إن أسلوب ومحاكمة النوايا والأفكار يتنافى مع القواعد المعمول بها في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة. بعد قطع المغرب علاقاته الديبلوماسية مع إيران، تمت الإشارة إلى ارتباط ذلك بأسباب يوجد من بينها قيام الممثلين الدبلوماسيين لطهران في الرباط بأنشطة تشجع على نشر التشيع وتمس بالوحدة المذهبية للمغرب وتتدخل في شؤونه الدينية. وبالرغم من أن مبرر ممارسة الدعاية الإيديولوجية من طرف دولة فوق تراب دولة أخرى لا يقوم كأساس متين لقطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، وإلا لكان المغرب قد قطع منذ زمان علاقاته بالعربية السعودية التي لا تذخر جهداً في نشر الوهابية، فإن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل باشرت السلطات العمومية حملة وطنية لمحاربة خطر «التشيع» وملاحقة المتشيعين وسد مسالك رواج الفكر الشيعي، وشملت هذه الحملة العديد من المدن، منها وزان والصويرة وطنجة والعرائش وتطوان، واتسمت الحملة ب: - احتجازات واعتقالات واستنطاقات لعشرات الأشخاص تحت ذريعة انتمائهم إلى المذهب الشيعي أو تعاطفهم مع رموزه ومفكريه. - مداهمات وتفتيشات للبيوت وحجز كتب وأمتعة وتصوير بعض المحتويات. - إغلاق المدرسة العراقية بالرباط. - التدخل لمنع عرض الكتب التي لها علاقة بالفكر الشيعي أو بإيران أو بحزب الله، في المكتبات، وحرمان القراء والباحثين من اقتنائها. - توقيف تدريس اللغة الفارسية بجامعة محمد الخامس!؟ وفي كل هذه العمليات، كان احترام المساطر القانونية آخر هواجس الأجهزة السرية والعلنية التي كُلفت بمباشرتها، فلم تتقيد التفتيشات بزمن وأصول التفتيش القانوني، ولم يدل المفتشون بأوامر قضائية، ولم تُعرض على الأشخاص الذين تم اعتقالهم واستنطاقهم طبيعة التهم والنصوص القانونية المستند إليها، ولم تُحترم جوانب الحياة الخاصة لأولئك الأشخاص، فجرى استخراج المعلومات المسجلة في ذاكرة الحواسيب والهواتف النقالة المملوكة لهم واستعمالها بدون أي حرج أو مبرر قانوني، إلى درجة أن الذين تعرضوا لهذه التجاوزات خرجوا بانطباع عام يفيد بأننا في المغرب يمكن في أية لحظة أن نتحول إلى رهائن بين يدي السلطات العمومية، تصنع بنا ما تشاء بدون أن نكون قد ارتكبنا شيئاً مما يخالف القانون. هناك، إذن، في الخطاب الرسمي ما يفيد بأن المغرب يواجه اليوم خطر المد الشيعي الذي يهدد وحدتنا المذهبية وأمننا الروحي. والخلاف بين السنة وهم أغلبية المسلمين- والشيعة يعود إلى مرحلة الصراع على خلافة المسلمين بعد موت الرسول، حيث أمعن فريق في التشيع لعلي بن أبي طالب، واعتبره الأجدر بالخلافة من أبي بكر وعمر، ومضى بعيداً إلى حد الاستقلال بمنهج فكري تميز به عن السنة. يجمع المسلمون، سنة وشيعة، على الإيمان بوحدانية الله، وبالقرآن الكريم، وبمحمد رسول الله، وبوجوب العبادات الخمس، وبالبعث والقيامة. إلا أن السنة، وإن سلموا بالحق في الاجتهاد وتأويل الأحاديث الشريفة، فإنهم يولون أهمية خاصة للتأويلات التي جاءت على لسان هذا الإمام أو ذاك (أبو حنيفة- ابن حنبل- مالك- الشافعي)، بينما يعتبر الشيعة عموماً أن باب الاجتهاد يظل مفتوحاً وأن للمتأخرين نفس القدرة على تأويل القرآن والسنة كما صنع الأوائل مادامت أهلية الذين أُسندت إليهم هذه المهمة ثابتة. وقد ترتب، أحياناً، عن الخلاف حول صحة مجموعة من الأحاديث بروز اختلافات في التقاليد الدينية والأحكام الشرعية واجبة الاتباع. يعتبر الشيعة أن الإمامة منصب إلهي، يؤول من محمد إلى علي، ثم إلى بقية الأئمة، حتى يكتمل العدد، باستلام المنصب من طرف الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، وهو المهدي المنتظر، الذي سيظهر في زمن عم فيه الظلم ليصلح أحوال الناس، ويخرج من غيبته الكبرى. إلا أن السنة يعتبرون الإمامة والخلافة من الأمور التي لم يرد فيها نص، ولذلك فهي تظل قيد اجتهاد