«لم أتمكن حتى الآن من إحكام القبضة على المغرب، إلا بفضل سياستي الإسلامية. إني متأكد من جدواها، وأطلب بإلحاح ألا يفسد علي أحد لعبتي» كانت تلك مقولة للماريشال ليوطي، أوردها الباحث دانيال ريفي Daniel Rivet صاحب كتاب «ليوطي ومؤسسة الحماية الفرنسية بالمغرب»، تشرح دواعي اعتماده «السياسة الإسلامية» بالمغرب، التي قامت على مبدأ التوقير والاحترام، تجاه كل ما يتعلق ب»الأهالي»، مثل ديانتهم، وعاداتهم المحلية، ومؤسسات حكمهم، ومؤسساتهم الاجتماعية التقليدية٬ من قضاء وأحباس وتعليم. وكان الهدف من ذلك أن «لا يشعروا بأنهم يعيشون٬ مع الوجود الفرنسي، قطيعة كاملة مع تقاليده». أولت فرنسا اهتماما خاصا لشعائر ومشاعر المغاربة الدينية بداية القرن، الذي صادف حملتها الاستعمارية على المغرب، وانسحب الأمر نفسه على إسبانيا بدءا من ثلاثينات القرن نفسه، بعد وقوفها على نجاعة وفعالية «الوصفات» الاستعمارية بمغرب الحماية الفرنسية، حينما اعتمدت في «تغلغلها الهادئ» على محاباة العلماء وشيوخ الزوايا والشرفاء، بالنظر إلى الأدوار الاجتماعية التي كانت تلعبها تلك الفئات الاجتماعية. لقد بلغ ببعض المغاربة، سيما في صفوف النخبة، أن ادعوا لسنوات أن ليوطي رجل مسلم ويخفي إسلامه خوفا من معاونيه. خاصة بعد أن أهدي جزءا من ستار الكعبة الذي علقه على جدران الإقامة العامة، وآخرون بشمال المغرب أقسموا بأغلظ الإيمان على أنهم شاهدوا الجنرال فرانكو بمكة مؤديا لمناسك الحج، حتى بات «البراح» بمناسبة الحرب الأهلية ينادي بين مغاربة الشمال بأن «الحاج فرانكو» يطلب منهم الالتحاق بجنوده ل»جهاد» عدوهم الشيوعي «الكافر»، في إشارة إلى القوات الجمهورية عقب انقلابه العسكري. أدرك الاستعمار مبكرا أن طريقه لن تكون مفروشة بالورود، فتفتق دهاؤه على استمالة مشاعر العامة واستقطاب «قادة الرأي» الذين كانوا يؤطرون المشاعر الجماعية للشعب المغربي وعلى رأسهم العلماء وشيوخ الزوايا، إضافة إلى تعزيز وتقوية مركز السلطان الديني والدنيوي، باعتباره رمزا للوحدة ويجسد معاني روحية، فكانت «السياسة الإسلامية» التي ابتكرها أطر الحماية بالمغرب على أساس الدراسات الاثنولوجية المنجزة في وقت سابق، والتي تناولت باستيفاض المؤسسات الاجتماعية المؤثرة في حياة المغاربة، مثل فكرة قداسة الأولياء، وتنظيماتهم الطرقية، ومكانة الدين في المخيال الجماعي عند المغاربة. يبقى المكون الديني جزءا لا يتجزأ من المنظومة الثقافية للشعب المغربي، لكن التوظيف الذي خضعت له رموزه وشعائره في فترة الاستعمار، كان فعالا في تمهيد استقرار الاستعمار بالمغرب، وكذا في تعبئة الشبان المغاربة إلى جانب حروب الدول الاستعمارية، سواء بالحرب الكونية الأولى بالنسبة لفرنسا، وإبان الحرب الأهلية الاسبانية. رحل ليوطي وفرانكو عن المغرب، لكن اختياراتهما قاومت الزمن، وكتب لها الاستمرار، فمساجد فرانكو التي بناها بالشمال مازالت شاهدة على اعتنائه بأماكن العبادة الإسلامية، وقوانين ليوطي المنظمة للأخلاق الإسلامية مثل تلك التي تنص على تجريم الإفطار علنا بشهر رمضان، أو منع بيع الخمور لغير المسلمين، مازالت معتمدة إلى اليوم. كذلك خريطة السادات والأضرحة المنتشرة على طول البلاد والمواسم المنعقدة حولها، كانت إحدى الوصفات «السحرية» التي ضبط من خلالها ليوطي «الأهالي»، بعد أن خبر بالمستعمرات السابقة التي اشتغل بها (مدغشقر، الهند الصينية، الجزائر) مختلف الترتيبات الإدارية للحكم غير المباشر، بواسطة المؤسسات والقادة المحليين. حيث لم تتلطخ يده بدماء المغاربة ولم يكن يسمح بتقدم القوات الغازية إلا بعد استنفاذ جميع وسائل التفاوض مع القبائل المقاومة. مما حدا به إلى طلب وضع هيئة الأركان الحربية تحت إمرته، حتى تكون سياسته الحمائية منسجمة مع «اختراقه المسالم» لمجتمع «الأهالي» ومناطق «السيبة». كيف وظف الاستعمار شعائر المغاربة الإسلامية؟ وما هي أهم التداعيات الثقافية والسياسية التي رتبتها هذه «السياسة الإسلامية»؟ وما السياقات العامة التي جاءت فيها؟ أسئلة ضمن أخرى يجيب عنها الملف التالي. ضباط الشؤون الإسلامية الذين تنوعت وظائفهم في حفظ الأخلاق الإسلامية يجهلها أو يتجاهلها الكثيرون ممن يخلطون التاريخ بالإديوليوجيا، ويدعون أن هدف فرنسا أو إسبانيا من الاستعمار هو العداء للإسلام. والحقيقة أن الاستعمار عادى من كان يقطع طريقه لاستغلال الموارد الطبيعية والمعدنية والبشرية التي يحتاجها الرأسمال الداعم للمشروع بالمال والعتاد والأفكار حتى يجني ثماره. ضباط الشؤون الإسلامية كما سمتهم فرنسا ابتداء من 1937 هم ورثة الضباط المترجمين الذين سموا كذلك من طرف نابليون عندما غزا مصر العثمانية في 1799، وتبناه غزاة الجزائر وتونس العثمانية في 1830 و 1881، وتبناه ليوطي في المغرب كذلك. هؤلاء الضباط المترجمون إلى جانب ضباط الاستخبارات شكلوا في المغرب رأس حربة الجيوش الغازية، لأنهم