حقيق بمن يحاول أن يكسر الصمت بزفرات الإقصاء والتهميش وسط الكاريانات والسكن العشوائي بالدارالبيضاء، أن يعي أن كل عين تتفحص كتاب المدينة لا يشرفها البتة السواد الذي يكسو محياها.. وأن الصوت يرتفع وإن وسط الهدوء المطبق، فلا أحد يقبل بينه وبين نفسه أن يقص رسم كازبلانكا من سجل الرقي..غير أن ما يجري أمام الملأ يحاول قصه، ما يجعلنا نقول شتان بين الاثنين.. وحقيق بكل من يهم بوضع الأصبع على نزيف السكن غير اللائق بالمدينة العملاقة، أن يدرك تمام الإدراك أنه مادام للأصبع إخوة أصابع الحري وضع اليد على النزيف/الواقع، الذي ميزته الائتلاف في الجوهر والاختلاف في المظهر ليس إلا، فهنا وسط الكاريانات والدور الآيلة للسقوط ومخافر الشرطة والبيوت القصديرية..معاناة من نوع آخر لسكان تجدهم تارة يعانون من لوبيات عقارية ومن مسؤولين أتوا على الأخضر واليابس، وتارة أخرى هم جزء من المشكل أو حتى كل المشكل لسبب وكفى أنهم يتاجرون في أرواحهم ورغباتهم في التحول لغير المكان، تحت طائلة: «المرجو غض الاهتمام أيها الكرام».. عندما تنبش في ملف دموعهم وصرخاتهم.. تجد أوراقا محترقة بشرارة الرعب والألم.. تجثم بثقلها على دفتي ملف، عنوانه:»الوجه غير المشرق ولا المشرف للمدينة الإسمنتية العملاقة الدارالبيضاء». وبينما تتتبع حكايات الناس المتناسلة من الكريانات، وتختلس السمع والبصر لسكان مخافر الشرطة التي أصبحت مأوى من لفظته الجدران، وقاطنة مراكز الإيواء والدور الآيلة للسقوط، وحتى الغارقة في النسيان، تكتشف أن الرحلة ليست بالهينة، وأنها مغامرة في ملامح زمان ومكان، وشخصيات مركبة تتاجر في بؤس شخصيات أخرى بسيطة ما عادت رائحة الموت والدمار ترهبها، لأنها ببساطة الرفيق الأرفق حالا من أحلامها وطموحاتها الصغيرة في بيت يقي حرارة الصيف وبرد الشتاء وليس أي شتاء.. وراء الأسوار ونحن نقف على حقيقة الوضع المحرج لسكان الكاريانات والدور المتهالكة و»مراكز الإيواء».. اختار لنا ثقل الملف القديم/الجديد شكلا ومضمونا، وإلحاح سكان المحج الملكي، ملف الشركة الوطنية للتجهيز الجماعي المعروفة اختصارا ب»صوناداك» نموذجا ، فحاولنا إشراك الشركة في الإجابة عما حملناه في جعبتنا من استفسارات أولئك السكان، إلا أنها لم تسعفنا بالجواب، لتسلمنا إلى الانتظار... غير أن طبيعة الملف لا تستسيغ طعم الانتظار، سيما أن المعاناة باتت تفضح نفسها بنفسها، أمام الجثث التي تخلفها المنازل المنهارة وكثرة حوادث الإجرام وانعدام الحميمية بين الأزواج، وحتى الحاجة إلى الحراسة المستمرة والمشددة-وفق ما رصدنا- أمام دورات المياه تلافيا لما قد يحدث، ولما حدث بالفعل في مراكز الإيواء من اكتظاظ واغتصاب وهلم جرا..وأيضا إبان الوضع نفسه وزيادة في كاريانات كازابلانكا المقابر الجماعية لأحياء غير أموات. المحج الملكي عدد السكان المعنيين بمشروع المحج الملكي من سكان المدينة القديمة كثير، وعدد وقفاتهم وتظلماتهم أكثر في وجه شركة صوناداك، ففي غير من مناسبة لا ينفكون عن التعبير عن عدم قدرتهم على أداء مبلغ 200 ألف درهم، مقابل حصولهم على سكن لائق ومغادرة أشباه بيوت،عاينتها المساء ورصدت نداءات مبحوحة لسكان وممثليهم، يعيشون وسط الخوف وقلة ذات اليد والغضب من المسؤولين الذين يماطلون ويبطئون مسطرة الترحيل والتعويض وتسوية الوضع حسب شهادات المتضررين، وهم في أكواخهم القصديرية ومساكنهم المتهدمة، بدوا لنا قنابل موقوتة، تشيع بين الفينة والأخرى جنائز لأجساد ذنبها الوحيد أن الجدار انهار، وكان أقوى من