اهتم المغاربة بمدنهم العتيقة، كتطوان ومكناس ومراكش وغيرها من المدن الأخرى، وأنجزوا تواريخها، في حين ظل تاريخ المغرب القديم مجهولا تماما بالنسبة للبحوث العربية المختصة، سواء تعلق الأمر بعاصمتي وليلي وطينجي، أو بمراكزه العمرانية الأخرى قبل العصر الروماني وبعده، وقد تساءل المؤرخون عن ماذا توحي للمغربي اليوم أسماء مثل: روسادير، تموسيدا، بنازا، توكولوسيدا، وغيرها كثير، شأنها شأن مدينة “تمودة”، هذه الأخيرة التي حاول العديد من الأركيولوجيين والأثريين الكشف عن خباياها العديدة، نظرا لأهميتها خلال العصر البونيقي الموريطاني، ونظرا لندرة النصوص المكتوبة عنها، لذلك وجب الاعتماد أساسا على المكتشفات الأثرية، خاصة وأنها تعتبر من أهم المواقع الأثرية المهمة ) قبل الفتح الإسلامي ) في المغرب إلى جانب المواقع الأثرية السالفة الذكر. كما أن الأثريين والمؤرخين الأجانب أجمعوا على أهمية هذه المدينة خلال العصر البونيقي الموريطاني، وإن لم يصلنا منها إلا ذلك الركام من الأحجار، وتلك الأطلال الشاهدة على مدينة – أسست قبل تطوان بما ينيف عن 16 قرنا. وقد ظلت ناحية تطوان مفتقرة إلى التنقيبات الأثرية لمدة طويلة، إلى أن أحدثت لها مصلحة الآثار سنة 1920، حيث باشرت أعمالها في مجموعة من المواقع الأركيولوجية بالمنطقة الشمالية، بما فيها “تمودة”. وموقع “تمودة” يقع وسط سهل خصب، على الضفة اليمنى من وادي مرتيل الذي يجري من الشرق إلى الغرب، بين جبال بني حزمر جنوبا وسامسا شمالا، على بعد 5 كلم جنوب غرب تطوان، بجنب الطريق المؤدي إلى الشاون. وقد قام الدكتور المؤرخ مصطفى غطيس بتأليف كتاب عنونه ب”تمودة”، حيث دون فيه تفاصيل دقيقة عن هذا الموقع بكل حيثياته ومازالت جهوده منصبة في هذا المجال، للكشف عن باقي الغموض الذي يحيط بهذا الموقع. وقد كشف أن كتابات الأركيولوجيين بخصوص “تمودة” كانت سطحية، شأنه في ذلك شأن معظم الباحثين الأجانب الذين كتبوا عن هذه المنطقة خلال عهد الحماية. فأغلبهم لم ينقب حبا في هذه المنطقة، بل كان هدفهم الرئيسي يكمن في تذليل العقبات وتسهيل مأمورية السلطات الاستعمارية في إحكام قبضتها وتوطيد حكمها في البلاد المستعمرة . ويكتسي موقع “تمودة” الأثري أهمية خاصة، نظرا لكونه يمثل نموذجين فريدين من نوعهما في المغرب بالنسبة للحقبتين الواقعتين قبل وبعد الاحتلال الروماني، حيث أثبتت التنقيبات الأثرية التي قام بها الأركيولوجيون الإسبان في موضع “تمودة” وجود آثار مدينتين متعاقبتين الواحدة فوق الأخرى. الأولى والأقدم هي “تمودة” البونيقية الموريطانية التي أسست حوالي 200 ق.م، وهدمت خلال النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد ثم أعيد بنائها بعد ذلك إلى أن خربت ثانية سنة 40 م. والثانية، “تمودة” الثانية وهي عبارة عن حصن روماني شيد وسط المدينة المهدمة. ومما ساعد المؤرخين والأثريين في الكشف عن خبايا مدينة تمودة هو أن سكان المدينتين خلفوا أثارا متباينة مكنتهم من تتبع مراحل تاريخهم منذ تأسيس المدينة حوالي 200 ق.م إلى غاية انقراضها خلال الربع الأول من القرن 7 م . لذا أصبح استئناف أعمال التنقيب حسب الباحث و المؤرخ مصطفى غطيس أمرا حيويا بالنسبة لهذا الموضع الذي قد ينطوي على آثار جديدة من شأنها تصحيح بعض المعلومات وتدقيق البعض الآخر، وكذا تفسير بعض الأحداث التي لازالت تشكل لغزا للمختصين كتهديم تمودة الأولى، كما ستمكن التنقيبات اللاحقة دون شك من تتميم مجموعات الآثار المختلفة سواء تعلق الأمر بالنقود وأو بالخزفيات والقناديل والتماثيل….التي ثم اكتشافها سابقا. ورغم أن الموقع كان قد طاله النسيان إلا أن جهود الباحثين والأركيولوجيين لم تذهب سدى، فقد تم في 10 أكتوبر سنة 2011 افتتاح الموقع الأثري تمودة بتطوان، في وجه الزوار المغاربة والأجانب والباحثين والمهتمين. حيث أكد بنسالم حميش، وزير الثقافة السابق، أن الرهان الآن بعد افتتاح تمودة، هو تحويله إلى موقع ثقافي سياحي للتعريف بالمنطقة، وبالتالي جعل الثقافة قطاعا منتجا يخلق مناصب شغل. وقد بلغت تكلفة إنجاز المشروع حوالي أربعة ملاين و800 ألف درهم، واشتملت الأشغال على ترميم وتقوية البنيات الأثرية، وبناء محافظة الموقع وسكن للمحافظ ومختبر لدراسة اللقى الأثرية وترميمها وشباك للتذاكر، كما تمت تهيئة مدار الزيارة. لذا لابد لنا من إعادة قراءة الحفريات لماض عريق يتصل بتاريخ المغرب عموما، و بالإقليم التي توجد فيه المدينة خصوصا، هذا الإقليم الغني الذي على البحث العلمي التاريخي أن ينهض بإزاحة الستار عن ماضيه العريق. فتمودة تظل ذاكرة محفورة في الأحجار وطبقات الأرض إلى أن يتأتى لها من يستنطقها ويعيد صوتها إلى التاريخ.