كانوا يقومون بالمفاوضات مع الزعماء المتخاذلين لزرع الفتنة في المقاومة والتفريق. وقوة هؤلاء تمثلت في معارفهم اللغوية والفكرية حول القبائل ومشاكلها للعب على التناقضات. وابتداء من 1922 أعاد ليوطي تسمية ضباط الاستخبارات ب «ضباط الشؤون الأهلية» الذين مارسوا عملهم في مكاتب الشؤون الأهلية المعروفة ب»بيرو عراب». بعد انتهاء العمليات العسكرية، ظل دور ضباط الترجمة الذين سموا لاحقا بضباط الشؤون الإسلامية منحصرا في مراقبة عمل القضاة الشرعيين والوثائق العدلية. وقد كان يتوجب على هؤلاء الضباط للوصول إلى هذه الوظائف في الشؤون الأهلية أو في الترجمة، بالإضافة لمؤهلاتهم العسكرية والفكرية، الحصول على شهادات في اللغة العربية وفي اللهجات العربية والبربرية بالمعهد العالي للدراسات المغربية الذي كان يشرف عليه جهابذة المعرفة من قدماء الضباط والدارسين المتخصصين في الشؤون الإسلامية والعربية والبربرية. خلال الحرب العالمية الثانية وحرب الهند الصينية سيعمل ضباط الشؤون الإسلامية على مراقبة المسلمين في الجيوش الفرنسية والسهر على حاجياتهم الدينية، خصوصا عيد الأضحى لتزويدهم بالخرفان ولو بالمظلات في حالة الحصار، كما وقع في حالة أوردها ضابط في مذكراته تتعلق بالرماة الجزائريين في الفيتنام الذين حاصرتهم قوات الثوار. يبدو هنا أن الدور مرتبط بما يمكن أن نسميه باللعب على الرموز، خصوصا في الهند الصينية التي واجه فيها الجيش الفرنسي مشكلة هروب المحاربين من شمال إفريقيا والتحاقهم بثوار الفيتنام...فقام بإنشاء راديو خاص موجه لجنود المستعمرات، بل وكان يهدي لمن ينتهي عقدهم الذهاب إلى الحج إذا تزامن موسمه مع عودتهم إلى بلدهم. حين رفض ليوطي الدخول إلى ضريح مولاي إدريس احتراما لمقامه شهدت سنة 1923 مرضا مفاجئا للجنرال ليوطي، كاد أن يودي بحياته. على إثر التهاب كبدي حاد، مما استدعاه إلى لزوم الفراش. ولما انتهى إلى علم السلطان مولاي يوسف نبأ مرض صديقه الجنرال، أصدر أمرا بنقله إلى قصر بوجلود وبرفع أكف الضراعة والدعاء له بالشفاء في مختلف مناطق المغرب، كما أن أفواجا من رجال الزوايا والعلماء حلوا عنده بقصر فاس، ليتلوا عليه الأدعية ويقرؤوا «اللطيف» وهي العادة التي جرت بالمغرب، بمناسبة الأحداث الجسام التي كان المغاربة يتجهون للتضرع لأجل رفعها عنهم، مثل الجوائح وأيام الجوع والجفاف، فلم يحدث-سابقا- أن قرأ رجال الدين المغاربة «اللطيف» على شخصية غير إسلامية. هذا، وحضر كذلك خادم مقام مولاي إدريس شخصيا إلى منزل ليوطي، ووضع شموعا مشتعلة حول فراشه، مع الدعاء له بالسلامة والنجاة من مرضه، كما طلب منه النذر بزيارة مقام مولاي إدريس حال شفائه، وبالفعل، فبمجرد أن تماثل ليوطي للشفاء، قام بزيارة إلى الكنيسة الكاثوليكية بفاس، ثم إلى ضريح مولاي إدريس. وعندما حل بالضريح، امتنع عن ولوج المقام حتى يبقى وفيا للتعليمات التي أصدرها بنفسه قبل سنوات، والتي قضت بعدم ولوج الجنود والموظفين الفرنسيين العاملين بإدارة الحماية، إلى المساجد ومقامات الأولياء المنتشرة على طول البلاد. وذلك تفاديا لإثارة مشاعر المسلمين الدينية. وأمر أحد مرافقيه من المسلمين أن يشعل شموع النذر داخل المقام نيابة عنه، ويجلب له صندوق التبرعات من جانب الضريح إلى مدخل المقام.. لهذا دافع ليوطي عن تعدد الزوجات بالمغرب... لم تكن سياسته المسماة ب»سياسة الأهالي»، سوى قناع لاستعمار كلاسيكي، استعمار مؤسس على الإدارة المباشرة وإيلاء الأهمية القصوى للمصالح الفرنسية. إن الجنرال لم يكن يقبل بديلا عن حكم المغرب فعليا، ليس عبر الاختفاء خلف توظيف الأنساق الرمزية المرتبطة بالدين أو شرف الانتساب للدوحة النبوية، بل عن طريق التوظيف الكامل لمبدأ الوحدة الذي يجسده السلطان سياسيا ودينيا. لم يكن نظام الحماية حسب ليوطي، مجرد معادلة نظرية انتقالية، بل «واقعا متواصلا زمنيا»، وهي الفكرة التي عبر عنها صراحة، حين دوّن في تقرير حرره سنة 1914 بأن التوغل الاقتصادي والأخلاقي في أوساط شعب ما، لا يمكن أن يتحقق عن طريق إخضاعه «لقوتنا ولا حتى لحرياتنا»، بل بواسطة «شراكة وطيدة ندير شؤونه في إطارها بسلم عبر هيئاته الحكومية الذاتية ووفق تقاليده ومفهومه الخاص للحريات». كذلك تتضح مقاربة ليوطي لنظام الحماية، عبر التقرير الذي بعثه إلى وزير الخارجية الفرنسي في 15 يونيو 1915، بمناسبة مناقشة مقترح قانون كان يرمي إلى تيسير سبل منح الجنسية الفرنسية للجنود وقدماء المحاربين في صفوف الجيش الفرنسي المتحدرين من الجزائر وتونس والمغرب. في هذه المراسلة، اعتبر المقيم العام أن تطبيق إجراء من هذا القبيل في المملكة الشريفة يمثل قرارا لا منطقيا بشكل مطلق، وأنه سيخلق فوضى عارمة. لأنه محاولة لتنميط ما ليس قابلا للتنميط في شمال إفريقيا، وينم عن جهل شامل لواقع الحماية وعقليات الأهالي. أضاف ليوطي في تقريره أن «منح الجنسية الفرنسية سيولد فئة من