الدينية تحت عنوان الإسلام، مد وجزر ما بين المطالبة بإلغاء العلمانية والتأكيد على ضرورة استمراريتها وفق ثورة مصطفى أتاتورك، ما بين ثوابت الجمهورية، وما بين متغيرات الواقع السياسي وطموحات الفاعل السياسي الايديو- إسلامي،،، إن العودة إلى إعادة انتاج اشكالية علاقة الديني بالدنيوي،،، والدولة المدنية أو العلمانية ومفهوم الدولة الدينية جعل الحركة الإسلامية التركية الحاكمة اليوم، تدرك مدى صعوبة الحسم أو الإنتصار بالكامل لطرف دون الآخر، مما جعل رئيس الحكومة الحالي اردوغان يتحول من مريد للشيخ اربكان رائد ومؤسس التيار الإسلامي، إلى منشق عليه، إنه نوع من البينية السياسية، فهناك تعامل مع العلمانية وفي ذات الوقت هناك ترويج للإسلامية، بين الإنفتاح على الغرب الأوربي، والدعم لقضايا العرب والمسلمين، أو هكذا يجمع اردوغان بين اسلامية الأسلاف وعلمانية الخصوم(7) فإلى أي حد تعتبر هذه البينية أو هذا البين مخرجا من مخارج الإشكال الذي مازال مطروحا في العالم العربي والإسلامي وهو: هل فصل الدين عن الدولة فرض عين ؟ مدخل ضروري لا للتحديث، وإنما للحداثة كمضمون ورؤيا للعالم؟ هل يمكن الحديث عن حداثة دينية؟ هل يمكن الإقتداء بالنموذج التركي؟ خاصة وأن بعض المثقفين الحداثيين العرب يرون الفصل بين الدين والدولة العربية فرض عين لا يمكن بناء مجتمع جديد في سوريا أو في أي مجتمع عربي آخر إلا بالفصل الكامل بين الدين والدولة على جميع المستويات الدينية والإجتماعية والثقافية والسياسية..)(8) لقد كنت دائما أتساءل عن امكانية العلمانية كحياة في مجتمع إسلامي، ولعل زيارة تركيا في هذا الشهر الفضيل، جعلني أركز كل حواسي وملاحظاتي من أجل رصد موضوعي للحياة، حياة الناس في هذا الشهر، وتحديدا كيف يمكن الإفطار علنيا والصيام " علنيا" أيضا؟ في مجتمع مسلم؟ فكل أبواب المقاهي والمطاعم مفتوحة لا توقيت إداري خاص برمضان، يمكن للمرء أن يحتسي قهوة أو يدخن في الشارع العام" أو يفعل ما يريد، لا مجال هنا للترمضينة كحالة فلكلورية أو سرك بهلواني أو جذبات سوريالية في الأسواق خاصة بعد الظهيرة والزوال؟ لا مكان لفرجة ملتبسة، عندما تسمع الآذان (بالعربية) يذهب الناس إلى المساجد، وخاصة عندما يؤذن المغرب، يهرول الكثير منهم نحو الصلاة فالمساجد ملآى، مزدحمة فقد يتساءل المرء حقا، أين كانت هذه الجماهير الغفيرة؟ فهل أنت أمام شعبين أم شعب واحد؟ قد يتساءل المرء عن هذه البينية أيضا عن هاته الحيوات المختلفة، لقد علق مرافقنا وهو تركي متزوج بسورية من مدينة حلب، هو يفطر وهي تصوم ( زوج: مختلف) بأن المؤمن الحقيقي هو الذي لا ينتظر حتى تغلق المطاعم والمقاهي، ويوضع له توقيت خاص...المؤمن الحقيقي هو الذي يصوم بلغة تيولوجية أو يمتنع عن الأكل والشرب وممارسة الجنس بلغة موضوعية، ويترك الدنيا على حالها،.دون أن يخل بحالة الحرية في المجتمع، دون أن يفرض على الآخرين طقوسا وأنماطا سلوكية ومعتقدات فكرية، هو الذي يؤمن حقيقة بالإختلاف، ويتعايش مع المختلفين معه بعيدا عن الأنالوجيا والتماثل والأحادية والمطلق في الحقيقة والأفكار، ولقد تذكرت هنا، تلك المجموعة من الشباب المغربي التي ارادت في السنة الماضية، أن تفطر علنا كتعبير- ليس عن كفر- وإنما عن حالة من الحرية المأمولة في الفقه العلماني.
