منذ زمن بعيد ظل الكتاب يلعب أدوارا طلائعية في حياة الإنسان، ويساعده على التعرف على نفسه وعلى الآخرين. وعلى مر العصور ظهرت ملايين الكتب التي تم تداولها بين الناس، ولكن الكتب التي حافظت على رونقها واخترقت الأزمة والأمكنة قليلة. والسبب في ذلك راجع إلى أن القراءة حاجة قبل كل شيئ، ومن ثم فإن القارئ هو من يمنح الكتاب عمرا مديدا أو يقوم بوأده بمجرد ظهوره. وتلك الحاجة تمليها السياقات المختلفة للقارئ الذي يبحث عن أجوبة مقنعة لأسئلته الكثيرة عما يحيط به. فما الذي يجعل كتابا رأى النور منذ قرون موضوع اهتمام كبير، وما الذي يجعل كتابا حديث العهد محل إهمال كبير؟ وحدها «أمهات الكتب» هي التي تحافظ على راهنيتها وتخترق الأزمنة والأمكنة لتحيى بين الناس. «الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية» هو الكتاب التمهيدي لمشروع الأستاذ محمد عابد الجابري حول «نقد العقل العربي»، وهو المشروع الذي أخذ من عمره العلمي حوالي ثلاثة عقود من الزمن، وأسفر عن عدد من الأعمال التي تشهد على الدور الريادي، الذي قام به هذا المفكر المغربي في سبيل إعادة صياغة الثقافة العربية المعاصر بما يستجيب للشرط التاريخ الذي يهيئ لدخول القرن الواحد والعشرين. ومن هذه الأعمال «تكوين العقل العربي»، «بنية العقل العربي»، «العقل السياسي العربي»، و»العقل الخلاقي العربي». ولئن كان محمد عابد الجابري يرى في «الخطاب العربي المعاصر» «تمهيدا لمشروعنا الأساسي، مشروع نقد العقل العربي»، فإن بوادر هذا المشروع بدأت تظهر كإرهاصات أولية قبل بداية الثمانينيات من خلال كتابيه «العصبية والدولة» و»نحن والتراث»، وفي مجموعة من الأعمال الأخرى التي ظهرت تباعا منذ منتصف السبعينيات، والتي كانت تنم عن عدم رضى عن الطرق التي كان يسلكها الفكر العربي المعاصر وهو يعالج «المعضلات» الكبرى التي أثارها الفكر النهضوي وعجز عن أن يقدم أجوبة مقنعة عنها. إن النظر إلى كتاب «الخطاب العربي المعاصر» باعتباره «تمهيدا» لمشروع نقد العقل العربي، يجعل منه كتابا مؤسسا بكل معاني الكلمة، ذلك أن التمهيد في الحالات العادية يهدف إلى توضيح عدد من المسائل ذات الطبيعة النظرية والمنهجية، وإلى التعريف بالجهاز المفاهيمي الذي يشتغل به المؤلف من أجل بناء تصوره للمسألة التي يعالجها. ومن هنا فإنه إذا كان «نقد العربي العربي» كتابا مؤسسا في منهجه ورؤيته، وفي النتائج الباهرة التي توصل إليها، فإن أهمية «الخطاب العربي المعاصر» تنبع من أنه يعد عتبة المشروع. ومن هنا مكانته الكبيرة في سياق فكر محمد عابد الجابري. يبرز صاحب «العصبية والدولة» ضرورة إعادة النظر في الخطاب العربي المعاصر، سعيا إلى نقده وتجاوزه بالرجوع إلى الفكر النهضوي، الذي مضى على تدشينه أكثر من قرن من الزمن، ولكنه ما زال يراوح مكانه، ولم يستطع أن يربح الرهان في تحقيق هدف «النهضة». ويصدر حكما قاسيا على حصيلة هذا الفكر وتأثيره في الواقع العربي: «لقد تحققت في العالم ككل، خلال المائة سنة الأخيرة، خطوات عملاقة على صعيد تطور الحياة البشرية في كافة الميادين. ومع ذلك فإن نصيب العرب من هذه الخطوات ما زال دون طموحهم بكثير، بل إن الواقع العربي الراهن، إذا ما نظر إليه من نقطة ما، في أواخر القرن الماضي، أي من زاوية ما كان يجب أن يفعله العرب، ليحملنا على التساؤل: هل تمكن العرب فعلا من تحقيق نهضتهم؟»