مقاومتها، لأنه ببساطة جدار/إعصار. مشروع المحج الملكي كان الهدف منه ربط مسجد الحسن الثاني بساحة الأممالمتحدة وسط المدينة، مع إنجاز مراكز للأعمال بمواصفات عالمية، ومشاريع عقارية ضخمة، لذا كان يتم هدم دور السكان وترحيلهم، وهو ما حصل وما لم يحصل في الآن ذاته، بسبب التلاعبات والسمسرة التي صرح لنا السكان أنهم ضاقوا ذرعا بها، فالشركة الوصية قامت بتفويت بقع لأشخاص خارج المحج الملكي، ومنعشين عقاريين وآخرين، مقابل تعويضات هزيلة عرضت عليهم، لتتحول مع الحالة تلك أمانيهم إلى سراب، والمدينة القديمة إلى خراب، ويبقى هاجسهم الأوحد من يتكلف بالمنطقة هل «صوناداك» أم أطراف أخرى؟ من يبعث فيها الأمل عمرانيا وإنسانيا؟ سجون من جدران كثيرة هي الأسر التي أخلت منازلها خوفا على حياتها، وانتقلت إلى فضاءات أخرى بحثا عن الأمن، وهروبا من شبح الموت الذي بات يطاردها، غير آبهة لطبيعة الملجأ، حتى وإن كان مخافر كانت من قبل للشرطة، كما هو حال عدد من الناس ممن زارتهم «المساء» في منطقة درب السلطان وغيرها. لم تكن الإقامة بمخافر الشرطة لمدة وجيزة، بل لم يعد لها أي محدد زمني، هذا ما تبدى لنا من خلال شهادات إحدى السيدات، التي تسللت إلينا من أحد المخافر، لتفضي إلينا بكلمات وكأنها لملامح ذكورية وهي تخرج من تحت ستار المخفر/الملجأ، حاملة في يدها سكينا ربما كانت تقطع به الخضر أو ربما هو رسالة مشفرة تشهرها عن سبق إصرار وترصد في وجه محيط المخفر المحدق بالأخطار، سيما وأنها تعيش لوحدها مع بناتها، تقول:»..زوج ابنتي تزوج أخرى ويعيش معها..» في إشارة رغم ضنك الوضع إلى «الحميمية» التي غدت حسا مفقودا داخل هذه الأمكنة، التي قد تحمل عنوان «مخافر اللاجئين» أو ما شئت من عناوين، ابتعدنا عنها ولكن مشاعر قاتمة السواد لم تبرح عيوننا ولا قلوبنا، ونحن نتسلل لإحدى مراكز الإيواء التي لم يكن الدخول إليها بالأمر السهل، غير أن أقلامنا أصرت على رصد الحالة المزرية لمدرسة شبه خالية، أفرغت من تلامذتها ووزع أقسامها بالأجزاء على العائلات المتضررة من رجال ونساء استقدمتهم السلطات المعنية من الدور الآيلة للسقوط.. عند عتبة الباب تصافح نظراتك نظرات حارس أمن يجلس قابعا في مكتبه، في محاولة منه أن يكون عينا ثالثة لا تنام للقاطنين، وهو ما علقت عليه إحدى السيدات باستهزاء: «يكفي أنه حارس لا يحرس سوى نفسه ..» وضعية مهزوزة لأسر تنتظر قرار الإفراج عنها ومغادرة قفص الإيواء، بين صور مظلمة لدورات مياه(مراحيض) تزرع فيك الإحساس بالغثيان، وأخرى أكثر ظلمة لنسوة يطالعنك بسحنات شاحبة، وسط حبال غسيل وكأنها أستار ثانية لأمكنة صغيرة وزعت كالغنائم بالأشبار، وعودة مرة أخرى للحديث عن «الحميمية» في مراكز إيواء لا تتوافر حتى على شروط العيش الكريم. ظهر عليها ارتباك مشوب بنوع من الخوف، وهي تنفي لنا جملة وتفصيلا أن تكون حادثة اغتصاب وقعت في المركز، وكأنها تستشعر عدسة كاميرا مسؤول ما ترقبها وإن من خارج الأسوار، لتستطرد المٍرأة الأربعينية:»قريبا سأنتقل..طبعا بعد إتمام الأقساط الشهرية..» بنظرات مشعة بالأمل وأكثر رحابة من الغرفة الضيقة التي تسكنها، والتي حالما يجول بين جنابتها فضولك، تجدها علبة سردين ليس إلا، يتكدس فيها الأثاث إلى جانب الثلاجة وجهاز التلفزيون وقنينة الغاز..