المسلمين، يبتون فيها حسب متطلبات كل عصر، ويحسمونها وفق رأي أغلبيتهم. الإمام، حسب الشيعة، معصوم من الخطأ، يجمع بين السلطتين الدينية والزمنية، وهو حجة الله على الأرض و«حارس المعنى الخفي للوحي». وفي الفترة التي تسبق ظهور المهدي المنتظر، يتعين، حسب الإمام الخميني، أن يُوكل أمر إقامة الدولة الإسلامية إلى فقيه له نصيب كبير من العلم والعدل، ينهض بتشكيل الحكومة فيها، وهذا هو ما اصطلح عليه بولاية الفقيه. والشيعة، حتى إن درجوا على طبع نفس النص المعتمد بوصفه القرآن الكريم، فإنهم يعتقدون بوجود مصحف فاطمة الذي يجمع بين دفتيه من البيانات والأحكام الشيء الكثير، كما أنهم لا يخصون كل الصحابة بالتبجيل والاحترام، بل لا يتورعون عن ذم بعضهم، كأبي بكر مثلاً، وقد توارثوا هذه العادة رغم استهجانها من طرف عدد من رموزهم، كالإمام الخميني. ويعتبر السنة تلك العادة غلواً في التعصب وضلالا مبينا. ويعرف الشيعة أيضاً بانتهاجهم سبيل التقية، حتى في غير حاجة أو ضرورة لدفع الإذاية والهلاك، وتقوم التقية على إظهار المسلم عكس ما يضمر. ويقوم الفكر الشيعي، عموماً، على نوع من التراتبية الدينية، ويخلد أتباعه ذكرى استشهاد رموز كانت تستحق نهاية أخرى، ولهذا يعتبرون أنفسهم مطوقين بواجب استحضار تلك المأساة في تاريخنا الإسلامي للاتعاظ منها، وللعمل على «الثأر» للشهداء، وإيقاع دولة العدل التي تصحح خللاًُ تاريخياً. وبما أنهم ينتظرون الإمام المهدي فقد يولد لديهم ذلك ميلاً إلى السقوط في عدم الاستقرار السياسي. ويعتبر الشيعة أيضاً أن الأحاديث النبوية التي لم تُرو على لسان أهل البيت، تكون محط منازعة، مثل أحاديث أبي هريرة مثلاً. ورغم الانتماء السني إلى المغرب، فإن عدداً كبيرا من التقاليد والمظاهر الشيعية تستقر، منذ عقود، في ثقافتنا ووجداننا، فنحن نخص، مثلاً، آل البيت باحترام استثنائي، ونربط شرعية ملكيتنا بانحدارها العائلي من بيت النبي (ص)، ونحتفل بعاشوراء بإشعال النار، ونستعمل في وصف الجالس على العرش عبارات (مولانا الإمام) و(سبط الرسول) و(خليفة الله في أرضه)، ونقر، في المادة 23 من دستورنا، بقداسة الملك، إسوة بالشيعة الذين يضعون الإمام في مكان رفيع باعتباره ينوب عن النبي (ص) ويصل ما بين العالمين الروحي والأرضي المادي. ولا يبدي المغربي المسلم، عموما، أي نزوع طائفي ويقبل التفاعل مع المذاهب الأخرى والاقتباس منها، فرغم اقتفائنا أثر التراث المالكي، فإننا في مدونة الأسرة، مثلاً، انفتحنا على اجتهادات مذاهب أخرى. ويمكننا أن نمضي في نهج الاستفادة من الفرق والمذاهب الأخرى ضمن اختيار التنوير. وفي هذا الإطار، فإن النقاشات التي استوعبها المتن الشيعي بخصوص قضية الجبر والاختيار، والاعتراف للعقل بقدرته الفطرية على التمييز بين الخير والشر، والانطلاق من أننا لا يمكن أن ننسب الشر إلى الله، وأن القرآن الكريم له معنى ظاهر ومعنى خفي يجب البحث عنه، تستحق المتابعة وإيلاءها الاهتمام الضروري وتقديرها حق قدرها، بل يمكننا أكثر من ذلك أن نقود، كمغاربة، حركة بناء وتعزيز جسور الحوار والتواصل الفكري بين المسلمين من السنة والشيعة داخل منظور حركة نهضوية تضعنا جميعاً في موقع الانسجام مع منطق العصر والحداثة وتساعدنا في بناء المستقبل. والمشكل في الأصل، بكل صراحة، ليس مشكلا فكريا أو دينيا أو مذهبياً، بل هو مشكل سياسي، فهناك من يتملكه الخوف من أن يتطور التعاطف مع إيران وحزب الله ورموز مقاومة الصهيونية إلى نوع من الولاء لدولة أخرى والانتقاص من قيمة المؤسسات القائمة ببلدنا، ومحاولة استيراد نموذج نظام سياسي آخر يُراد له أن يقوم مقام النظام السائد. وفي هذا الإطار، لا بد من القول إن من حق أي مغربي أن يقع في عشق حسن نصر الله أو أحمدي نجاد أو أن يسكنه الإعجاب بهذا الرمز أو بهذا النظام، فهذا شأنه. المشكل ينشأ من اللحظة التي ينتقل فيها العشق والإعجاب إلى مستوى استعمال