، يجيب الجابري عن هذا التساؤل بنوع من التشكيك الذي لا يخفي «خيبة أمل» كبيرة فيقول إن «الواقع الكئيب الذي افتتح به العرب ثمانينيات هذا القرن ليطرح بجد مسألة ما إذا كان العرب يتقدمون بخطوات (سريعة أو بطيئة) إلى الأمام، أم أنهم بالعكس من ذلك يغالبون بدون أمل الخطى التي تنزلق بهم إلى الوراء»؟ لا يحتاج المرء إلى كثير عناء لكي يصل إلى ما وصل إليه الكاتب من «خيبة أمل» في الفكر العربي الحديث. ولذلك فإنه يعترف أن السؤال قد طرح وعولج بطرق مختلفة في مستواه الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي. ولكن تلك المعالجة في نظر الجابري لم تثمر لأنها لم توجه «أصابع الاتهام» إلى «تلك القوة أو الملكة أو الأداة التي بها «يقرأ العربي و»يرى» و»يحلم» ويفكر و»يحاكم». إنه «العقل العربي» ذاته». يتعرض الكتاب لتوضيح مجموعة من المفاهيم التي ستستعمل في الكتاب بصفة متواترة، لأنها تعتبر مفاهيم/مفاتيح لفهم العمل كله. وأول هذه المفاهيم مفهوم الخطاب. فإذا كان «الفكر العربي المعاصر» يتجسد من خلال نصوص، فإن هذه النصوص هي بمعنى ما «رسالة» من الكاتب إلى القارئ. إنها خطاب. وبما أنه كذلك فإنه نتيجة تفاعل بين القارئ وبين الكاتب عبر القراءة التي تخضع لمستويات متعددة، ذكر منها الجابري القراءة الاستنساخية والقراءة التي تقوم على «التأويل» لكي يقترح مستوى آخر من القراءة سماه القراءة «التشخيصية». والقراءة التشخيصية ترمي إلى إعادة تشخيص عيوب الخطاب وليس إلى إعادة بناء مضمونه. وبتعبير الأستاذ الجابري فإن هذه القراءة «تريد أن تعرض وتبرز ما تهمله أو تسكت عنه أو تتستر عليه أو تحاول إذابته القراءتان السابقتان. إنها كشف وتشخيص للتناقضات التي يحملها الخطاب سواء على سطحه أو داخل هيكله العام». وبلغة أخرى، فإن الاهتمام سوف لن يتجه إلى ما يقوله النص، بل إلى الكيفية التي قال بها ما قاله. ومن ثمة سيحيد هدف الكتاب عن إبراز الجانب الإيديولوجي والمحتوى المعرفي للفكر العربي المعاصر، ليتفرغ لكل ما يحمل علامات العقل فيه، أي الطريقة التي فكر فيه بها والآليات التي أنتجها. وقد فرض هذا الانتقال من: ماذا قال النص؟ ولماذا قال ما قاله؟ إلى: كيف قال؟، منهجا خاصا. من الضروري في هذا السياق أن نسجل تواضع العلماء الذي اتسم به الجابري وهو يتحدث عن المنهج الذي اختاره لتناول الفكر العربي المعاصر من زاوية نقد العقل. في الوقت الذي كان فيه الفكر العربي في بداية الثمانينيات مفتونا بالمناهج، وكان فيه الباحثون يتنافسون في تحقيق السبق في اعتماد هذا المنهج أو ذاك، فإن الجابري يعلن أنه لا يتبنى منهجا من المناهج الجاهزة، فهو يؤمن بأن «طبيعة الموضوع ونوع الهدف المطلوب هما اللذان يفرضان الأخذ بمنهج معين، أو بعدة مناهج، أو «اختراع» منهج جديد». وبهذه الطريقة يقف على نفس المسافة بين جميع المناهج ما دام المنهج في البدء والنهاية هو «المفاهيم التي يوظفها الباحث في معالجة موضوعه والطريقة التي التي يوظفها بها». وقارئ الكتاب يلاحظ أن الجابري أخلص لهذا المبدأ عندما وظف عددا من