في انعدام لأدنى ضوابط الأمن والسلامة البدنية والنفسية.. الوجه الآخر ل«كازابلانكا» غدت الكاريانات والأحياء الصفيحية والبناء العشوائي قنابل قابلة للانفجار في أي زمان، مهما اختلف المكان سواء في كاريان الحفرة الذي زارته «المساء»، أو كاريان باشكو أو السكويلة أو سيدي مومن.. فقد تتنوع مشاكل كل «كاريان» -الذي يحتضن أسرا مركبة -على حدة غير أن ما يوحدها هو الحاجة الماسة إلى الحصول على مسكن لائق وعيش كريم أليق، خاصة إزاء معاناة سكان وأولاد الكاريانات -كما ينعتهم بعض أفراد المجتمع المغربي -وتحت وطأة الحروب الضروس للتسول والتشرد والبطالة والاغتصاب.. والاحتجاج والتذمر المفتوحة على جميع الواجهات بين السلطات العمومية وضحايا وحتى أباطرة السكن العشوائي والدواوير والكاريانات.
كاريان الحفرة لأن موقع هذا التجمع السكني يوجد في فج عميق فقد استحق لقب كريان الحفرة الذي طغى على الاسم الرسمي «درب الخليفة» الواقع بتراب مقاطعة ابن مسيك في فضاء يمتزج البؤس بالفقر والشجاعة. أصل التسمية «درب الخليفة» ترجع للخليفة ابن امسيك الذي شيد الحي الصفيحي على أرضه، بعد أن كان أغلب قاطنيه من مستخدمي خليفة الحاكم. عندما تطأ قدماك كريان الحفرة يسيطر عليك تخوف من السقوط في الحفر التي تملأ المكان، لكن واقع الأمر يحيلك على مساكن بمنطقة شبيهة بالحفرة، وهو ما ذهب إليه القاطنون بحيث أجمعوا أن سبب التسمية يعود بالأساس إلى كون منازلهم تقع في حفرة متاخمة للطريق السيار. يرجع ظهور درب خليفة المشهور ب»الحفرة» إلى سنوات القرن الماضي، حيث كانت تستقر فيه أسر هاجرت إلى الدارالبيضاء هروبا من الأوبئة والجفاف وبطش المستعمر، بل إن أغلبهم احتموا بابن امسيك الذي كان يملك عقارات تمتد من مشارف مديونة إلى شارع الفداء. ليستقر النازحون في بيوت أشبه بالكهوف، حسب روايات الأهالي وما سجلته «المساء» ،إذ يضطر الأب والأم إلى اقتسام حيز مكاني صغير رفقة الأبناء، في ظروف عيش تنعدم فيها أساسيات الحياة من تهوية ومراحيض وغيرها، بل إن بعض الأسر استقرت في هذه الدور واستقدمت الأبوين، في بيوت أشبه بالدهاليز تنعدم فيها أساسيات شروط الحياة. ووفق ما عاينته «المساء» فإن أكثر من 700 أسرة تستقر في هذا المجال الجغرافي الهامشي، موزعة بين ملاكين لتلك البيوت ومكترين لما يشبه الجحور والمنازل الآيلة للسقوط. خصوصية مفقودة تحرص إحدى القاطنات على كسر حاجز الصمت مستعرضة وجها آخر من أوجه المعاناة، فلا يتوقف حديثها عند ظروف العيش المزرية بسبب غياب ضروريات الحياة، بل يمتد إلى أبشع من ذلك، مستعملة «نا» الدالة على الجماعة وكأنها تتحدث نيابة عن كل القاطنين: «إننا نعيش حالة من الحرج الشديد لن أخفيكم الأمر، فمشكلنا يتضاعف بسبب غياب «الحميمة «هنا، بحكم تصاميم البيوت الصغيرة وازدحامها ،إذ يضطر مجمل الأزواج هنا إلى إخراج الأطفال حتى تتسنى لهم ممارسة علاقاتهم الجنسية المشروعة بعيدا عن العيون والآذان، وحتى بعد إخراج الأطفال فإن طبيعة البيوت تجعلك في ورطة من سماع الأصوات بسبب تقارب غرف المنازل الشبيهة بالسراديب».. جرأة المرأة جعلت السيدات يضحكن من صراحة بوحها قبل أن تتساءل مرة أخرى «أليست هذه هي الحقيقة»؟. بين سكان هذه الدور لا توجد أسرار، فكل أسرة تناقش مشاكلها همسا دون أن تفلت من آذان تسترق السمع، وتنقل المعاناة إلى بقية أفراد الحي الذي يعرف كل شخص فيه أدق أسرار الآخر، حتى «الحميمية «منها. مائة ألف درهم؟ في كريان الحفرة حاليا لا حديث للسكان إلا عن قضية الإيواء التي أضحت مشكلا يثقل كاهل السكان، ففي حديثهم ل»المساء» عبر أغلب السكان عن رغبتهم في الانتقال إلى بيوت تصون كرامتهم وتحقق الحد الأدنى من العيش الكريم، لكن الوضع المادي المزري يحول دون ذلك، كل شيء في الكاريان يوحي بقلة ذات اليد وبضنك العيش، لم يكن المتحدثون إلينا يجهرون بحقيقة جديدة، إذ بمجرد ما تلج أحد البيوت بدرب الخليفة أو كاريان الحفرة كما يحلو لقاطنيه تسميته، تستشف الواقع المرير لأسر تتجرع مرارة قسوة ظروف الحياة، لتشفق لحال أطفال لا ذنب لهم في ما يقع وما سيقع. في معرض كلامهم لنا عن الترحيل، أفصح السكان الذين تجمهروا لمعرفة أسباب زيارتنا لهم عن مشكلهم الحقيقي، إذ طالبوا بضرورة إيجاد صيغة توافقية تروم إعادة إيوائهم، في إشارة إلى مبلغ مائة ألف درهم المضطرين إلى دفعه من أجل الانتقال إلى الشقق المعروضة عليهم، فالأمر حسب إحدى السيدات ليس بالهين «الكل هنا يتصارع من أجل لقمة العيش، فمن أين لنا أن ندفع أقساطا شهرية، نلتزم بأدائها مقابل انتقالنا؟. وأضافت بنبرة غاضبة: «أصدقكم القول وأنتم ترصدون وضعنا، ليس بمقدورنا الحصول على سكن في ظل هذه الشروط المعقدة التي يعد الالتزام بها شرطا للحصول على سكن يصون كرامتنا، لن نبرح مكاننا هنا رغم رغبتنا الكبيرة في الحصول على شقق محترمة، لكن العين بصيرة واليد قصيرة كما يقولون». لتضيف لنا عجوز رسمت قسوة الحياة على وجهها القمحي علامات الفقر والخصاص، «لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن لهذه الأسر التي تكتري ما يمكن تسميته بالبيوت مقابل ثمن 60 درهما وربما أقل؟ خاصة إذ علمنا أن منهم من يكتري بيته مقابل 20 درهم منذ زمن بعيد، فكيف لها إذن أن تتحمل أقساطا شهرية قد تصل إلى 1000 درهم؟.» بالنسبة للسكان المكترين فلا مانع لديهم من الانتقال إلى الشقق الجديدة، حتى وإن كانت بعيدة وتتطلب مصاريف تنقل إضافية، لأن أوضاع القبور/الجحور التي يقطنونها أضحت محنة حقيقية، تتضاعف خلال فصل الشتاء بسبب هشاشة البنية التحتية، إذ أضحت قطرات أمطار الخير نذير شؤم لهم بسبب ما يكابدونه خلال هذا الفصل، أما حين يحل الصيف فتصبح المساكن أشبه بفرن. أما بخصوص الملاكين فالقضية لها منظور مختلف عن انشغالات المكترين، فلا يمكن لمن يقطن سكنا من ثلاثة طوابق أن يقبل بشقة، إذ تبين من خلال كلامهم لنا، مطلبهم الجلي بالتعويض بأراضي تسمح لهم بإعادة تشييد البيوت التي تم ترحيلهم منها، مؤكدين أن منازلهم قد تم ترميمها وإصلاحها، وأن تعويضهم بشقق ذات مساحات صغيرة لم ولن يقنعهم، وليس عدلا إطلاقا معاملة الملاك والمكترين على قدم المساواة. تجمعات عائلية قادتنا جولتنا في أزقة كريان الحفرة إلى واقع مرير،على تشعبها تماما كما تشعب وجهات نظر القاطنين، إذ تنقسم بين موافق على الترحيل وفق الشروط المعروضة عليه من السلطات المحلية، وبين رافض مغادرة الحفرة كما هو شأن أغلب الملاكين للبيوت الكائنة بدرب الخليفة، وهو ما دفع بممثلي الحي الصفيحي إلى البحث عن توافق يبرز رغبتهم في الوصول إلى اتفاق يقضي بإرضاء كل الأطراف، سيما أن أغلبهم يقتسم طوابق البيت المشيد، مع أبنائه الذين تزوجوا وكونوا أسرا بالبيت نفسه في إطار تجمعات عائلية، وقد يبدو أمر اقتسام بيت بطوابق مقبولا، لكن ما يبدو غريبا هنا بدوار الحفرة،هو أن تجد بيوتا شبيهة بالدهاليز مقتسمة بين الأم الأرملة والابن الذي تزوج واختار إقامة فاصل خشبي في سقف البيت ليسكنه هو وزوجته. تحدث شاب في عقده الثالث بحسرة وألم ل»المساء»، وأكد أنه يعلق آمالا كبيرة على مشروع إعادة إيواء قاطني كريان الحفرة، لينعم بحياة أسرية مستقلة رفقة زوجته، لكن مشكل التعويض المادي المطلوب أجهض حلمه بعد أن تبين له بأنه لن يتمكن من أداء الأقساط الشهرية، غادرنا بيته نحو بيت الجار العجوز الذي