ربطَ حماره إلى زيتونة قصيرة، حمل معوله ونزل أسفل القنطرة، على شمس تسرح أشعتها بتثاؤب. فكر في الصحراء والأوتاد، فكر في الأطلال التي رآها في القصائد.. استعاذ بالله من الشيطان والنجوى، وخبط الأرض فأيقظ صدى خبطه الطيور في الأشجار. هذا جدي متطوعا، في عهد السمح ابن مالك الخولاني، صاحب الأندلس، لترميم القنطرة الرومانية بقرطبة بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز. كانت عزيمته أقوى من معوله، وفكره يسبق خطوات حماره.. حتى إنه مر أسرع من النهر فلم يسعفني لأسأله عن اسمه وأصله وفصله، وهل يجدُر بي أن أنتسب إليه. على شرفة، محايثة للقوس الروماني، تطل على الوادي الكبير وهو يجري جارفا معه الحشائش والتاريخ، باغتني، وقد حدس من سحنتي أنني مغربي: هل تعرف أن فيلسوفا فرنسيا مسلما اسمه روجي غارودي هو من رمم ذلك البرج القائم في نهاية القنطرة؟ لم أنبس بكلمة فاستدرك: أنا مغربي من وجدة، أشتغل دليلا سياحيا. لم يكن يحمل أي دليل على قوله. نفحته ابتسامة وانصرفت مفكرا في غارودي الذي قاده إلى الإسلام طريقان هما: عِلم المسلمين في قرطبة ومعاملة المسلمين في الجزائر. ففي الوقت الذي كانت فيه الثقافة المسيحية الوسيطة تعادي الكتب وأصحابها وتعتبر أنهم يجادلون في خلق الرب ومشيئته، كانت فهارس قرطبة وحدها تصل إلى 44 كتابا ضخما، تحيل متصفحها على 600 ألف كتاب. الفن الإسلامي في قرطبة، أيضا، من جملة ما قاد الفيلسوف الماركسي إلى الاعتصام بالإسلام وبقرطبة التي قضى فيها آخر أيام حياته. لقد وله غارودي بالجامع الذي رأى أنه يجمع بين جدرانه الصلاة والعلم والفن والجدل... أما المعاملة، فلم ينس غارودي كيف أنقذ حياته جنودٌ جزائريون، وهو معتقل سنة 1941 في الجزائر رفقة 500 من مقاومي الاحتلال النازي لفرنسا، عندما أمر أحد الضباط الفرنسيين الموالين لألمانيا النازية جنوده الجزائريين بإطلاق النار عليه هو ورفاقه، لكن الجنود المسلمين البسطاء رفضوا الامتثال لأوامر رئيسهم. لست أدري ما الذي ذكرني بسرفانتيس الذي كان قد أسِر لخمس سنوات في الجزائر، خلال القرن السادس عشر، وحكى ذلك في روايته «دون كيخوطي» التي تلعب دور الراوي فيها شخصية مسلمة هي سيدي أحمد بنخلي، فيما تقدم الرواية المسلمَ في صورة ذلك الشرير الماكر المخادع. تذكرت ذلك وتساءلت: ترى لو لم يتعرض سرفانتيس، مرات ومرات، للجلد والتعذيب في أقبية الأتراك بالجزائر، أكان سيدخل الإسلام؟ من المؤكد أنه كان سينقل صورة أخرى عن المسلمين. كان يكفي أن أدابر القنطرة لأجد أمامي مسجد قرطبة «الجامع»، مفخرة الأمويين والأندلسيين بهويتهم المتعددة. مازالت عبارة «لا غالب إلا الله» تحف أسقف المسجد-الكاثدرائية، جنبا إلى جنب مع الصلبان والنواقيس والتماثيل. لم يمحُ نصارى محاكم التفتيش هذه العبارة. أتراهم وجدوها محايدة أم تراهم فسروا غلبة الله لصالحهم؟ عموما، ما قاموا به من اضطهاد للمسلمين واليهود وإحراق للكتب لا يعني الله في شيء. لقد بلغ الأمر بمفتشي المحاكم المسيحية أن أرغموا كل من يشكون في مسيحيته على تجرع الخمر. لذلك غنينا ونحن أطفال: «تكشبيلة تيوليولة.. ما قتلوني ما حياوني غير الكاس اللي عطاوني.. الحرامي ما يموتشي جات خبارو في الكوتشي» بدون أن نعرف أن «تكشبيلة» هي إشبيلية، و»تيوليولة» هي طليطلة.. حيث كان المسلمون يستغيثون من الموت بشرب الخمر كُرها. وكنوع من الانتقام الرمزي، رددت «تكشبيلة تيوليولة» بين جدران مسجد-كاثدرائية الخيرالدا بهمس مسموع، ناظرا في الآن نفسه إلى العبارة التي كنت أجدها تطل عليّ من قباب قصر الحمراء ومسجد قرطبة ومدينة الزهراء وجامع الخيرالدا: «لاغالب إلا الله».. فيما السواح، حاملو كاميرات التصوير، يحسبونني مرددا صلوات الصباح. كان مفترضا في بداية جولتي الأندلسية هاته أن أزور صديقي ألبرتو غونزاليس، «الشاب» الستيني الذي قدمه إلي الصديقان بهاء الدين الطود ووداد بنموسى، وهو موريسكي مازال يحتفظ بوثيقة إشهاد تحول عائلته، مكرهة، من الإسلام إلى المسيحية، تؤكد ذلك العبارة التي تذيل أسفل الوثيقة، والمكتوبة بحروف عربية متفرقة: «لا غالب إلا الله». عاتبني ألبرتو على عدم زيارتي له، حينما التقينا في نهاية جولتي، فأجبته بإسبانية معربة: «الغالب الله» يا صديقي. قرطبة