المفاهيم التي تنتمي إلى مرجعيات مختلفة (كانط، فريد، باشلار، التوسير، فوكو، ماركس). يصنف محمد عابد الجابري من الناحية الإجرائية الخطاب العربي إلى ثلاثة أنواع حسب الموضوع ونوع الاهتمام: الخطاب السياسي، وهو ما يدور حول العلمانية وما يرتبط بها والديمقراطية وإشكاليتها، والخطاب القومي ويرتكز على العلاقة بين الوحدة والديمقراطية والتحرير، والخطاب الفلسفي الذي يتناول إشكالية الأصالة والمعاصرة. وقد خصص لكل صنف من أصناف الحطاب العربي المعاصر دراسة وافيا ليعقد في الأخير فصلا يجمع بين شتاتها ويكشف عن أن نفس المنطق ونفس «العقل» هو الذي أنتجها. وقد أفضى نقد العقل إلى مجموعة من النتائج هي بمثابة دعوة غير مباشرة إلى التفكير بطريقة مغايرة للوصول إلى هذه النقلة النوعية التي تحقق أهداف النهضة. ويكشف الجابري في الكتاب عن بعض جوانب إفلاس الفكر النهضوي. فهو لم يستطع بعد مضي أكثر من مائة سنة «إعطاء مضمون واضح» للنهضة التي يبشر بها. وهو ما يعني غياب برنامج عمل، مبني على رؤية لمستقبل العالم العربي. والسبب في ذلك راجع إلى أن الخطاب النهضوي لم يكن مبنيا على دراسة للواقع العربي في «حركته وآفاق تغييره أو اتجاه تطوره»، بل من إحساس بالفارق الحضاري بين العالم العربي والغرب. كما أن هذا الخطاب لم يستطع أن يصوغ «مشروع نهضة ثقافية» حقيقية، بل ظل يرزح تحت هاجس الإحساس بالفارق الحضاري ويئن تحت وطأة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، أي الجمع بين سلطتين مرجعيتين هما مرجعية التراث ومرجعية الغرب. الشيء الذي أفقده استقلاليته وشخصيته الفكرية. فقد ظل يتأرجح بين هذين الإطارين المرجعيين دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن «نموذج» ثالث يستوعب المرجعيتين معا، ويستوعب في نفس الوقت الواقع العربي في المقام الآول. أما الخطاب السياسي العربي النهضوي فظل يحكمه التناقض في مرجعته، وهو التناقض الذي تفصح عنه ثنائيات: الدين والدولة، والإسلام والعروبة، والجامعة الإسلامية والوحدة العربية والديمقراطية والقومية. ولذلك لم يكن بأحسن حال، فقد ظل حبيس علاقة التلازم بين الوحدة والاشتراكية والتحرير، مما أسقطه في مجموعة من التناقضات المستعصية على الحل. وأخير رأى محمد عابد الجابري في الخطاب الفلسفي الذي أعلن انتماءه للخطاب النهضوي، خطابا توفيقيا بين «أصالة» فلسفة الماضي، و»معاصرة» الفكر الأوربي. وأدى به منطق التوفيق هذا إلى غياب العقل. والحال أنه لا يمكن لخطاب يهاجم العقل ويهمشه أن ينتج ويؤصل فلسفة. وهكذا ظل الخطاب العربي المعاصر أسير مفاهيم «لا تعكس الواقع العربي الراهن، ولا تعبر عنه، بل هي مستعارة في الأغلب الأعم إما من الفكر الأوربي (...) وإما من الفكر العربي الوسيطي». والنتيجة أن العلاقة بين الفكر وموضوعه قد بترت، وهو ما أدى إلى أن مفاهيم مثل النهضة والثورة والأصالة والمعاصرة والشورى والديمقراطية....هي مفاهيم ينقصها التحديد والضبط، لآنها «لا ترتبط بواقع موضوعي يمكن الاحتكتم إليه بشأنها». وإنما تعود إلى مجموعة من العوامل والمتغيرات التي تجعل منها مفاهيم تتكيف في ماهيتها ومضمونها مع كل مرحلة، وقد تصل درجة «التكيف» إلى حد التناقض أحيان حسن مخافي