المنبوذين داخل المجتمع المغربي، طبقة من العكسريين مقتلعة من جذورها ومحتقرة». ومن جهة أخرى، أثار فصل مقترح القانون الذي يقصي المغاربة متعددي الزوجات من الحصول على الجنسية الفرنسية، حفيظة الجنرال مما جعله يؤكد بأن تعدد الزوجات «يمثل إلى مدى بعيد عماد التنظيم العائلي في المغرب»، مضيفا «إعلان كون الزواج الأحادي أسمى وكونه الطبيعي بمفرده والقانوني من وجهة النظر الفرنسية، إعلان سيجسد تحديا للعادات والتقاليد الاجتماعية والدينية، وإهانة حقيقية للسلطان أولا، وكذلك للنخبة برمتها ولعموم المغاربة». وعلى مستوى آخر، شعر ليوطي بالغضب جراء «المماثلة» التي قام بها البرلمانيون، في إطار مقترح قانون التجنيس»، بين المغرب والجزائر، ولذا نجده يكتب بأن المغاربة يعتبرون هذه الأخيرة -الجزائر- «أرضا مغلوبة ومسيطر عليها». قارن ليوطي كذلك، الاستقبالات التي لاحظها في وهران، حيث كان الأعيان الجزائريون يهمشون ويعاملون بلامبالاة، بالاحترام الدائم والمباشَر إزاء أعضاء المخزن وكبار قواد مراكش في المغرب. كما اعتبر أن مقترح «التجنيس» انتهك، في رأيه، سلطات السلطان وخرق مبدأ الحماية. قوانين منع الإفطار في رمضان وبيع الخمور للمسلمين وضع المستعمر الفرنسي قوانين كثيرة خلال سنوات الحماية سواء منها القوانين الجنائية أو قوانين الأحوال الشخصية، وهي تلك التي مازال بعضها معمولا به إلى اليوم، بعدما خضعت لتعديلات في السنوات الأولى للاستقلال وما بعدها. من بين القوانين التي تتعلق بتدبير الشؤون الدينية للمغاربة، نجد قانونين «مثيرين للجدل»، ويتعلق الأمر بقانون منع الإفطار العلني وقانون منع بيع الخمور للمسلمين، وإن كانا وضعا في الأصل لمنع حدوث مواجهات بين المغاربة وبين جنود الاحتلال، ودرءا للمس بشعور المغاربة لحساسية هذه الأمور في بلد يدين بالإسلام. وبالعودة إلى الفصل الذي يجرم المجاهرة بإفطار رمضان الذي تم وضعه من قبل الحماية الفرنسية سنة 1913 وتم تعديله في 1933 خلال إدارة الماريشال ليوطي لشؤون الإقامة العامة، وهو فصل في القانون الجنائي لم يكن موجها إلى المغاربة، بل كان مجال تطبيقه يخص المعمرين الفرنسيين حتى لا يستفزوا مشاعر السكان المحليين. ولو أن بعض الباحثين ينفون هذه الأمر، حيث يقدم الباحث مصطفى القادري رواية مغايرة تنفي أن يكون الفصل تم وضعه في عهد الحماية، قائلا: «أظن أن من الأخطاء الشائعة والمتداولة بكثرة هي المعلومة المرتبطة بعقوبة الإفطار العلني في رمضان والتي لا ترجع إلى عهد فرنسا أو إسبانيا، بل للقانون الجنائي المغربي لسنة 1965. وإلى غاية هذا التاريخ كانت المطاعم مفتوحة في وجه المسلمين بدون حرج قانوني أو اجتماعي». بدوره قانون منع بيع الخمور لغير المسلمين الذي تم تشريعه سنة 1913 كان نتاجا ل «فقهاء» القانون الفرنسي في عهد الحماية، والغاية منه كانت إظهار حسن نية فرنسا في حماية الشعائر الدينية للمغاربة، لكن في الحقيقة كانت الرغبة هي تفادي الأحداث التي قد يسببها إدمان بعض المغاربة على الكحول. وعلى العموم فرغم سنها لهذا الظهير فقد تركت سلطات الحماية الباب مواربا أمام المغاربة من أجل اقتناء الكحول وعن هذا يقول القادري: «صحيح أن السلطات الاستعمارية سنت قانونا يمنع بيع الخمور إلى المغاربة المسلمين، لكن لم يكن ذلك القانون يعني المسلمين من الجزائر وتونس والسنغال الذين كانوا أول من بدأ حرفة «تكَرابت» لتسهيل حصول المغاربة على الخمور بسبب هذا المنع». فرنسا نظمت الأحباس الإسلامية ومنعت حملات التبشير المسيحية... اجتهد موظفو الإقامة العامة بالمغرب، في القيام بكل ما من شأنه الحصول على رضا نخب المسلمين، وخاصة منهم نظار الأحباس والعلماء والشرفاء، وطلبة القرويين...، ومن جملة تلك التدابير المتخذة نورد مثال ظهير سنة 1914 المتعلق بنزع الملكية من أجل المصلحة العامة. فالظهير المذكور استثنى من ذلك الإجراء القانوني، وبموجب مادته السابعة، المساجد والأضرحة والمقابر الإسلامية. هذا وكان ليوطي كثير التواصل مع هذه الفئات الاجتماعية، حيث لم يكن يأل جهدا لإغراء العلماء، باعتبارهم شريحة مؤثرة ووازنة داخل المجتمع المغربي، لحثهم على التعاون مع سياسات الإقامة العامة ومراقبة» الأهالي»، وإقناعهم بأن فرنسا تسعى إلى «بناء أساس المخزن الذي كان في اضمحلال...» (الطرابلسي، سمط اللآلئ، ص : 49..) ومن المنظور نفسه يفهم الحظر الصارم الذي فرضه ليوطي على أنشطة بعثات التنصير بالقرى والمداشر المغربية. حينما ارتأت بعض التيارات داخل الإدارة الاستعمارية، بأن المغاربة الأمازيغ مختلفون عن «عرب السهول»، مما شجع الكنيسة الكاثوليكية على تنظيم بدايات حملات تنصيرية بجبال المغرب، قبل أن يتدخل رئيس الاستعلامات وهو العقيد «هيو» ويأمر جميع البعثات الكاثوليكية بالتخلي عن مشروعها التنصيري بالمغرب، وتنقيل الرهبان من الجبال صوب المدن والمراكز الحضرية، حيث اقتصر وجودهم على الرعاية