تروم هذه الدراسة البحث في قضيتين مركزيتين يوسم بهما النسق الفكري لسعيد يقطين، هما : أن علم السرد بوصفه منجزا علميا ذهنيا كفكر مركب يقتضي البحث في الآليات المعرفية التي تنتظمه، لأن كل نتاج معرفي إنساني، بالنظر إلى نتائج العلوم المعرفية، تنشطه نظرية المنفذ التي اقترحها منسكي لتفسير طرق اشتغال الفكر الإنساني المتعدد؛ حيث نتتبع تشكيل مختلف أطروحات سعيد يقطين عبر مفهومي: الوكالة الذهنية وأنواع المنفذين. وبذلك، نعتبر الفكر الإنساني فكرا مركبا ما فتئ يبحث في نفسه وعن نفسه. وهذا ما يستكشفه الفيلسوف الفرنسي إدغار موران (Edgar Morin) في كتاباته الأنتربولوجية والتربوية والمعرفية الاجتماعية المختلفة، مستلهما بشكل مضمر أطروحات منسكي في مفهوم الوكالة الذهنية (Mental Agency)، الذي يسم مجتمع الذهن بتعاون وتناغم بين المنفذين، وباشتغال الجزء داخل الكل لتنشيط الذكاء. ذلك أن منسكي أطلق منذ أواخر الستينيات رفقة بابيرت مبدأ المقاربة المتعددة لحل بعض المشكلات في الذكاء الاصطناعي، والخاصة بتمثيل المعارف التي تتضافر وظائفها لإنجاز مهمة ما، أو لحل مشكلة معينة ضمن مجموع متعدد تعمل لأجله الأجزاء. وعليه، نفترض أن الفكر النقدي لسعيد يقطين يوسم، في سياق علم السرد، بالتركيبة السردياتية (La La Complexité Narratologique. ب- بناء على ما سبق، نبحث في ثاني أهم قضية مركزية شغلت الفكر النقدي عند كاتبنا، وهي قضية الأنساق الثقافية للخطابات السردية، مما يجعل مشروعه متسقا مع السرديات الثقافية، التي تندرج في سياق النظرية العامة للسيميائيات الثقافية لدى إيكو و جريماص وكلود كوكيت وبورس..وغيرهم من خلال تنشيط مفاهيم من قبيل الدينامية والتناص وانفتاح الأنساق وغيرها.. هكذا، نطرح التساؤل الآتي: ما هي سيناريوهات الفكر النقدي عند سعيد يقطين؟ 2- سيناريوهات الفكر النقدي: يتحدد معمار الفكر النقدي عند الباحث، باعتباره وكالة سرديات كبرى، انطلاقا من تنشيطه عدة منفذين في معرفة علم السرد العالمي. ويمكن رصد الحالات الذهنية لهؤلاء المنفذين ومجالات نشاطهم، كما وردت عند كاتبنا، كالآتي: أ- الخطوط - كاف K-lines، وهي أطر التغذية الرجعية، التي تنشط إعادة بناء المصطلح من قبيل التجريب والسياق والتناص والانزياح وغيرها... إضافة إلى نقلها سؤال «الشعري» إلى سؤال «الروائي»، ثم تحويلهما معا إلى أسئلة النص والخطاب والأنساق الثقافية بشكل عام. ومن الموجهات النصية الداخلية التي تحين القارئ الضمني Lecteur Implicite للخطوط- كاف نجد في كتاب القراءة والتجربة حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد في المغرب أن الباحث استعاد مفهوم التجريب الذي يفسر هيمنة مقصدية التجاوز على الخطابات الفكرية والنقدية والفنية المغربية منذ بداية الثمانينيات. ومن ثم، سينمي أطروحة التجريب هذه بالنظر إلى توسيع عدة مفاهيم محايثة لمفهوم الأدبية، وخاصة مفهوم الانزياح الذي وسعه إلى الانزياح السردي. ب - ممثلو المعرفة السردية (Nemes)، وهم مجموعة من المنفذين الذين يقدمون تمثيلات حول العالم انطلاقا من تمثل علم السرد ذاته. إن تمطيط نواة «السرديات»، في فكر الكاتب، هو تمثل للعالم الافتراضي الذي أضحى بدوره نصا يجيز الحديث عن رواية تفاعلية أو قصيدة تفاعلية، كما يسمح بتوسيع منظومة التلقي برمتها. فتم التحقق عبر هذا التوسيع الابستمولوجي من مقولة تمثل العلم هو من تمثل العالم؛ بمعنى أن الفكر النقدي لسعيد يقطين استوعب تحولات عصره ليتمثل التحول في إنتاج الخطاب وتلقيه في آن. لقد شكل كتاب «من النص إلى النص المترابط»، مدخل إلى جماليات الإبداع التفاعلي، مؤشرا تداوليا دالا على امتداد النظرية في فكر كاتبنا؛ حيث طور بشكل كلي مفهومه لثلاثية النص والإبداع والتلقي. ذلك أن المنفذين المتعددين للمعرفة(Polynemes) يشتغلون على نقل مفهوم النص إلى الترابط الحاسوبي التفاعلي، الذي صاغه من خلال مصطلح النصّ المترابط (Hypertexte)؛ وهو علامة مركبة من عدة نصوص، ومن عدة روابط (Liens) تجمع بينها، مما يسمح للمتلقي بالانتقال من نصّ إلى آخر، وبالتالي من عالم ممكن إلى آخر... ضمن استراتيجية التواصل الوسائطي الحاسوبي (Computer mediated communication). وعليه يتغير تمثل النص عند كاتبنا، حيث اعتبر النص الإلكتروني إبدالا جديدا في التفكير. وهو ما نعتبره، من جهتنا، تمثلا جديدا للعالم، الذي تحول وفق الاستبدال الفلسفي المعرفي إلى علامة حاسوب بما في ذلك الإنسان . ج- منفذو المعالجة الثقافية (Nomes)، هم المنفذون الذين يعالجون ويراقبون كيفية اشتغال تلك التمثلات المعرفية؛ حيث إن آليات الأنساق الثقافية من قبيل النسق المغلق أو المفتوح أو العشوائي أوالمركب هي آليات مضمرة في الوكالة السردياتية عند سعيد يقطين، إذ شكلت منهاجية ورؤية للعالم، بما هو توليفة مركبة من الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا ما يدفع إلى القول بأن الصيرورة الفكرية لمشروع الكاتب تؤشر في أفقها الابستمولوجي على نقد ثقافي مافتئ يتوسع في دائرة الفكر العربي المعاصر، بزعامة إدوارد سعيد وعبد الله الغذامي، مرتكزا على أنساق الخطاب ودلالاته، وعلى الأسس السوسيولوجية والتاريخية والسياسية المؤثرة في بناء الخطاب، وفي توجيه الفرد والتحكم فيه، انطلاقا من اجتهادات بارت ودريدا وفوكو وغيرهم من رواد الدراسات الثقافية. بيد أن هذا الأفق الثقافي الذي تفتحه مقاربات سعيد يقطين لا يعني أنه ذو استراتيجية تفكيكية مطلقة لأن مجرد اعتماده على مفاهيم الدينامية والتفاعل معناه أنه ينخرط في نقد ثقافي تشيدي نسبي. إسماعيل شكري