إذا خضع الإنسان لثقافة الاندهاش، التي عادة ما يوسم بها السائح كزائر غريب لمكان أو فضاء أو مدينة..فإن هذه الثقافة ستؤثر على رؤيته للأشياء والعالم، فقد لا يلاحظ الزائر إلا الجانب المتوهج في العالم.. وهكذا قد تبدو لك اسطنبول مدينة الطبقات العليا أو المتوسطة لا وجود للفقر إلا لماما، فالباعة المتجولون، قليلون، خاضعون لنظام صارم من طرف البلدية، فهم مطالبون بكراريس أنيقة بلون موحد (أحمر مفتوح) ليعرضوا على المتجول إما قسطلا أو فستقا أو محارا بالحامض أو ذرة مشوية كما هو الحال عندنا..كما أن التسول أنيق أيضا، غير مباشر، عبر عرض بضاعة موسيقية، كما أن ماسحي الأحذية يأخذون ركنا أو زاوية في ممر أو شارع ليعرضون خدماتهم عبر طاولة طويلة وعريضة نحاسية براقة، لاترمقهم إلا بعد التفحص أو عندما يلوحون إليك بأيديهم..لاتبدو لك الفواصل أو الفوارق بين الحيوات الإجتماعية، إلا إذا تجاوزت ساحة التكسيم أو شارع الإستقلال،،، نحو الأحياء الشعبية، كحي قاسم باشا مثلا، إلا أن هذه الأحياء الشعبية ليست متطرفة في الفقر والهشاشة والتهميش بتلك الغزارة والكثافة التي يوسم بها مشهدنا الإجتماعي، ليس هناك فرق صادم، حالة بين أيضا بين الشعبي والمتوسط، بين المتوسط والعالي..هناك اتجاه كبير نحو جاذبيات التقدم والرقي والتنمية الأفقية اقتصاديا وصناعيا واجتماعيا:
4) بين المفرد والجمع
اسطنبول مدينة بقدر ما تتناص وتتشابه، بقدر ما تتيتم، وتتفرد، بين آخر بينَ الفرادة والتعدد..وهكذا فالإعتزاز باللغة التركية وارد وملموس، على صعيد لغة الإعلانات Les enseignes)) لمختلف المنشآت والمؤسسات والمتاجر والمرافق العامة والخاصة..وعلى صعيد لغة التواصل الإجتماعي، إلى درجة أن هناك من الأتراك من لا يعرف إلا لغته، لكن الأغلب يفقه في اللغة الإنجليزية، كما أن لغة المدينة مزدوجة ما بين التركية والإنجليزية بل وأحيانا ثلاثية، أقصد، أن هناك إعلانات باللغة العربية خاصة على صعيد بنية القطاع السياحي كالمقاهي والمطاعم والوكالات السياحية، وهم عادة الأتراك النازحون من أنطاكيا المجاورة لحلب السورية على مرمى حجر، بل والتزاوج بين الأتراك والسوريين أمر عادي كما هي وجدة عاصمة شرق المغرب مع مدن الغرب الجزائري؛ هناك خطاب ثالث، وهو خطاب عالمي، أقصد الغرافيتيا، لا يبرز في كل مكان، ولكن عندما تغلق بعض الدكاكين أبوابها في شارع الإستقلال، فإنك تجدها مكسوة بالغرافيتيا باللغة التركية في الأغلب، ولقد ترجم لي مرافقي التركي بعضا منها، فهي لا تخرج عن ديانة الأسماء أو بعض اللعنات والشتيمات، أو التعبير عن حالات العشق والحب، منطق كوني ولغة عالمية !
إن اللغة المغيبة حقا، هي اللغة الكردية لا وجود لها فيما نلاحظ، فالأكراد مستاؤون كسائق الطاكسي الذي حملنا نحو متجر الجواهر العملاق انطلاقا من ساحة التكسيم، والذي لعن تركيا الرسمية وتحديدا وزير خارجيتها داوود أوغلو الذي ذهب إلى بشار الأسد رئيس سوريا منبها ومحذرا من الافراط في قمع الربيع السوري العربي، إلا أنه في نظر السائق ذهب باسم اسرائيل وأمريكا، لأن سوريا دولة الممانعة، وأن الربيع المزعوم، هو ربيع أجنبي أطلسي، يريد أن ينتقم من سوريا، من شرق أوسط على المقاس الأمريكي لم يتحقق في حرب لبنان في يوليوز 2006. هكذا تبدو عدمية الثقافة الإنفصالية، فهي تبخس كل عمل يقوم به " العدو" حتى ولو كان إيجابيا، إنها سمة شمولية سواء في إسطنبول أو في العيون الغربية المغربية..
يتجاوز هذا البين بين المفرد والجمع، عتبات الخطاب، إلى الثقافة، إلى التناص مع المدن العالمية، فهي تشبه نسبيا نيويورك في طول شارعها الإستقلال، وفي اللون الأصفر لطاكسياتها المؤثثة للفضاءات والأمكنة كما تشبه باريس في وسائل اتصالها وتواصلها، ومتاجرها العملاقة كالجواهر( Mall Jevahir) والملتقى(Mall Furum) وايستنيا وغيرهم، وتشبه أيضا إلى حد ما مدينة نيوأورليان الأمريكية قبل دمارها من طرف إعصار كاترينا من حيث الجمع بين العمران الأمريكي والعمران الأوروبي وكذا المحيط المائي ، وإن كان ليس بحرا أو بحارا..فهو نهر المسيسيبي العظيم، وتشبه الشرق كدمشق من خلال اسواق الحميديين، عبر أسواقها الشعبية كسوق المصريين ، وسوق الذهب والبازارات وسوق محمود باشا..كما تشبه كل المدن العربية والإسلامية سابقا والآن في غرناطة والقيروان و تونس و فاس ومراكش..من حيث الجوامع والمساجد والمدارس العتيقة..كما أن طبخها متعدد ما بين الذوق الأوربي؛ والذوق الشرقي، فهي مدينة عديدة، لذيذة، وفي ذات الوقت فريدة، وفرادتها تكمن في هذا البين، المتعدد، هذا المزيج المركب بين الثقافات والحضارات والجغرافيات واللغات والمسلكيات..مدينة خضراء، تؤمن بالأخضر نباتاو شجرا، ووردا، وزهرا،..بين جنبات طرقها وشوارعها وساحاتها..مدينة آمنة، فالعيون لاتنام، تحميها من كل الغارات أو الخدشات، خاصة تجاه الوافدين والعاشقين..تحبها بسرعة، تألفها وكأنك أقمت بها دهرا. العين لا تشبع من الإستلذاذ، شهوة متصلة لا فجوات أو ثقوب...مدينة هادئة تسير بهدوء، عندما كنت أركب في السيارة بجوار المرشد السياحي، أضع حزام السلامة تنفيذا لتعاليم مدونة غلاب، فقد انتبه السائق ولم يبد الملاحظة إلا بعد المعاودة، فأكد لي بأن حزام السلامة لا يوضع إلا خارج ( المجال الحضري) فحررني من ذلك التوجس المدوني وديكتاتورية الطرقات!! تنطلق السيارات بعد انطلاق الضوء الأخضر، لا كلاكسون، ولا زعيق، لعلها حالة مغربية مخصوصة؛ السياقة هادئة، منضبطة، متقدمة، ما رأيت أو سمعت لعنات وشتيمات بين السائقين، أو بين السائقين والراجلين...علامة من علامة التحضر كفعل ثقافي، شرطة المرور لا تلمحها إلا نادرا. مدينة غالية؛ خاصة في بعض المواد كالبنزين ( ثلاثة دولارات للتر الواحد) مما يفسر غلاء تسعيرة العبور في الطاكسي..أيضا..غالية..غاية..آية، فوق فكيك في فتنتها ومستوى تحضرها.
5) بين العين والعين
تطاردك العين في كل شيء في اسطنبول، في المتاجر والأسواق والفنادق، عين زرقاء ذات بؤبؤ أسود، مرسومة على الأواني والصحون، والفناجين والبطاقات البريدية، واللوحات، حاملات سواريت، معلقة على الجدران..في كل مكان...تحضر كقوة مانا في المخيال الثقافي و الشعبي التركي في اسطنبول،،لعلها مفعول سحري يتقي شر العين، شر العين الأخرى، التي تنظر بمكر، بكراهية، ببغض، وبحسد، كما نظر إلى اسطنبول في التاريخ، عين أصابت القسطنطينية فانهارت العثمانية..إن العين هذه تماثل اخميسة في المخيال الشعبي المغربي، التي تجدها معلقة في مداخل المتاجر، والبيوت والمنازل، أو في اعناق الصغار والكبار...ان الإنسان الاسطنبولي، ربما أدرك أنه يحيا في مدينة جميلة على غير مثال، يؤثتها ذلك البين الذي يغوي العين ويعسلها ويبهرها بالفتنة والجمال وهو بين لاشك أن له حساد ومن في قلوبهم مرض فالعين تتقي العين...
وأنت تودعها قد تدمع العين حسرة على الرحيل لا يستطيع العابر تجاوز اللحظة إلا بعد أن يمني النفس بالحج ثانية، آلية نفسية لتجاوز الحرقة والحسرة..عيني وعين العابرة معي، وكل العابرين الآخرين المقيمة بين ضلوعك أياما معدودات، والمقيمة بين ضلوعنا ما تبقى.. عيني، عيوننا عليك يا اسطنبول.
إضاءات:
1) دليل كل الأزمنة والأمكنة في أناضول تجتمع هنا..مينياتورك.( حديقة مينياتورك تركيا) منشورات بلدية اسطنبول الكبرى. ص 24.
2) نفسه ص 19.
3) نفسه ص 21
4) اردم يوجل: قصر طوب كابي والحرم، منشورات الأناضول للسياحة والإعلان، اسطنبول 2010. (يحتوي الكتاب على تفصيلات، حول هذا القصر تاريخا، ومحتويات). 95 صفحة، مرفوقة بصور دالة لكل الفضاءات والأمكنة.
5) نفسه ص 38.
6) يوجل أكات: اسطنبول، ترجمة مراد يعقوب أرغل (إلى العربية) مطبعة كسكين كولور لبطاقات البريدية شركة ذات المسؤولية المحدودة، اسطنبول ( طبعة جديدة) 2010، ص 6.
7) يونس مسكين (اعداد) المريد اردوغان ينشق عن الشيخ اربكان، جريدة أخبار اليوم سلسلة مقالات، الخميس 28-8-2011، العدد 532 ص 5.
8) أدونيس: أنا مع الحراك الثوري في سوريا مهما كانت النتائج
( حوار) جريدة أخبار اليوم، الإثنين 5- 9- 2011، العدد 539، ص 10.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.