«شكري وطنجة: الكاتب ومدينته» كتاب أصدره الفنان رشيد التفرسيتي ورشيد الوطاسي. وقد كان الكتاب الحدث الأبرز الذي ميز إحياء الذكرى الخامسة لوفاة محمد شكري. كتاب يتضمن صورا ونصوصا، ويستقرئ فضاءات المدينة الأسطورية وفي قلبها ذاكرة هذا الكاتب الكبير. يشكل كتاب «محمد شكري وطنجة: الكاتب ومدينته» الذي أصدره المصوران الفنانان رشيد التفرسيتي ورشيد الوطاسي أهم ما ميز إحياء الذكرى الخامسة (التي حلت في شهر نوفمبر المنصرم) لوفاة مؤلف «الخبز الحافي». أقول أهم ما ميز، رغم إحساسي بأن ذكرى وفاة هذا الكاتب الكبير مرت باهتة، في غياب مؤسسة تحمل اسمه وتعنى بتراثه، مع أنه إبان حياته، «ملأ الدنيا وشغل الناس» كما قيل قديما عن الشاعر أبي الطيب المتنبي. لذا لابد من التنويه بكتاب «محمد شكري وطنجة»، ومن توجيه الشكر للمشرفين على إعداده ونشره. إنني أعتقد أن محمد شكري كان سيكون مسرورا أيضا بصدور هذا الكتاب لكونه يقرن بين مصيره الأدبي، ومصير مدينة طنجة التي كان حريصا على الانتساب إليها إلى درجة أنه أجاب أحد الصحفيين عندما سأله عن هويته ككاتب قائلا: «أنا كاتب طنجاوي». يمكن تصنيف كتاب «محمد شكري وطنجة» ضمن الكتب الجميلة Les beaux livres، وهو التصنيف الذي يميز كتبا تجمع بين الصور والنصوص والتعليقات، وإن كان المهيمن فيها هو المكون الأول: مكون الصور. إنه إذن كتاب تحاور فيه الصورُ النصوصَ، ويحاول فيه كلا المكونين التذكير بمحمد شكري وبأصدقائه، مع رسم الفضاءات الطنجاوية التي شكلت حياته، كما شكلت سياقات واقعية أو محتملة أو مفترضة لإبداعاته الأدبية في الرواية والقصة القصيرة والمسرح والشعر. والواقع أن شكري، بقدر ما كان موضوع دراسات نقدية أو نصوص تصل ما بين أدبه وحياته أو حواراته، بقدر ما كان أيضا «موضوعا تصويريا بامتياز»، يحرص على أن تلتقط له الصور مع معارفه وأصدقائه، كما يحرص هو أن يلتقط الصور بنفسه لمن يستحقون منه ذلك. إن هذه الخاصية المزدوجة في اعتقادي هي ما عمد هذا الكتاب إلى إبرازه من خلال توفيره، إلى جانب المادة الصورية، مادة نصية، بابلية، تتحدث اللغات العربية والإسبانية والفرنسية والألمانية، وتعكس تنوع المقاربات التي كان مؤلف «الخبز الحافي» موضوعا لها. يخاطب الجانب البصري في كتاب «محمد شكري وطنجة» عين المتصفح من خلال الألوان تارة، ومن خلال الأسود والأبيض تارة أخرى. صور بالغة الجمال تستقرئ فضاءات المدينة الأسطورية، في بعديها العصري والعتيق، كما تختطف لحظات منفلتة من معيش ساكنتها، في غفلة عنهم في الغالب. هنالك أطفال يعبثون ويلهون، ونسوة يتحدثن تحت زخات المطر، وعابرون ساهون، وطيور تحلق في مرآة غروب ساج، وبحارة يستعدون لمغامرة ولوج البحرين بحثا عن الرزق، وقبور توشك أن تختفي وأخرى لم تشيد أسوارها بعد، وحيوانات أليفة شاردة، وشباب يافعون يتحينون فرص الهجرة إلى الضفة الأخرى. إلى جانب هذه الصور، هناك صور أخرى تنحو منحى إبراز محمد شكري داخل شقته عبر تصوير مكوناتها، أو تحاول إبراز مدى سعة وتشعب علاقاته الثقافية والإنسانية، وكذا مدى تواجده في قلب الحياة