الصحية والاجتماعية للمغاربة دونما دعوتهم لدين النصرانية. عندما تبرعت فرنسا بتنظيم «ركب الحجاج» إلى الديار المقدسة من جملة الأخطاء التي ارتكبها الفرنسيون بالجزائر، وأراد الجنرال ليوطي تجنبها بالمغرب، كان هناك عدم إبدائهم لأية مشاعر الاعتبار للنخبة، وتجاهلهم للعلماء والشرفاء والأوساط الدينية، بحسب ما أورده الباحث جامع بيضا (أعمال الدورة الثانية عشر، جامعة مولاي علي الشريف). ففي إطار «السياسة الإسلامية» التي نهجها ليوطي، تبرعت فرنسا سنة 1916 على عدد مهم من الأعيان المسلمين من شمال أفريقيا وغربها للاستفادة من موسم الحج، فبلغ عدد المغاربة الذين كانوا ضمن الركب المتوجه إلى الديار المقدسة 178 شخصا. وقد دون تفاصيل هذه الرحلة أحد المشاركين فيها وهو الفقيه أحمد الصبيحي السلوي، التي نشرها تحت عنوان : «الرحلة المغربية المكية» نشرت في 16 عددا من جريدة السعادة في أواخر سنة 1916 وبداية سنة 1917. كان المغاربة قبل ذلك، يذهبون إلى الحج على ظهور الأحصنة والجمال في إطار «ركب الحجاج» الذي كان عبارة عن قافلة كبيرة، أشرف عليها السلطان-شخصيا- وكان يؤمر على رأسه «أمير الركب» الذي كان مسؤولا عن أمنه وتموينه وعودته، بعد نهاية المناسك، التي كانت تمتد أحيانا إلى رحلة أخرى مقدسية بفلسطين. ولما بلغ إلى علم ليوطي أن الكثير من الحجاج لا يعودون بسبب المرض أو الجوائح التي كانت تعترض ركبهم، نظم أسفارا على ظهر بواخر عصرية، فاستدعى لهذا الغرض شركة «باكي» التي استقرت بمدينة الدارالبيضاء. وكان يلح على مرافقة أطقم طبية للحجاج بغية مواجهة الأمراض والأوبئة التي كانت منتشرة، وحدث أن صاحبهم ذات مرة طبيب مسلم يدعى «الجبلي»، فنصحهم بعدم شرب ماء زمزم، بدعوى أنه اكتشف به آثار بعض الفيروسات، مما جلب عليه ضربا مبرحا وهجمة جماعية لبعض المتشددين الذين كانوا مرافقين للركب (ليوطي المؤسس الأول للمغرب الحديث، عبد الرحيم الورديغي). جرت العادة بمدينة مكة المكرمة، باستبدال رداء الكعبة كل سنة، بغطاء آخر جديد. وكانت الزربية «الرداء» القديمة تقطع إلى أطراف صغيرة، تسلم كل واحدة منها كهدية لإحدى الشخصيات الإسلامية، عرفانا لها عن مجهوداتها في حماية الإسلام والمسلمين، وفي نهاية الحرب العالمية الأولى (1918-1919) أهدي أحد أطراف «الزربية المقدسة» إلى الماريشال ليوطي فوضعها على أحد جدران مكتبه بالإقامة العامة بالرباط، وفي السياق ذاته يحكي الكاتب الخاص لليوطي بأن قائدين مغربيين كانا في حفلة أقامها ليوطي بالإقامة العامة على شرفهما، فشاهدا على الجدار طرف «الزربية المقدسة» فتحادثا فيما بينهما كون ذلك القماش ذو القيمة الرمزية الكبيرة لا يمنح-عادة- إلا للمسلمين، وقال أحدهما: «إذا كان قد أعطي طرف من الزربية التي كانت تغطي الكعبة إلى الجنرال، فإنه كان يعتقد بالديانة الإسلامية، لكن ليوطي لا يستطيع أن يفوه بذلك أمام مواطنيه وحكومته، وبنشر إيمانه..». قبل أن يتابع كاتب ليوطي الخاص القول: «أليست هذه أكبر حجة للثقة الكبرى التي كان يتمتع بها لدى المغاربة بوسائله الخاصة...» (في ظلال الماريشال ليوطي، ديدي مضارس). مصطفى القادري *: الحماية فطنت للحساسية الدينية لدى المغاربة والظهير البربري أكذوبة تاريخية قال إن فرنسا أوعزت للعالم عبد الحي الكتاني بتكوين رابطة للزوايا المناصرة لها - لماذا اعتنى الاستعمار بالحالة المعنوية والدينية للمغاربة؟ يجب التذكير بأن الاستعمار في المغرب استعماران، إسباني وفرنسي. وليس لأن الدولة الوطنية بعد الاستقلال عممت النموذج الفرنسي على مناطق الاحتلال الإسباني في الشمال وإفني والصحراء وكذلك على طنجة الدولية، فكلا الدولتين كانت لهما سياسات تجاه الأهالي وتجاه النخب، سياسات سميت عربية، وإسلامية و»بربرية» وهلم جرا. سياسات اتبعت سياسة الجزرة للنخب المدينية بعلمائها وتجارها وأهل الحسب والنسب وقواد بعض القبائل وشبكاتهم الذين عرفوا من أين تؤكل الكتف، وسياسة العصا للمقاومين الذين كانوا يسمون بالعصاة Les Dissidents. وأي تحليل خارج هذا المنطق قد يتيه في خطابات إيديولوجية لا تمت للوقائع بصلة. فاحترام الدين الإسلامي وشعائره من طرف الغزاة يدخل في هذه السياسات، ليس حبا أو خوفا، بل لسببين أساسين، إضافة إلى البند الصريح في وثيقة الحماية الذي تتعهد فيه فرنسا باحترام دين الأهالي وشعائرهم وشرائعهم. - ما هما هذان السببان؟ أول السببين تجلى في استدراج النخب الفقيهية والمتفقهة لاستعمالها في تنظيم المخزن الجديد بوظائفه العديدة التي أسالت لعاب العديد من «العارفين بالله»، في الرباطوتطوان، بل واستعمالها في بروبغندا -دعاية- القوات الحامية لترسيخ عظمتها في أذهان النخب في إطار برامج المسامرات. يذكر ذلك عبد الله الفاسي في مذكراته، التي نشرها أحد أحفاده أخيرا بالفرنسية. أما السبب الثاني الذي كانت تدركه القوتان الحاميتان جيدا، ارتبط بحساسية المغاربة تجاه المسيحيين وأنشطة التنصير المرتبطين بالأندلس والموريسكيين وحروب الاسترداد ومعركة وادي المخازن. فلا غرابة إذن أن تنتفض النخب ضد الدولة الحامية بتأسيس الحركة الوطنية، عندما تمسح بل وأصبح كاهنا عام 1927 الحاج محمد بنعبد الجليل، نجل خليفة باشا فاس وسليل إحدى أكبر العائلات المخزنية وأحد أنجب الطلاب الذين أرسلهم ليوطي لفرنسا لتكوينهم قصد استخلاف النخب المخزنية. لقد زلزل هذا الحدث العائلات المخزنية وكذلك أصدقاءه من الرباط وسلا وفاس الذين درسوا معه في الخارج، كما هو الشأن بالنسبة لمحمد بن الحسن الوزاني، و بلفريج والصبيحي وكذلك شقيق المتنصر، الحاج عمر بنعبد الجليل الذي تخرج مهندسا زراعيا ونال حظه من الأراضي في مناطق المعمرين... هنا يبدأ تاريخ الحركة الوطنية، وكل ما يقال عن قصة الظهير المعلوم (المعروف زورا بالبربري) ليس إلا قصصا للتنويم والتمويه والكذب على التاريخ وعلى مفهوم الوطن والوطنية، لأن السيادة المفقودة قانونيا منذ 1912 لا تعتبر كارثة حسب هذا المنظور، بل الكارثة هي عدم قدرة سلطات الحماية بالرباط على استجلاب الفتى «التائه» من باريس، حتى تتمكن العائلة من غسل العار ورده إلى الطريق السوي. أمام هذا المصاب الجلل الذي لطخ سمعة العائلة والمدينة التي تنتمي إليها، وكذلك سمعة كل من تمدرس في مدارس «النصارى»، نظمت عائلته وأصحابه مراسيم دفن رمزية كبيرة جدا في فاس، حتى يعلم الجميع أن العائلة تتبرأ من ابنها وفعله، وذلك في سنة 1928. - كيف أثرت قضية بن عبد الجليل على مسار الأحداث بمغرب الحماية؟ شكل ارتداد بن عبد الجليل وتنصيره، جذور ما يسمى بالحركة الوطنية بالمغرب التي ستختلق قصة الظهير الذي سمي «بربري» في 1930 لتنتقم «لشرفها» المدنس من طرف من وضعت فيه ثقتها ووهبته أبناءها لتعليمهم، لنفهم كيف تمت صياغة الحركة-الوطنية- التي أسس لها العديد ممن درسوا مع بنعبد الجليل وقدموها بغلاف ديني من خلال افتعال قصة الظهير وربطه بالتنصير، بعيدا كل البعد عن مقاصده، حتى تبين من خلال «صلاة اللطيف» مدى تشبثها بدينها الحنيف، وعدم انحيازها للمسيحية رغم تمدرسها في المدارس التي أسستها الحماية لأبناء الأعيان ابتداء من 1913. - تحدث لنا عن عوامل أخرى ساهمت في انتعاش سياسة فرنسا الإسلامية؟ هناك عامل آخر، فخلال الحرب العالمية الأولى دخلت فرنسا في صراعها مع ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية. لتعمد فرنسا إلى استصدار فتاوى من علماء الوقت في مستعمراتها المسلمة يقول فيها أصحابها إن فرنسا تحمي الإسلام والمسلمين في ممتلكاتها الاستعمارية، وإن الخليفة العثماني لا يمثل المسلمين. في السياق الحربي نفسه ضد العثمانيين، احتضنت باريس المؤتمر القومي العربي الأول في 1913، وقامت بإرسال بعثة عسكرية للحجاز لمناصرة شريف مكة عام 1916 برئاسة الكولونيل بريمون الذي كان حاكم الرباط. بريمون اصطحب بمعيته في مهمته طابورا من الرماة الجزائريين، وبعثة مدنية متكونة من نخب المسلمين برئاسة بن غربيط بذريعة التأسيس لأحباس مسلميها في الأماكن المقدسة. وبعد الحرب، في سنة 1922 ستضع فرنسا حجر الأساس لبناء مسجد باريس، اقتداء ببرلين ولندن، وتدشنه في سنة 1926 وتسند إدارته لبن غربيط الذي قدم لفرنسا خدمات جليلة منذ أن كان مترجمها بطنجة، ثم مترجمها في فاس ثم مدير البروتكول السلطاني في الرباط. كما قامت ببناء المسجد باحتيالات قانونية عديدة، حتى تتمكن من تجسيد دورها كقوة إسلامية كما جاء في وثائق برلمانها. لأن «فرنسا العلمانية» كان يمنع فيها القانون على الدولة تمويل نشاطات دينية. - تتحدث العديد من الكتابات التاريخية عن تعاون شيوخ الطرق والعلماء مع إدارة الحماية. كيف تفسرون ذلك؟ تقع هذه الفكرة الرائجة ضمن أدلوجات «الحركة الوطنية» التي أرادت تبرئة أقطابها من التعاون المبكر مع الاستعمارين، وطريقة ماكرة لتبرير ذلك، بالاستدلال بأن «أهل الله» وقعوا فيما وقع فيه أهل المال والتجار، الذين استفادوا كثيرا من حروب الاحتلال، لأنهم كانوا يبيعون المؤونة والزاد للغزاة. وكم من رأسمال تكون خلال حروب الغزو العسكري للمغرب... لكن، هذا القول تعميم غير منصف. رغم أن شيوخ بعض الزوايا تعاملوا مع المحتلين قبل أن تطأ أقدام الجيوش بلادنا. ومنهم من وفر الحماية والتغطية للرحالة المستخفين خلال تجوالهم في المغرب. بل ومنهم من خدم فرنسا عندما بدأت توسيعها للجزائر الفرنسية الذي بدأته بعد 1880. ثم مع بروز الكتاني الذي ناصر بن عرفة ضد بن يوسف في 1953 والذي أكسبه صورة «الخائن» بامتياز، مما ساهم في تطور الصورة النمطية التي وظفتها الحركة الوطنية وأحزابها للتسويق لنفسها مستغلة هذا المعطى، خصوصا أنه منذ الثلاثينات قامت فرنسا بمساعدة الكتاني في تكوين رابطة للزوايا المناصرة لها في شمال إفريقيا الفرنسية كما فعلت في غرب إفريقيا حتى تحجم دور الزوايا المناوئة. - هل هناك نماذج لزوايا قاومت الاستعمار؟ أكيد، فعندما أنزلت فرنسا قواتها سنة 1907 بالدارالبيضاء بعد قصفها، قام الشيخ البوعزاوي بتأليب المقاومة وجمع مقاومي القبائل، كما ساهم في نصرة مولاي حفيظ بالشاوية المحتلة ضدا على شقيقه مولاي عبد العزيز، لكن بعد الحماية ستقوم فرنسا بوضع الشيخ البوعزاوي في إقامة إجبارية بمراكش. كذلك، بالرغم من مناصرة الدرقاوية في بني زروال لفرنسا في حرب الريف مثلا، كان فرعها في الأطلس المتوسط -مقاوما- وآخر من وضع السلاح بزعامة المكي أمهاوش في معركة تزيزاوت في شتنبر 1932 . وعسو باسلام زعيم مقاومة آيت عطا وزايد أسكونتي زعيم مقاومة آيت مرغاد اللذان قاوما إلى غاية مارس وشتنبر 1933 كانا درقاويين، في الوقت الذي نجد فيه الكلاوي التيجاني أو الكتاني في خندق فرنسا. إذا لا يمكن التعميم بتاتا في هذا الجانب، تعميم استخدمته الحركة الوطنية والحركة السلفية للانقضاض على أتباع الزوايا تحت ذريعة محاربة الطرقية والشوائب وليخلقوا زعماء جدد لتأليب أتباع جدد. هنا يجب الربط بين قيام الحركة السلفية بالمغرب وتشجيعها من طرف الاستعمار الذي أسند لزعمائها مناصب أساسية في المخزن الجديد. فمثلا أبي شعيب الدكالي الذي يذكره الوطنيون كأستاذ للأجيال، كان في مراكش قاضيا وعندما دخلت الجيوش الفرنسية المدينة استقبلها بمعية قياد الأطلس وأحوازها عقب معركة سيدي بوعثمان في شتنبر 1912 ضد جيوش «السلطان الأزرق» أحمد الهيبة ابن الشيخ ماء العينين. وحسب الرواية التي أوردها المختار السوسي في كتابه المعنون ب»حول مائدة الغذاء»، على لسان شاهد عيان، تطوع أبي شعيب الدكالي وقرأ خطاب الترحيب بالغزاة وقائدهم الكولونيل مانجان الذي انتشى عندما تعرف عن القارئ قائلا: «هذا هو نوع النجباء الذي نحتاج إليه..». وسيتولى أبا شعيب الدكالي وزارة العدلية بالرباط بعيد ذلك في ظل ليوطي ليسهر على وضع لبنة المحاكم والأحكام الخاصة ب»الأهالي» من محاكم القياد والباشوات المختصة بالدعاوي المدنية والجنائية ومحاكم القضاء الشرعي المختصة في الإرث والزواج والطلاق والعقار.
* أستاذ باحث بجامعة محمد الخامس -الرباط لهذه الأسباب رعت الحماية الزوايا والأضرحة... اهتمت بها الدراسات الأنتربولوجية منذ مطلع القرن العشرين، لما شكلته من رابط اجتماعي بين المغاربة، ومشترك لحسهم ومشاعرهم الروحية. كانت ظاهرة مواسم الزوايا والطرق الصوفية- ومازالت- تعد تعبيرا نموذجيا لفهم الهوية الدينية، وأشكال التدين عند المغاربة، وكذا تمثلهم للأنساق الرمزية في حياتهم اليومية. وظفت الأنساق الرمزية والروحية لتلك المؤسسات الاجتماعية (أضرحة، زوايا، أولياء..) في إطار ممارسات سياسية تخدم أغراضا استعمارية تحت يافطات «التغلغل الهادئ» و»الاختراق المسالم». فمنذ السنوات الأولى للحماية الفرنسية شكل تنظيمها إحدى أولويات الجنرال ليوطي، تمثل ذلك في افتتاحها ومشاركة الأهالي في احتفالاتها، وقد خصصت جريدة السعادة العديد من التغطيات الإخبارية لاحتفالات المغاربة بالمواسم في الحواضر والبوادي (أمل، عدد 41، 2013)، واعتبرت في إحدى تلك التغطيات: «أن هذه المواسم العظيمة القدر في جهاتها الجامعة للخلائق تستحق الاعتبار وتسحق الإنصاف. تستحق الاعتبار لإعطاء الدليل على الأمن وفرح الأمة وسرورها وخلاء البال من الأكدار واطمئنان النفس إلى الدعة في الهدنة والراحة، وتستحق الإنصاف في الاعتراف بفضل الحكومة وقيام موظفيها بضبط الأمن وتوسيع نطاق المعيشة بين الرعية. فهذه المواسم التي نرى أثرها كل يوم ونرى فيها من الأدلة على ائتلاف القلوب ومد رواق الأمن يجب الاعتناء بها وتعزيز شأنها».(جريدة السعادة، عدد 1099، 13 نوفمبر 1915). حرص ليوطي من خلال احتضان مقامات الأولياء ورعايتها، على ترسيخ نظريته في تطبيق «السياسة الإسلامية الفرنسية»، باعتبارها أحد المداخل الأساسية لعلميات «التهدئة» وإحكام السيطرة على البلاد بأقل التكاليف العسكرية والخسائر البشرية، سيما وأن العديد من الدوائر الفرنسية نعتته -آنذاك- ب»مشير المسلمين»، وهو الوصف الذي يؤكده ما جاء في خطابه في أهالي منطقة الغرب، بمناسبة افتتاح موسم سيدي بوسلهام قائلا: « وأنا أعلم أن لكم الثقة بعدالتنا وباحترامنا لتقاليدكم وعوائدكم وطرقكم الدينية. وترون كم نحترم مساجدكم ونحترم كل ما يمس شعائركم وشعوركم الديني..» (جريدة السعادة، عدد 833، 1 نوفمبر 1914). كما أدرك المقيم العام ليوطي منذ وقت مبكر، بأن المواسم ومزارات الصالحين تشكل وسيلة تواصل ناجعة، في اتجاه الجنوح نحو السلم والوقوف بجانب الدول الحامية –فرنسا- وهو الأمر الذي بدا جليا في الحرب العالمية الأولى، حين سخر ليوطي كل الوسائل لمواجهة السياسة الإسلامية المتبعة من لدن ألمانيا عن طريق الإمبراطورية العثمانية، التي اصطفت إلى جانبها في الحرب العالمية الأولى ضد فرنسا، وفي هذا الصدد خاطب ليوطي أهالي الغرب قائلا: «ولا يخفاكم أن الألمان يتباهون