يقتسم البيت رفقة أسرة تضم ستة أبناء يعولهم وحده دون سند، إذ يقول أنه المسؤول عن كل حاجيات الأسرة التي عجز أبناؤها عن إيجاد عمل ومساعدة الشيخ الهرم على متطلبات الحياة. لم يختلف وضعه عن وضع السابقين، لا من حيث البيت الذي يقطنه المفتقد لأبسط شروط الحياة الكريمة، ولا من حيث صعوبة دفع الأقساط، وختم لنا كلامه بقرار اعتبره لا رجعة فيه، وهو الإصرار على مفارقة الحياة بين حيطان هذا الجحر المسمى تجاوزا «درب خليفة». مستفيدون من عملية إعادة الإيواء في معزل عن تشخيص أعراض العيش بجحور كاريان الحفرة، فتحت إحدى القاطنات بدرب الخليفة الحديث في موضوع آخر، بدت أكثر تحفظا لكنها اختارت التكلم، ويتعلق الأمر هنا بأشخاص لم يقطنوا يوما بالكاريان لكنهم استطاعوا بقدرة قادر أن يحصلوا على شقق ودون أي مشاكل، إذ أنهم استطاعوا حسب تصريحها دفع الأقساط المطلوبة منهم وأبدوا رغبة كبيرة في الالتزام بها من أجل الظفر بالشقة، وأردفت: «الأمر هنا لا يتعلق بمن تمت معاينتهم، لكن بمجموعة أخرى اختصرت الطريق وسلكت سبلا معينة، من أجل الحصول على شقة في إطار عملية الإحصاء التي جرت في وقت سابق.» السيدة كانت جد متحفظة في حديثها إلينا دون تسمية الأسماء بمسمياتها، وفي محاولة منا لمعرفة الأسباب اختارت السيدة الصمت والانزواء بعيدا عن زحمة البوح. وكأن سكان هذا الحي الصفيحي تنتابهم رغبة كبيرة في التخلص من آلام تسكن دواخلهم، في مثل هذه المواقف أو في الوقفات الاحتجاجية التي ينظمونها بين الفينة والأخرى، لكنهم يخافون ويترددون من تسرب الأخبار، ومن المسؤولين الذين منهم المقدم الذي كان بين ظهرانينا ونحن ننجز الملف. درب الخليفة حسب معطيات استقناها من عمالة ابن مسيك سيدي عثمان، في شخص العامل بالنيابة مصطفى عامر، فإن منازل درب الخليفة تصنف ضمن البيوت الآيلة للسقوط المتواجدة بمدينة الدارالبيضاء، وذلك وفق خبرة أجريت بواسطة مكتب للدراسات، بحيث أضحت تهدد حياة الأسر المقيمة بها والتي يتجاوز عددها 700 أسرة بحسب الإحصاء الذي تم إجراؤه. إذ-حسب السيد مصطفى عامر- كان ناقوس الخطر قد دق من طرف السلطات، بعد حادث سقوط سقف أحد البيوت المتواجدة بكاريان الحفرة أو درب الخليفة، « ..وتضافرت الجهود من طرف الجهات المسؤولة من أجل إيجاد حل لهذا الحي، وبالفعل تم ترحيل ما يقارب 100 أسرة في إطار عملية إعادة إيواء أخرى، تهم سكان إحدى الكاريانات المتواجدة بتراب العمالة نفسها، وهي العملية التي استفاد منها أصحاب البيوت الأكثر ضررا بدرب الخليفة، والذي صنفت بيوته بحسب الخبرة التي أجراها مكتب الدراسات من الأقل ضررا إلى الأكثر». ووفق المعطيات التي أدلى لنا بها المصدر ذاته، فإن شركة «إدماج السكن» هي التي أوكلت لها مهمة إعادة إيواء سكان «درب الخليفة»، إذ بموجب اتفاق تم بين صاحب المشروع الذي اشترى الأرض والجهات المسؤولة، ستخصص 380 شقة من مجموع 800 شقة سيتم بناؤها لإعادة إسكان درب الخليفة، بمبلغ مالي قدر بمائة ألف درهم ستدفعه الأسر الراغبة في الحصول على شقة بهدف الاستفادة. الاتجاه المعاكس أكيد أن واقع الكاريانات والدور الآيلة للسقوط والبراريك.. يكشف قسمات مبعثرة غارقة في السواد لقاطنيها، وأيضا الشركات التي تتولى المشاريع السكنية المرتبطة بمحاربة السكن الصفيحي، حيث يظل العنوان الأبرز:» الفشل في تدبير الملف»، فاللوبي العقاري عموما يلجأ إلى أساليب ملتوية للاستحواذ على أراضي معينة بمساعدة بعض رجال السلطة، ولأدل على ذلك ما تداوله عدد من المنابر الإعلامية حول تواطؤ المنتخبين وتورط رجال سلطة في تشجيع بناء السكن العشوائي، بل وضلوعهم حتى في بناء أحياء صفيحية مقابل مبالغ مالية مهمة لينجم عن ذلك عرقلة مشاريع إعادة الإيواء، وتحول الكاريانات التي بدأت صغيرة وبعدد محدود من البيوت القصديرية، إلى تجمعات سكنية تقدر نسبة سكانها بالآلاف. وعلى مستوى آخر يهم قاطني هذه الأماكن، فمشكل الأسر المركبة بما فيها الأبناء المتزوجين الذين يعتبرون أسرا مركبة متفرعة عن أسر أصلية، يحول دون مسألة تحديد المستفيدين من الشقق البديلة، والنتيجة أن غير قليل منهم يرفض الخضوع لقرارات الإفراغ الصادرة في حقه، بدعوى إقصاء البعض من التعويض، وأن عمليات الإحصاء كانت تنفي إقامة هذا البعض في «الكاريان» رغم أنها مسقط الرأس والنشأة. هذا ينضاف إلى جانب العديد من التلاعبات التي تخضع لها عملية إعادة الإيواء- وفق ما أدلت به مصادر ل»المساء» - فيكفي منح مبالغ مالية مهمة من أجل الحصول على شهادة سكنى تبرر إقامة الشخص الراغب في الاستفادة في المسكن الآيل للسقوط وليحصل بالتالي على شقة في إطار عملية إعادة الإيواء، إذ يتم فتح غرف تم ترحيل سكانها في وجه من دفع المبلغ المتفق عليه بغية إقناع الشركات والجهات المسؤولة بإقامة هؤلاء الأفراد هناك، وترحيلهم في إطار العملية نفسها على حد تعبير مصادر «المساء». حلم بعيد المنال يظل حلم سكان المدينة العملاقة إلى أن تكون خالية من المعاناة والكريانات و»البراريك».. حلما صعب المنال. ليبقى الوضع هو الوضع لسكان الكاريانات ومخافر شرطة ومراكز الإيواء والبيوت القصديرية والمنازل المتهدمة وحتى المرحاض العمومي وسقف العربة المجرورة «كروصة»..ولجرحى وقتلى ومفقودين وفقراء لا يزالون يصرون على رفع الصوت المبحوح حماية لحقوقهم القانونية والاجتماعية..و لضمان جدران أربعة يتفيئون ظلالها.. ألم تر أن الفقر يُرْجى له الغنى وإن الغني يُخشى عليه من الفقر. فقراء، إلى حد وضع نقطة نهاية هذا الملف، لا يزالون يتوسدون المعاناة ويتلحفون الفضاء، ورغباتهم الملحة والمشاكسة،علها تجد من يربت على كتفها ويلبي النداء. غيض من فيض الاختلالات شمل تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2009- كما جاء في حوالي 35 صفحة منه- غير قليل من التجاوزات التي شابت منجزات صوناداك على المستوى المالي والقانوني فيما يعرف بمشروع البيضاء، الاختلالات التي قادت عددا من المسؤولين بها إلى القضاء، وهي التي سبق وأن حظيت بثقة رئيس الحكومة الحالية على وجود الاختلالات التي رصدتها تقارير المجلس الأعلى الحسابات، بل كان وأن جعل اسمها ضمن لائحة المؤسسات المكلفة بمشروع الشطر الثاني من المحج الملكي، وكلفها في مرسوم بمعية وزارة الداخلية وجهة الدارالبيضاء الكبرى والوكالة الحضرية للدار البيضاء ومجلس المدينة ومقاطعة سيدي بليوط، بتنفيذ قرار المنفعة العامة الرامي إلى إعداد الشطر الثاني من المشروع. ورغم ما تعهدت به الشركة الوطنية للتهيئة الجماعية أمام أعضاء مجلسها الإداري المنعقد سنة 1995 بالانتهاء من المشروع سنة 2010 وإخلاء آخر منزل بمكان المحج الملكي، فقد كانت الحصيلة في الأخير إعلانها أن المشروع تلزمه ثماني سنوات أخرى أي حتى نهاية 2018. ومن بين الاختلالات التي رصدتها تقارير المجلس الأعلى للحسابات: ضآلة المساحة المنتقاة المخصصة للمشروع (7.5 هكتار من أصل 48 هكتار)، والبطء الشديد لأشغال الهدم، إذ لم يتم هدم سوى 600 متر من طول المحج الذي يبلغ كيلومتر ونصف كلم، بينما لم يتعد عدد العائلات التي تم إسكانها 2546 