الثقافية المغربية سواء في طنجة أو أصيلا أو الرباط. لقد تعرف شكري في حياته على العديد من الكتاب والفنانين المغاربة والعرب والغربيين، بل إن العديد من هؤلاء كانوا حريصين على زيارته في شقته أو الاتصال به عن طريق عقد مواعيد معه في إحدى المقاهي أو الحانات التي كان يتردد عليها، كما كانوا حريصين على التقاط صور معه تخلد تلك اللقاءات. إن لائحة هؤلاء طويلة، لكن أكتفي بالإشارة إلى أبرزهم: كعبد الوهاب البياتي، وأدونيس، وجان جونيه، وإميل حبيبي، وإدمون عمران المالح، وتينيسي وليامز، وبول بولز، وليو فيري، وعلال الفاسي، وعبد اللطيف اللعبي، ومحمد برادة، وبلند الحيدري، ومحمد زفزاف، وأحمد عبد المعطي حجازي، وخوان غويتيصولو إلخ. لكن محمد شكري لم يكن حاضرا في الكتاب فقط من خلال لقاءاته، إنما يتجلى حضوره الأساسي في مرآة إبداعاته الأدبية التي ترجمت إلى ما يفوق الثلاثين لغة، بما في ذلك اللغة الآيسلاندية التي لا يتحدثها أكثر من 500 ألف نسمة، وهو الحضور الذي عكسته صور أغلفة كتبه التي تتحدث لغات العالم. إن هذه الوضعية، بالنسبة إلى الكتاب العرب والمغاربة، استثنائية بكل المقاييس، إذ لم يحظ إبداع أحد منهم بهذا الاهتمام العالمي منقطع النظير. ويتألف جانب المكتوب في كتاب «محمد شكري وطنجة» من نصوص متعددة اللغات، كما سبقت الإشارة، كتبها أصدقاء حميمون للكاتب سجلوا فيها ذكرياتهم عنه، أو استوحوا عالمه، أو نوهوا بإبداعاته، أو ربطوا بين غيابه وبين مصير مدينته التي تعرف تقلبات بيئية ومعمارية دراماتيكية في الوقت الراهن (رشيد التفرسيتي). هناك نصوص تحاول استقراء طبيعة مزاج محمد شكري (محمد برادة والميلودي الحمدوشي) أو تعمد إلى إلقاء نظرة فاحصة على بعض مؤلفاته (المهدي أخريف) أو تؤرخ للقاءات لا تنسى به (راشيل مويال) أو تتأمل بعض لحظات شاعرية دالة من معيشه (الزبير بن بوشتى) أو تتخيل أوضاعا مجازية كان من المفترض أن يعيشها لكنه لم يفعل (إبراهيم الخطيب). لقد كان محمد شكري بالنسبة إلى هؤلاء الأصدقاء، الذين احتفوا به في الذكرى الخامسة لوفاته، مسرحا لتفجير مكنونات عواطفهم نحوه، كما كان كائنا جذابا بمعنى الكلمة، لا بد من التوقف عنده، والتأمل في البصمات التي يتركها في وجدان كل من عرفوه: بصمات تحيل عليه كإنسان عصامي، وكائن اجتماعي، وكاتب تمكن من تحريك مياه الإبداع الراكدة في السرد المغربي منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. إنه لا يسعني، في ختام كلمة التقديم هاته، إلا أن أشكر مجددا الرشيدين، رشيد التفرسيتي ورشيد الوطاسي، على إصدار هذا الكتاب الجميل، الحافل بالصور الرائعة والنصوص المتحررة من قيد المجاملة، والذي أعتقد جازما أنه غدا، بمجرد صدوره، مرجعا لا غنى عنه بالنسبة لمن يريدون دراسة صورة شكري كما انعكست في فضاء طنجة، وفي ذاكرة ومخيلة أصدقائه، وأيضا بالنسبة لمن أحبوا أدبه ويرغبون في التعرف عليه ككائن داخل حيزه الإنساني، العام والخاص. إنه كتاب صداقة واعتراف بالجميل، في زمن يسود فيه العقوق والنسيان، وغصن ريحان ندي يوضع على قبر محمد شكري.