ثمة أسئلة كثيرة عن حقيقة الموقف التركي مما جرى في العراق، ولعل ما زاد من حساسية هذه الأسئلة هو أن هذا الموقف اتسم بصمت نسبي خلافا للنبرة الدبلوماسية التركية التي اعتادت ومنذ ثورات الربيع العربي على رفع الصوت عاليا حتى لو تسبب لها ذلك في انتقادات ومشكلات. فهل السبب هو الحرص على إتمام عملية الإفراج عن المعتقلين الأتراك في الموصل؟ أم إن ما جرى يتجاوز في تداعياته المشهد العراقي إلى المنظومة السياسية للشرق الأوسط والتي ترى تركيا أنها في قلب قيادة من يرسم مسارها المستقبلي على وقع التطورات الدراماتيكية الجارية؟ أسئلة ربما لن تتضح الإجابة عنها إلا بعد جلاء طبيعة المشهد السياسي المقبل في بغداد. صدمة الاعتقال شكل اقتحام عناصر داعش (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام) القنصلية التركية في الموصل واعتقال القنصل التركي أوزتورك يلماز، ومعه 49 موظفا وثلاثون سائق شاحنة تركية، صدمة للرأي العام التركي، وأثار في الوقت نفسه انتقادات داخلية واسعة لوزير الخارجية أحمد داود أوغلو. ومعيار الصدمة هنا له علاقة بسياسة الحكومة التركية التي بدت وكأنها لا تعرف تنظيم داعش، والقناعة بأنه كان ينبغي إجلاء القنصلية من الموظفين قبل اقتحامها، كما أن طريقة التعامل بعد الاعتقال أوحت بأن الدبلوماسية التركية مرتبكة تعاني من التخبط -وفي العمق- الخوف من تداعيات الإقدام على خطوة عملية للإفراج عن المعتقلين. فالمسألة هنا تتعلق بكيفية التصرف مع تنظيم قوي، باتت له دولة تمتد من منبح بالقرب من حلب على الحدود السورية التركية إلى مشارف بغداد الحيوية جدا لأمن الخليج وإيران معا. في جميع الأحوال، للقيادة التركية حساباتها الدقيقة في كيفية الإفراج عن موظفيها ورعاياها، فهي ربما لا تريد أن تظهر بمظهر الدولة المتوترة والمنفعلة، وتؤمن بقدرة دبلوماسيتها وعلاقاتها على إنجاز مثل هذه المهمة، خاصة أن أي خطإ قد يكلفها الكثير عشية الانتخابات الرئاسية المقررة في 10 غشت المقبل والتي ستكون معركة حاسمة بين حزب العدالة والتنمية وخصومه في الداخل، إذ إنها المرة الأولى التي سيتم فيها الاقتراع بشكل مباشر من قبل الشعب. لكن في ضوء ما جرى، فإن السؤال هنا لا يتعلق بمصير المعتقلين الأتراك، بل بالسياسة التركية تجاه العراق، ولاسيما تجاه الموصل التي ترى تركيا تاريخيا أنها جزء من الأمن القومي التركي، حيث لاتزال اتفاقية عام 1926 بين تركيا وبريطانيا والعراق حاضرة في السياسة التركية، وهي اتفاقية وافقت عليها تركيا وقضت بإلحاق ولاية الموصل بالدولة العراقية الوليدة (ولاية الموصل تاريخيا تشمل المناطق الحالية إضافة إلى كركوك) على أساس شرطين. الأول: الحفاظ على وحدة العراق؛ والثاني: عدم إقامة دولة كردية، وإلا فإن تركيا تستطيع إلغاء الاتفاقية واستعادة ولاية الموصل، مع أن ما جرى هو تاريخ إلا أن طبيعة الأحداث وتفجر الجغرافيا على شكل ردم لاتفاقية سايكس بيكو، وولادة دولة كردية على الأرض، كل ذلك يجعل من السياسة التركية تجاه العراق محملة باعتبارات الجغرافيا والإيديولوجيا والصراع الإقليمي والدولي. حسابات تركيا مقابل التوتر الكبير في علاقة تركيا بحكومة نوري المالكي لأسباب عديدة، ثمة شراكة قوية تأسست بينها وإقليم كردستان لأسباب سياسية واقتصادية، بعد أن كانت هذه العلاقة تخضع لجملة من اللاءات، لعل أهمها عدم السماح للأكراد بالسيطرة على كركوك التي تشكل قيمة تاريخية وقومية واقتصادية، نظرا إلى غزارتها بالنفط، حيث تقدر كمية النفط الاحتياطي في حقولها بأكثر من عشرة مليارات برميل وبقدرة إنتاجية تبلغ 750 ألف برميل يوميا، ويعيش فيها الأكراد والعرب والتركمان والآشوريون، حيث رأت تركيا نفسها تاريخيا معنية بحقوق الأقلية التركمانية هناك. اليوم وبعد معركة الموصل، ثمة أمور حسمت وثمة حسابات تركية أبعد من اللاءات السابقة. ولعل من يدقق في ما جرى لا بدَّ أن يتوقف عند مسألتين: الأولى: لقد أدت سيطرة داعش وباقي الفصائل المسلحة المنتفضة ضد سياسة المالكي إلى منح الأكراد فرصة السيطرة على مدينة كركوك التي كانت محط نزاع مع بغداد طوال العقود الماضية، ففور الهجوم وانسحاب القوات العراقية من كركوك سارعت قوات البشمركة الكردية إلى بسط سيطرتها على كامل المدينة، جاء ذلك بعد نحو