عائلة منذ ردح من الزمان، وأيضا غياب رؤية استراتيجية منبثقة عن دراسة لجدوى المشروع وتحديد الأهداف بوضوح وحصر أشغال التنفيذ، ووضع نظام للمراقبة والتتبع وغياب نظام للمعلوميات موثوق به، ما خلف عددا من الاختلالات في التدبير، وثقوبا كبيرة كانت تتسرب منها أموال الدولة إلى الأرصدة البنكية للمسؤولين. شكدالي*: السكن غير اللائق مكمن العنف والعدوانية حول الذات والآخر - من زاوية نظر تخصصكم، كيف تقيمون معاناة بعض سكان الدور الآيلة للسقوط والكاريانات والأمكنة غير اللائقة في مدينة البيضاء؟ أولا تنبغي الإشارة إلى أن الإنسان في حاجة لحماية،الحماية النفسية والجسدية، وإذا وقع خلل في أحدها تكون التداعيات مضاعفة على المستويين النفسي والمادي. من هنا يمكن اعتبار السكن حماية للإنسان على هذا المستوى. الآن حينما نحاول أن نتحدث عن الناس الذين يوجدون في وضعية هشة انطلاقا من السكن، كسكان الكاريانات وملاجئ معينة ودور آيلة للسقوط، فإننا نتحدث عن هذه الحماية المفقودة...نتحدث ربما عن شيء مشخص في مدننا وقرانا، وخاصة في المدن الكبيرة كمدينة الدارالبيضاء، وبالتالي أول نقطة نثيرها هي أن هذه الحماية الجسدية والنفسية تصاب في مكمن، بمعنى أن الإنسان يصبح عرضة لمجموعة من الممارسات الخارجية والتي تصيب كينونته كإنسان، فلا يستطيع ممارسة حتى المسائل التي تدخل في حميميته وفي علاقاته مع الآخر والمحيط بصفة عامة، إذن المشكل مرتبط بكينونة الإنسان، فحينما نتكلم عن السكن نتكلم عن حماية ووقاية. المضاعفات حينما نكون في هذا الوضع الهش خطيرة جدا على مستوى ممارسات أخرى، لأن الإنسان الذي يوجد في هذه الوضعية يوجد في وضعية هشة، ويدرك أنه في حالة هشة، فيعيش في محيط فيه أشياء متعددة، وقد يتعرض إلى الاغتصاب أو التشرد أو مضاعفات نفسية كالاكتئاب.. وإلى مجموعة من الأمور التي تصيب الإنسان في الجانب النفسي والجسدي.. لذلك فهذا المشكل «مشكل السكن» بصفة عامة جوهري. كما نلاحظ أنه في السكن غير اللائق وفي الدور الآيلة للسقوط والكاريانات.. ثمة مجموعة من الظواهر المرتبطة بالعنف مثلا، بسبب أن الوضعية تغذي بشكل أو بآخر الشعور بممارسة العنف إزاء العالم الخارجي، ولأنه عنف مزدوج يمارس على الذات والآخر ويتمظهر بكل تجلياته، وقد يتجاوز العنف الرمزي ليصبح ماديا، يصل إلى حد الجريمة والقتل وربما حتى الإرهاب..لنتذكر أن مجموعة ممن قاموا بعمليات إرهابية هم أصلا ينتمون إلى أحياء هامشية وهشة، فنحن إذن أمام انفعالات وردود أفعال فيها عنف..والوضعية مرتبطة ارتباطا قويا بممارسة العنف، كوننا أصلا حينما نكون في هذه الوضعية الكارثية وغير الإنسانية، يمارس علينا العنف، فندخله بطريقة أو بأخرى ونخرجه بطرق متعددة في محيطنا الخارجي الذي نعيش فيه، وكأننا نريد أن (ننتقم ) من هذه الوضعية. - ما تعليقكم بخصوص ما تطرحه شهادات قاطني هذه الفضاءات الهشة، من إشكاليات كغياب «الحميمية» وكثرة حوادث الاغتصاب والجريمة والحاجة إلى الحراسة المشددة أمام دورات المياه تلافيا لما قد لا تحمد عقباه..؟ معلوم أن الاغتصاب هو جزء لا يتجزأ من عملية العنف التي تمارس في حق الذين يوجدون في هذه الوضعية، ومن ليست لهم حماية ولا وقاية ولا بيت..