العنف لتحقيق النموذج أو المثال الذي يتبناه الشخص، وليس من حقنا أن نعتبر الوصول إلى هذا المستوى مآلا حتمياً، فنستبق بتجريم الأفكار والقناعات والمواقف الفكرية، وهو ما يتناقض مع الحريات المكفولة دستورياً. إن مداهمة البيوت، وتفتيشها، وحجز الكتب والوثائق، وترويع العائلات، واعتقال أصدقاء المشتبه في تشيعهم وأقاربهم، واقتيادهم أمام الملأ أحياناً من مقرات عملهم، واستعراض فرق من أجهزة استخباراتية وأمنية متعددة، ليس عملاً مجانياً، وهو لا يستهدف الإحصاء وضبط اللوائح، وهذا ما يمكن أن يتم بدون جلبة، بل يستهدف إيصال رسالة إلى كل فرد يتابع المنشورات الشيعية أو يتعاطف مع أفكار أو رموز شيعية، وإلى كل من له صلة بهذا الفرد أو علاقة به، مؤداها أنهما يوجدان معا في دائرة المحظور وفي حالة الخروج عن شرعية ما، رغم عدم وجود أي خرق لنصوص القانون. وربما كانت متابعة المعتقلين السياسيين الستة ضمن ملف بلعيرج وجها من أوجه هذه الرسالة. إن الكثيرين منا لا يدركون التباس الدور الذي تلعبه إيران في الساحة العراقية، ولا ينتبهون إلى الأبعاد الهيمنية والمصلحية الضيقة لكثير من مبادراتها وخططها، ولكن الفراغ الناجم عن عدم نهوض الأنظمة العربية بالتزاماتها حيال قضايا العدوان الصهيوني، هو الذي أفسح المجال لتصاعد الدور الإيراني في منطقتنا العربية والإسلامية. ثم إن تطورات مسلسل احتلال العراق، وانتصارات حزب الله في لبنان، والإصرار الإيراني على امتلاك التقنية النووية، والتحالف الاستراتيجي مع سورية، وتشكيل محور الدوحة، والتهديدات الأمريكيةلإيران، كل ذلك جعل هذه الأخيرة تظهر كصوت للمستضعفين في أرض الإسلام، وسمح لها بتعزيز نفوذها والتفكير في بناء قواعد ارتكاز في العمق العربي تحسباً لكل الطوارئ. ولكن التشيع كاختيار مذهبي ليس مسؤولاً، في حد ذاته، عن كل هذا. ولهذا، فلا معنى لتجريمه، ومادمنا نسمح لأي مغربي بأن يختار الديانة التي يريدها، وأن يغادرها إلى غيرها، أو أن يكون بدون ديانة، فليس لنا الحق في منع الناس من اعتناق هذا المذهب أو ذاك. فمن حق أي مغربي أن يتحول من المذهب المالكي السني إلى المذهب الشيعي أو العكس. وليس هناك نص دستوري يفرض على المغربي المسلم أن يكون مالكياً أو أن يبقى مالكياً. وحتى لو قررنا أن ينص الدستور على ترسيم المالكية كمذهب للدولة - كما فعل مشروع دستور 1908- فإن ذلك لا يعني سوى أن هذا المذهب هو المعول عليه في عمل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ومناهج التثقيف الديني الرسمية ونشاط الإعلام العمومي والمساجد والمجالس العلمية. فكما لا يمكن أن يُفرض الإسلام على أي أحد بالإكراه، فلا يمكن أن يُفرض عليه الانتماء إلى مذهب معين بالقوة، وإلا كنا بصدد الاعتداء على الحق في حرية الفكر والعقيدة. إن أسلوب الاعتقال والترهيب ومصادرة الكتب ومحاكمة النوايا والأفكار يمثل نوعاً من المكارتية الجديدة التي تتنافى مع القواعد المعمول بها في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة. إذا كان هناك للفكر الشيعي مساوئ ولانتشاره أضرار، فلا يمكن مواجهة ذلك إلا بالمزيد من إبراز محاسن الفكر المالكي ومنافع انتشاره، وليس بتدخل أجهزة الأمن والمخابرات. ولذلك يبدو تعليق الأستاذ محمد العبادي رئيس الرابطة المحمدية للعلماء، منطقيا،ً في نظرنا، حين يقول «إن توضيح وبيان الثوابت الدينية المغربية التي تتجلى في المذهب الأشعري اعتقاداً والمذهب المالكي فقهاً والتصوف السني، هو خير مقاومة لكل مظاهر الاختراق كيفما كان نوعه أو لونه، شيعياً أو غيره (..) إن الذي يكون اليوم بيانه بليغاً بيناً جذاباً في عالمنا، لا شك أنه سوف تكون له مغناطيسية استقطابية أكبر، مما يستلزم التوجيه والتخطيط والتشمير والتكوين والإنفاق من قبلنا حتى نحقق الميل الفكري والحضاري الذين يحصل معهما العطاء والنقل انطلاقاً، والتلقي والتقبل انتقاء».