إن البحث في تاريخ المدينة بالمغرب القديم يحيط به الكثير من الغموض وتحف به صعوبات جمة غالبا ما يتعذر تجاوزها. ولعل من أبرز هذه الصعوبات هو أن المعطيات والمعلومات التي باستطاعتها إزالة الغموض وإيجاد الأجوبة على الأسئلة المطروحة حول الظاهرة الحضرية بالمغرب تظل ضئيلة جدا وغير متوفرة بالشكل المقنع الذي يجعل الباحث يتفادى الكثير من المعاناة. وحتى وإن وجدت نصوص تاريخية تتحدث عن الظاهرة الحضرية بالمغرب خلال حقبة ما قبل الإسلام، فقد يختلط فيها الواقع بالأسطورة. وهذا ما يجعل مهمة الباحث في التمييز بين ما هو حقيقة تاريخية وبين ما هو خيالي في غاية الصعوبة. وهذه المعوقات هي السبب في تثبيط همة الباحثين وعدم إقدامهم على الخوض في مواضيع تهم تاريخ المغرب القديم. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه ونحن نبحث عن المصادر والمراجع التي يمكن اعتمادها في دراستنا هذه، صادفنا شبه خلو للساحة الفكرية من إنتاجات تتطرق إلى حركة التمدين المغربية وتطورها خلال هذه الحقبة التاريخية. إن ظاهرة التمدين في العصور القديمة لم تنل لحد الآن حظها الأوفر في انشغالات الدارسين(محمد مقدون ,1995,ص 191). وقد ذهب بعض الباحثين إلى القول إن « تاريخ المدينة المغربية ميدان لازال في الحاجة إلى المزيد من البحث والتنقيب وخلافا لما هو شائع، فإن الغموض لازال يكتنف كثيرا من جوانبه، بل لا نبالغ إذا قلنا إن البحث الحديث لم يضف الكثير إلى ما أنجزه مؤرخو الحقبة الاستعمارية (...) «(عبد الأحد السبتي وحليمة فرحات، 1994، ص 5) ويمثل هذا القول صرخة موجهة إلى الباحثين والمهتمين قصد الانتباه إلى التقصير الذي يعاني منه تاريخ المدينة المغربية. فما اتضح لنا هو أن هناك فقط إشارات متفرقة وسطحية لا تشفي غليل الباحث المتعطش، ولا تساعده على فك لغز تساؤلاته. وقد حاولنا بعد الاطلاع على هذه الإشارات تكوين صورة عن مراحل تطور المدينة المغربية قبل الفتح الإسلامي. والسؤال الذي كنا نود أن نجعله محوريا في بحثنا هذا هو متى بدأ التمدين بالمغرب؟ لكن تبين لنا أن الجواب على هذا السؤال يعتبر صعبا إن لم يكن مستحيلا، وذلك في غياب الأدلة الأركيولوجية. علاوة على أنه قد يكون غير ذي جدوى. ومن تمة لن يكون هدفنا هو التأريخ للظاهرة الحضرية بالمغرب، بقدر ما ستكون غايتنا هي تسليط الضوء على هذه الظاهرة خلال فترة من فترات تاريخ المغرب، والتي قلما يتم الاهتمام بها. ولبلوغ هذه الغاية ارتأينا الاعتماد على أهم النصوص التاريخية والدراسات التي وردت بها إشارات أو تحاليل عن ظاهرة التمدين بالمغرب القديم. ولن نكتفي فقط بعرض هذه النصوص والدراسات، وإنما سنتخذها مطية نلجأ إليها كاستشهادات فنستأنس بها لندعم استنتاجاتنا ونوضح وجهة نظرنا. وتنقسم النصوص والدراسات التي اعتمدناها إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: النصوص التاريخية القديمة نظرا لما كانت تتوفر عليه بلاد المغرب القديم من خيرات طبيعية وموارد فلاحية، فإنها كانت منذ القديم محط اهتمام الشعوب والأمم المجاورة. وهذا الاهتمام صادفناه كثيرا في تلك النصوص التاريخية القديمة التي تتحدث عن هذا القطر وعن مميزاته، وبعض هذه النصوص ورد به ذكر العديد من المدن المغربية القديمة التي منها ما تم توطينه الجغرافي بواسطة الحفريات الأثرية، وظلت الغالبية العظمى مجهولة الموقع. ويرتبط بعض هذه النصوص التاريخية القديمة بحملات استكشافية تم تنظيمها من طرف حكام بعض الشعوب، كما هو الشأن بالنسبة لرحلات حانون وسولاكس وبوليب. ونصوص أخرى تركها لنا مؤرخون وجغرافيون قدماء أمثال هيرودوت وأفلاطون أسترابون وبلين الأقدم وبومبونيوس ميلا. كما نجد نصوصا لا تكتفي بالإشارة إلى المدن القديمة وإنما تصاحبها بإحداثيات تمكن من تحديد مواقعها الجغرافية. ويتعلق الأمر بنص بطليموس ونص نهج انطونان. وتساعد قراءة هذه النصوص وفحصها على رسم معالم الظاهرة الحضرية بمغرب ما قبل الإسلام، وتمكن من تتبع انتشارها وتطورها. لكن ما يجب الوقوف عنده لتأكيده هو أن هذه النصوص بالرغم من احتوائها على معلومات قيمة عن بلاد المغرب القديم، فإنها لا تتحدث عن مدنه وتجمعاته الحضرية إلا بشكل مختصر جدا، بحيث نلاحظ أنها تكتفي بذكر أسماء الحواضر وموقعها الجغرافي ولا تتطرق إلى المظاهر الحضارية للمدن أو تخطيطها الهندسي أو مؤسساتها السياسية وأنظمة تدبير شؤونها وأنشطتها التجارية وخصائصها الديمغرافية. وتبقى الحفريات الأثرية الوسيلة الأنجع لنفض الغبار عن تلك المظاهر الحضارية المغيبة بالنصوص التاريخية القديمة. سعيد أكدال