وبالتالي ظاهرة الاغتصاب قد تكون حاضرة وبكثرة في هذه الحالات، ومشكل «الحميمية» قد يحصل حتى فيما يخص الذهاب لدورة المياه أو المراحيض أو شيء من هذا القبيل، لتصبح العملية الإنسانية هذه معقدة، العملية التي يمكن أن نقوم بها بطريقة فيها نوع من الوقاية، تصبح في وضعية كارثية على أساس أن الأمكنة المخصصة لها تفتقر لشروط القيام بها، في البداية لما تحدثت عن الحماية كنت أقصد ذلك، أي الحماية النفسية والجسدية، والحماية «الحميمية» في العلاقات الإنسانية البسيطة جدا والتي يمكن أن تكون عادية تصبح في مأزق، والواقع أن هذا المشكل معقد جدا ويثير مجموعة من المشاكل الأخرى المرتبطة به. حينما تحدثت عن العدوانية والعنف، قصدت به انعكاسات السكن الهش على قاطنيه. فالسكان في هذه الوضعية يمارس في حقهم عنف ويمارسون في حق ذاتهم عنف، وهو ما يسمى العنف الذاتي إزاء الذات، وبالتالي فالاغتصاب بدوره ليس بالضرورة أن يرتكب من طرف أناس يأتون من مواقع أخرى أكثر حماية، ففي بعض الحالات هذا الاغتصاب يرتكب حتى من داخل المكان نفسه والمحيط نفسه ومن داخل المعاناة نفسها، فالعنف بالتالي يمارس كذلك حتى في حق الذات - الذات نقصد الذات الجماعية- وبقراءة بسيطة جدا لهذه المسألة نقول إن هذه الشروط التي تذهب بالإنسان إلى جانب فيه نوع من العدوانية كما قلت، تخلق عدوانية حول الذات وفي الوقت نفسه تحاول أن تخرج هذه العدوانية كما سبق وأن قلت إزاء هذا المحيط، كالاغتصاب والمخدرات التي نجدها بكثرة في هذا المضمار، وهناك أيضا نوع من الفكر الذي فيه ظلامية وضغينة وحقد، وهذا هو بيت القصيد إذا ما نظرنا إلى الحالة التي يعيشها هؤلاء في المواقع غير اللائقة للسكن بتاتا. - ركزتم على قضية العنف، في هذا الإطار ما توصيفكم لعنف لوبيات العقار والجهات المسؤولة، التي عندما تريد إعادة الإيواء لا تهتم لأمور شتى، منها ما إذا كانت الحصيلة ستعطي تركيبة هجينة؟ طبعا حتى في الحلول التي توضع في بعض الحالات من طرف السلطات، نجدها في أغلب الحالات حلولا ترقيعية وفيها ممارسة للعنف من نوع آخر، إذ نقوم بإيواء هؤلاء في مناطق بعيدة عن المركز الحضري وعن مجموعة من المصالح الحيوية كالمستشفيات والأسواق.. نبعدهم بطريقة معينة في مناطق أكثر هشاشة، ونخلق مشكلا من نوع آخر، ومجموعة من القضايا التي ترتبط بالمدينة والحاضرة والعلاقة الإنسانية بصفة عامة، أعتقد بأن المسألة تكمن وتختصر في «النظرة»، أي كيف ننظر لهؤلاء؟ وحتى الفاعل الاجتماعي بين قوسين، الذي يخطط ويريد أن يجد حلولا ما، في آخر المطاف يقدم حلولا ترقيعية، الحل الوحيد في نظري هو أن تكون برامج مدمجة بصفة معينة، حتى لا نخلق أحياء هامشية، وحينما نقول أحياء هامشية فهي غير المناسبة للسكن انطلاقا من الهشاشة التي تعرفها، والنتيجة ننظر لقاطنيها بنظرة (عدوانية )دون أن ندري. علاوة على أن هناك محركا لا تفوتنا الإشارة إليه وهو الذي فيه الجانب الاقتصادي وجانب الربح والعقار، أعتقد أننا نتعامل مع الناس في هذه الوضعية، وكأننا كما نقول بالدارجة المغربية «كنديروا فيهم الخير»، فنعطيهم بقعة أرضية في مكان ما، المشكل لا ينبغي أن يحل بهذه الطريقة، وإنما يحل بنظرة ثاقبة مندمجة تمكننا من تجاوز العنف الممارس في حقهم، والممارس من طرفهم في حق الآخرين، بمعنى أنه ثمة مجموعة من القضايا في المدن الكبرى كالدارالبيضاء مثلا، وأن مشكل إعادة الإيواء غالبا ما يحل بطريقة»انتقائية»، فيها اعتبارات ربما لا تظهر بالعين المجردة... لكن المحرك دائما أننا نقوم بفعل الخير إزاء هؤلاء، ولا نقوم بواجب إنساني، بمنحهم على الأقل حياة كريمة فيها الحماية والوقاية، بغية التخلص من عنف السكن الهش، ومن النظرة الاحتكارية والاحتقارية التي ننظر لقاطنيه بها. * باحث في علم النفس الاجتماعي وأستاذ السوسيولوجيا إلهام بنجدية- نهاد لشهب