بأنهم أصدقاء المسلمين فلا يخفاكم أنهم حيثما كان لهم سلطة كانوا جبابرة لا طاقة للأمم بها وبحمل نير عبوديتهم، فلا يعاملون الوطنيين إلا بالقهر والعنف، وحيثما مروا لا يحترمون المعابد والمساجد بل يهدمونها، وأنتم ترون بعكس ذلك منا، وترون كم نحترم مساجدكم...». السلطان مولاي يوسف كاد يُنصّب خليفة للمسلمين بعد تنصيبه سلطانا خلفا لمولاي حفيظ، وذلك عقب توقيع هذا الأخير لمعاهدة الحماية بفاس سنة 1912. أحاط ليوطي وموظفو إدارة الحماية السلطان الجديد –مولاي يوسف- بهالة من التوقير والإجلال، فبواسطة «سياسة الاعتبار» هذه، تجاه السلطان ورجالات المخزن والنخبة العالمة، كانت الحماية الفرنسية ترغب في أن تظهر للمغاربة أن الاحتلال الفرنسي لم يحدث قطيعة تامة لهم مع ماضيهم وتقاليدهم، وأن استمرار الدولة العلوية برهان على ذلك. ومن هذا المنطلق كانت جل السياسة الاستعمارية قائمة على العمل باسم السلطان، سواء تمت استشارة العاهل أو لم تتم استشارته، وكان ليوطي يترجم تلك السياسة بحذافيرها بمناسبة تواصله مع السلطان، ففي حفل عشاء أقامه في الرباط، يوم 28 شتنبر سنة 1917 بمناسبة عيد الأضحى، خاطب المقيم العام الحاضرين قائلا: «وإذ أمثل هنا الحكومة الفرنسية، فإنني أيضا أتشرف بأن أكون أول خادم لسيدنا. إنكم تعرفون جميعا مشاعر الاحترام التي أكنها لجلالته، وهي ليست موجهة لشخصه المقدس فحسب، ولكن أيضا لأنني أجد فيه التأييد المستمر، والنصائح الرشيدة، ومشاعر العدالة التي لا يمكن للمرء إلا أن يعجب بها، وكذلك رغبة أكيدة في رؤية إمبراطوريته تتطور في ظل النظام والسلام والتقدم». تعرض ليوطي بسبب إعجابه ورعايته المفرطة للسلطان مولاي يوسف، إلى انتقادات شديدة في صفوف الحزب الاستعماري، أولئك الذين رأوا في مواقفه بوحا بمشاعره الملكية المكبوتة، والمتناقضة مع مبادئ الثورة الفرنسية والجمهورية. ودفعا لتلك الاتهامات، اجتهد ليوطي مرات عديدة في شرح وتبرير اختياراته لوزارة الخارجية الفرنسية، ففي رسالة مؤرخة في 29 أكتوبر سنة 1924، كتب ليوطي ما يلي: «إن قاعدتنا الأقوى في الاعتماد أكثر من أي وقت مضى على هيبة السلطان ونفوذه، وعلى كل المبادئ التقليدية التي مازالت تتشبث بها الجماهير المغربية في منطقتنا». ولما كان السلطان يشكل زعيما دينيا كذلك، إلى جانب منصبه السلطاني الدنيوي. فإن المقيم العام لم يدخر جهدا في إيلاء السلطان مكانة دينية سامية، وإظهار الاحترام للدين الإسلامي وشعائره، وكذا للمؤسسات الدينية مثل الأحباس. وفي سياق مواجهة الآلة الدعائية الألمانية والتركية التي وجدت صدى لدى بعض المغاربة، استصدرت سلطات الحماية الفرنسية بالمغرب فتاوى دينية لنزع الشرعية عن الخلافة العثمانية، بحجة كونها ليست سليلة البيت النبوي. وممن انبروا لتلك «العنتريات الفقهية» كان هناك كل من عبد الحي الكتاني، وأحمد بن المواز وأبا شعيب الدكالي والعربي الناصري ومحمد الروندة وغيرهم من العلماء والقضاة وشيوخ الزوايا. وقد بلغ الأمر بليوطي في خضم هذه المواجهة الإعلامية أن راودته فكرة تقديم السلطان مولاي يوسف كبديل للخليفة العثماني، بحكم كونه سليل الدوحة النبوية الشريفة. لكن هذا المشروع كان ظرفيا ولم يجد أرضية متينة لتفعيله ضمن التصور العام للسياسة الأهلية التي اعتبر ليوطي مهندسها بامتياز. وذلك بحسب ما أورده الباحث جامع بيضا في –أعمال الدورة 12 لجامعة مولاي علي الشريف –»السياسة الإسلامية الفرنسية بالمغرب في عهد السلطان مولاي يوسف». إسبانيا منحت الاستقلالية لوزارتي الأحباس والعدلية كان الشأن الديني خاضعا على غرار بقية الجوانب المجتمعية للإدارة الإسبانية عبر بعض المتعاونين معها من الموظفين المغاربة، باستثناء سبتة ومليلية، حيث ظل خارجا عن التوجيه الاستعماري، وتم إنشاء مجلس للمسلمين يقوم بمهام تدبير الشأن الديني في الثغرين المحتلين، فلم تكن إسبانيا تتدخل في شعار المسلمين من صلاة وصيام وحج بشكل مطلق نهائيا. وقد فطنت الإدارة الإسبانية لاحقا إلى حساسية الجانب الديني لدى سكان باقي مدن الشمال وصعوبة فرض أي قوانين أو ظهائر تنظم للمسلمين شعائرهم، فكان أن اتخذت أواسط الثلاثينات قرار منح استقلالية لوزارتي الأحباس والعدلية عن إدارتها الاستعمارية لإظهار حسن نواياها في تدبير الشأن الديني، رغبة منها في كسب ود المغاربة وتتجنب أي احتجاجات من قبلهم. وتشير العديد من كتب المؤرخين أنه وقع استغلال للإسلام من طرف الحركة الفاشية الفرانكوية التي انطلقت من إقليم الحسيمة في 18 يوليوز 1936، بقيادة الجنرال فرانكو ضد الحكم الشرعي الجمهوري الذي كان قائما في إسبانيا، وهو الذي أوعز بطرقه الخاصة إلى بعض المتصوفة أصحاب الزوايا إلى أن الوقت حان كي يتحركوا في إطار حركة صوفية دينية في إقليم الشمال، من أجل إيجاد توازن ما بين الدين والوطنية، حتى لا ينخرط الجميع في الوطنية السياسية. فضلا عن ذلك كانت هناك محاولة