ثماني سنوات من عجز القيادة العراقية عن تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي والتي نصت على (تطبيع الأوضاع وإجراء إحصاء سكاني واستفتاء في كركوك وأراضٍ أخرى متنازع عليها لتحديد ما يريده سكانها قبل 31 من دجنبر عام 2007). ولعل التطورات تشي بأن السيناريو نفسه سيجري في مدينة تلعفر التي تسكنها أغلبية تركمانية من الطائفة الشيعية. والسؤال المثير والملح هنا هو: لماذا لم تتحدث تركيا بكلمة واحدة عن مصير كركوك بعد أن كانت ترفض علنا في السابق سيطرة الأكراد عليها؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى مصير الأقلية التركمانية في كركوك وتلعفر وخانقين وطوزخورماتو وغيرها من البلدات التي فيها وجود تركماني لطالما انبرت تركيا في السابق للدفاع عنها؟ هل هي قوة الدبلوماسية التي تنأى بنفسها عن التورط في مثل هذه القضايا، أم موافقة تركية ضمنية على ما جرى على أساس أنه لا بد منه لتغيير المعادلة السياسة في العراق والمنطقة؟ الثانية: حضور البعد الطائفي إلى سطح المشهد السياسي، إذ يرى كثيرون -من بينهم تركيا- أن داعش لم تكن سوى العنوان الإعلامي لما جرى في الموصل، فيما على أرض الواقع كانت هناك انتفاضة سنية ضد سياسة المالكي التي انتهجت سياسة الإقصاء والتهميش ضد هذه الطائفة في العراق، وأن الصراع الطائفي في المنطقة ليس بمعزل عن صراع الدول الإقليمية، ولاسيما إيرانوتركيا والسعودية حيث تحولت سورياوالعراق إلى ساحات للحروب بينها. وعليه، ثمة من يرى أن الحسابات التركية تجاه ما جرى في الموصل تتجاوز خطر تنظيم داعش، وقضية المعتقلين الأتراك، وحتى مسألة تعزيز خيار إقامة الدولة الكردية إلى قضية ترتيب إقليمي جديد توجهان ضربة للثقل الإيراني في المنطقة من بوابة تغير المشهد السياسي في بغداد، ووضع نهاية للسياسة التي اتبعتها حكومة نوري المالكي وقطع الطريق أمام ولاية ثالثة له. استراتيجية الحرص لطالما سعت تركيا إلى إسقاط النظام السوري وتغيّر المشهد السياسي في بغداد، وهي تدرك أن النار المشتعلة في جوارها السوري والعراقي قابلة للانتقال إليها مع تعاظم نفوذ داعش وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات المسلحة التابعة للقاعدة، وتدرك أيضا أنه بعد معركة الموصل باتت المنطقة أمام استحقاقات جديدة تتطلب أدوات جديدة للتعامل معها. وعليه، فإن الحرص التركي يحمل طابع تحقيق الأهداف السابقة من خلال السير فوق النار، والنار هنا بالنسبة إلى تركيا تحمل مجموعة من العناوين، لعل أهمها: كيفية دعم مطالب العراقيين السنة دون الظهور بمظهر الداعم لداعش والإرهاب، وكيفية التعامل مع تطلع الأكراد إلى دولة مستقلة قد تغير خرائط الشرق الأوسط التي تركيا جزء منها في النهاية، وكيفية التحرك نحو الأهداف السابقة دون الصدام مع إيران أو انتقال النار إلى الداخل التركي. لكن مقابل هذا الحرص، تدرك تركيا أن «الستاتيكو» السائد في المنطقة لم يعد بالإمكان أن يتغير في ظل الاصطفاف الإقليمي والدولي الحاصل، وأن الغرب الذي رسخ من سياسة استنزاف الدول الإقليمية أكثر من هدف الانتقال إلى مرحلة جديدة لن يتحرك نحو الحلول ما لم تحصل تغيرات وتحديات حقيقية على الأرض. وعليه، فإن استراتيجية الحرص التركي هي سياسة في حد ذاتها، وهي تقوم على المساهمة في تحريك المشهد على الأرض حتى لو اختلطت الأوراق وقاربت الأمور لحظة الخطورة، ونسج تحالفات سياسية مع القوى المؤثرة والفاعلة، حيث إقليم كردستان الذي تظهر سياساته وكأنها موائمة للسياسة التركية، فيما يبقى الهدف الأساسي هو امتلاك الأوراق الأساسية لتغيّر المشهد السياسي في العراق عبر جهود وصيغ للتوافق المحلي والإقليمي على هذا التغير. بمعنى آخر، إن السياسة التركية ما بعد معركة الموصل تستنفر المكونات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والسياسية على شكل حرب دبلوماسية ناعمة لتحقيق هدفها المتمثل في وضع نهاية لسياسة المالكي والبحث عن صيغة توافقية للحكم. الصمت التركي الرسمي ربما يفسر من قبل المعارضة التركية وخصوم أردوغان في الخارج بتورطه في دعم داعش وغيره من التنظيمات المسلحة لتحقيق أجندته، فيما يراهن هو على دبلوماسية تحمل قوة ناعمة، لها أدواتها وأولوياتها لتحقيق ما تصبو إليه. خورشيد دلي