عندما تذهب الأمهات إلى السوق أو الحمام يتركن عادة أبناءهن الرضع عند الجيران، لكنني لم أعد رضيعا منذ سنوات طويلة، كما لم تتركني أمي عندنا جيراننا الإسبان لتذهب إلى السوق، جئت بمحض إرادتي لاكتشاف بيت الجيران الذين باتوا يتشدقون بأنهم كنسوا أرضية منزلهم من الأمراض السياسية والفساد، بيت الجيران اسمه إسبانيا. وفعلا، تبدو عاصمتهم مدريد نظيفة، على الأقل لن تجد في بيت جيراننا كائنا سياسيا معمرا مثل المحجوبي أحرضان، أو آخر ينادي رئيس حكومة دولة جارة باسم امرأة، حتى إن أبغض سياسي مر في تاريخ إسبانيا، وهو خوسي ماريا اثنار، قرر اعتزال السياسة عندما أدرك عقده الخامس، أما فيليبي غونزاليث، رئيس الحكومة الأسبق، فقد اعتزلها منذ زمن قبل أن يعتزل زوجته أيضا ويتخذ شابة إسبانية رفيقة له، وبينما يتشبث وزراؤنا ومسؤولونا بكراسيهم في انتظار استبدالها بالنعوش، فبعض سياسيي جيراننا مازالو يملكون بعض الحياء السياسي ويتمنى بعضهم أن يصبح ذات يوم «وزيرا سابقا». الفرجة في البرلمان الإسباني متعة، فاللعب لا يكون إلا بالكلمات وبلغة راقية وقلما تجدهم يكسرون قواعد اللعب، أما عندنا، فالنواب يتحولون في رمشة عين إلى نوام (بدون حاجة إلى تدخل أبي الحروف)، فبمجرد ما يبدأ أحدهم في الكلام يحلق النعاس فوق رؤوسهم، وبعضهم تجده أذكى من الجميع فينام في منزله حيث الفراش الوثير، وينتظر افتتاح البرلمان ليخرج جلبابه الأبيض من الدولاب. لكن جيراننا يشبهوننا في أشياء كثيرة، فهم أيضا يضربون زوجاتهم ويلقون بهن من الشرفات أحيانا رغم القوانين التي تحمي المرأة، وهم أيضا يدخنون ويرمون أعقاب السجائر أينما اتفق، يتكلمون بصوت عال، ويملأ السكارى عندهم الحانات والشوارع، لكنهم جميعا سواسية، فعندما يرتكب أحدهم مخالفة في السير ويوقفه الشرطي لا يساله من يكون أبوه؟ أو ماذا يعمل؟ بل يطلب منه أوراق السيارة، وعندما يحاول أن يفتح فمه ليقول إنه فلان او ابن فلان، و(فلان كلمة مازالت مستعملة في اللغة الإسبانية)، فإن الشرطي يجيبه بأدب قاتل: «الكل سواسية أمام القانون يا سيدي»، كما أنه عندما يناول الشرطي الأوراق، يكون غير مضطر إلى وضع أوراق أخرى وسط أوراق السيارة، لأن ذلك سيقوده إلى المحكمة. القضاة في بيت الجيران لا يحتاجون لهواتفهم النقالة إلا للحديث مع زوجاتهم وأبنائهم، لهم مساطر يتبعونها ولهم مجلس السلطة القضائية القادر على مراقبة استقلاليتهم ومحاسبتهم، لذلك عندما قرر القاضي الشهير بالتثار غارثون في الأسابيع الماضية الخروج في رحلة لاصطياد فيلة الحزب الشعبي اليميني وجد الشكايات ضده تتقاطر على مجلس السلطة القضائية وتشكك في استقلاليته، هذا حدث طبعا بعد تقديم وزير العدل بيرميخو لاستقالته بسبب القضية نفسها. مساوئ بيت الجيران كثيرة، فمظاهر التخلف لم تبرح عتبته بعد، لكن إيجابياته تبدو أكثر أو، على الاقل، فالإسبان أنجزوا الأهم خلال العقود الأخيرة، أما نحن، فحتى لو أعجبنا المقام هنا، فهو يبقى دائما بيت الجيران.