لإنشاء حزب الإصلاح الديني من أجل سحب البساط من تحت أقدام حزب الإصلاح الوطني الذي يتزعمه عبد الخالق الطريس، وكبح قوته وفعاليته، حتى لا يبقى مهيمنا في الساحة وحتى يقل تأثيره. وكانت الفكرة الأساسية التي تقوم عليها محاولة إنشاء الحزب الجديد هو إيصال قناعة لمغاربة الشمال بأن لا حاجة لهم في مواجهة إسبانيا طالما لا تتدخل في شؤونهم الدينية وتركت لهم الحرية في ممارسة شعائرهم، وبالتالي لا حاجة لهم أن يقوموا بمشاكسة نظام الحماية لأنه يرعى ويصون هذه الحقوق، وأوكل أمرها إلى وزارتين مستقلتين عن سلطة الحماية. وتفيد بعض الكتابات التي أرّخت للمرحلة أن إسبانيا لم تتدخل بالفعل في تدبير المغاربة لأمور دينهم، والدليل وقوفها على الحياد في كثير من الحالات حين يتعلق الأمر بقضية شرعية أو خلاف مذهبي، كما حصل مع المصادمات التي وقعت بين الزاوية الصديقية في طنجة وبين الحكومة الخليفية في تطوان، بسبب خلاف حول تفسير المذهب وتطبيقاته. أو المصادمات التي وقعت بين العالم المغربي تقي الدين الهلالي والجهاز المخزني الديني في تطوان حول بعض الأمور الشرعية. والتي أدت لاحقا إلى سجنه من طرف السلطة المغربية ممثلة في وزارة العدلية في شفشاون. وفي كلتا الحادثتين بقيت إسبانيا على الحياد، ولم تتدخل في مثل هذه الحوادث، سواء كان هناك انسجام بين الفاعل الديني والجهاز المخزني أو كانت هناك مصادمات. ومقابل «الابتعاد» عن الأمور الدينية للمغاربة كانت إسبانيا حريصة على دور الجهاد باعتباره أمرا دينيا وشرعيا، بل منعته منعا كليا بمصادرتها للأسلحة، بمبرر أنه يضر بمصالحها ومنعت أيضا الكتب التي تشير إلى اليقظة الإسلامية مثلا ما فعلت مع كتاب «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم» لشكيب أرسلان اللبناني، بل عمدت إلى سجن بعض رموز الحركة الوطنية الذين كانوا يروجون الكتاب ويتبنون أفكاره. جهاد ضد الكفار مع «الحاج عبد السلام فرانكو» سنة 1936 استولى الجنرال فرانسيسكو فرانكو على الحكم عقب انقلاب عسكري ضد حكم الجبهة الشعبية، وكان هذا إيذانا ببدء الحرب الأهلية الإسبانية التي استمرت 3 سنوات. وقد تطلبت العمليات العسكرية التي قادها الجنرال فرانكو تقوية صفوف جيشه بتجنيد عدد إضافي من الجنود المغاربة، مستغلا ظروف العيش السيئة في الريف وسعي آلاف السكان لتحسين دخلهم والهروب من البؤس والفقر. وتشير الكتابات المؤرخة لهذه الفترة إلى أن الديكتاتور الإسباني كلف الكولونيل خوان بيكبيدير بمهمة الدعاية للنظام الجديد وباستقطاب الأهالي إلى جانبه في الحرب الأهلية الإسبانية، ولم يكن بيكبيدير يفوت فرصة لقاء أو خطاب إلا وحث المغاربة على الالتحاق بصفوف الثوار، مؤكدا على «الأخوة الإسلامية الإسبانية» التي يرعاها الأب الحنون فرانكو، ويشنع بالمقابل بالجمهوريين الذين يصفهم بالشيوعيين أعداء الإسلام والمسيحية. تشير الكاتبة والمؤرخة الإسبانية مارية روسا دي مادارياغا في كتابها «مغاربة في خدمة فرانكو» إلى إن معاوني فرانكو سواء من الإسبان أو من المغاربة أطلقوا حملات واسعة لتجنيد الريفيين، مستغلين ظروف الفقر تارة، وتارة أخرى مستغلين جهلهم ليدغدغوا مشاعرهم من خلال إثارة فكرة أن قتالهم إلى جانب فرانكو هو «قتال ضد الكفار». تقول المؤرخة «من الحيل التي اعتمد عليها الاحتلال الإسباني لتجنيد المغاربة وضمان ولائهم وحماسهم، استغلال المشاعر الدينية ضد الكفر والإلحاد والشيوعية، وإغراء المجندين بالجهاد في سبيل الله إلى جانب فرانكو «المؤمن» الذي يسعى إلى تطهير إسبانيا والمغرب من الكفار الذين لا رب لهم». ولم تكتف الآلة الدعائية للجنرال بإشاعة فكرة «الجهاد ضد الكفار»، بل تم الترويج لإشاعة دخول الجنرال إلى الإسلام وأنه اختار من الأسماء عبد السلام وحج إلى بيت الله الحرام، وأنه على المسلمين الالتحاق بجيشه لإعادة الأندلس إلى حضن الإسلام. وفي المقابل عمدت سلطات الحماية عبر مندوبية شؤون الأهالي بتطوان إلى تنظيم عدة رحلات للحج وفي إحدى هذه الرحلات استقبل الجنرال فرانكو وفد الحجاج الذين عرجت بهم البارجة الألمانية على اشبيلية عبر «الوادي الكبير» وخطب فيهم قائلا :»لقد كانت إسبانيا والإسلام، الشعوب الأكثر تفاهما دائما، أبدا. وفي الفترة العالمية الحالية ظهر عدو ضد الإنسانية وضد كل المؤمنين الذين لهم عقيدة، يجب عليهم أن يتحدوا لمواجهة هذا الخطر، هذا هو جوهر الإسلام.» وقد أوردت ماريا روسا دي مادريارغا في كتابها أنه «في 22 يناير 1939 كتب أحد الحجاج، خلال توقفهم بطرابلس، رسالة إلى أحد أصدقائه يعبر له فيها عن شكرهم وامتنانهم العميق لفرانكو، وكيف أن كل الحجاج على متن الباخرة يرفعون أكف الضراعة داعين بالنصر لفرانكو حامي الإسلام وصديق المسلمين». أما المؤرخ المغربي ابن عزوز حكيم فيؤكد أنه «من ضمن هذه الوفود من كان يقسم أنه رأى فرانكو يؤدي مناسك الحج». أعد الملف - يوسف منصف - مولاي ادريس المودن