إن أية محاولة لحصر وظيفة المسجد في ميدان معين أو التقليل من دوره القيادي هي محاولة عقيمة وضيقة الأفق، لأن الدراسات العلمية والموضوعية لتاريخ الإسلام الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي تنقض كل محاولة من هذا القبيل. فقد كان المسجد يقوم مقام العديد من مؤسساتنا المعاصرة، كان محل العبادة الذي يؤدي فيه المومنون شعائر دينهم، ويتعلمون فيه أموره وأمور دنياهم أيضا، والمنتدى الذي يؤمونه ليتصل بعضهم ببعض، يتداولون شؤونهم الإدارية والسياسية والعسكرية، وكان الساحة التي يجتمعون فيها لسماع قرارات أمرائهم وأخبار فتوحهم، ودار القضاء التي يلجأون إليها لحل خلافاتهم، وكان أحيانا موضع بيت المال أو مستقر خزائن الكتب، أو غير ذلك مما تتطلبه حياة الجماعة بأوسع معانيها. فالمسجد باعتباره مكان لإقامة الصلاة هو باحة التعبد لله الواحد، والمكان الذي ينسى فيه الإنسان ذاتيته ليتصل بالله مباشرة منعتقا من البيئة المادية، محسا بالصغر والافتقار مهما ارتفعت منزلته وعلا مقامه، ففي الصفوف يقف المسلمون على قدم المساواة فيهم الغني والفقير والقوي والضعيف والعالم ومن دونه، فكان بذلك المكان الذي تنتفي فيه الفوارق الاجتماعية، تقول الباحثة الألمانية زيغريد هونكه صاحبة كتاب شمس الله تسطع على الغرب" فالكل سواسية كأسنان المشط، وقد كان هذا هو الأساس الديمقراطي للإسلام الذي جعل المساجد تتسع ولا ترتفع لتضم مزيدا من الأروقة للمؤمنين المتساوين في الحقوق والواجبات". هذه واحدة من الشهادات التي تصف المسجد كمكان لإقامة الصلاة بخصوصيته المميزة عن باقي الأماكن الأخرى للعبادة عند غير المسلمين. وتتميز مساجد المسلمين بكونها غير منعزلة ببنيانها عن الناس، وإنما تأخذ دائما شكل المركز والقطب والمحور، فتشكل بذلك المنبع ولتكون في الأخير هي المصب، فهي على تعبير الباحث محمد الناصري" المؤسسة المركزية للحياة السياسية والاجتماعية للمدن". فالمسجد بالنسبة للمدينة أهم شيء فيها، فبناؤه أول ما يدل على طابعها الإسلامي، فالرسول صلى الله عليه وشسلم عندما هاجر إلى المدينة كان من بين الأولويات أن بنى مسجدا تقام فيه الصلاة ويجتمع فيه المسلمون مقيما بذلك أساس المدينةالجديدة. وعلى هذا النهج صار الفاتحون والخلفاء، فلما أسس عتبة بن غزوان البصرة سنة 16ه بدأ بإنشاء المسجد ودار الإمارة، ثم ترك لكل قبيلة حرية بناء خطة لها، وكذا فعل سعد بن أبي وقاص بالكوفة سنة 17 ه ففي قلب المدينة يوجد المسجد ودار الإمارة، ولما بنى عمرو بن العاص مدينة الفسطاط كان أول ما فعله وضع أساس جامع عمرو سنة 21ه، والخليفة المنصور لما بنى بغداد جعلها دائرية الشكل واتخذ داره وجامعه في قلب الدائرة تماما. إن ما يهم من استعراض عمليات بناء المساجد هاته هو بيان المواقع التي تبنى فيها، فعملية اختيار البقعة التي يبنى عليها المسجد لم تكن اعتباطية، وإنما كانت تخضع لاختيار دقيق حيث تجعل في الوسط لتكون القلب النابض للمدينة الموحد لعلاقاتها الاجتماعية المتحكم في توسع نسيجها الحضري. فلا غرابة إذن إذا وجدنا العلامة شهاب الدين أحمد بن محمد ابن أبي الربيع (272ه) في مؤلفه"سلوك المالك في تدبير الممالك على التمام و الكمال" يقول تحت عنوان ما يجب على من أنشأ مدينة أو اتخذ مصرا ثمانية شروط" وجعل من بين هاته الشروط، "أن يبنى فيها [أي في المدينة] جامعا للصلاة في وسطها لتتعرف على جميع أهلها…". ولما كانت معظم المساجد في وسط المدينة غالبا فقد أحيطت بالأسواق التي يحتاج إليها سكان المدينة، وكانت هذه الأسواق تقيمها الدولة أو الناس. إذن فالمسجد باحتلاله لهذا الموقع كان يمثل المنطلق و المحرك والمحدد للبنى التحتية، يقول الباحث محمد الناصري:"فتمثل المدجال ووظائفه داخل المدينة كان يخضع لتراتب قيمي دقيق، فكل شيء ينتظم حسب القرب أو البعد من المسجد،كتعيين أنشطة الإنتاج والتبادل، وتباين أسعار العقارات، وترابط العلاقات الاجتماعية والجوارية". فالمسجد بهذا الدور تمكن من تسيير حياة الجماعة الإسلامية، وطبعها بالطابع الروحي الذي ميز الحضارة الإسلامية، فقد كان بالإضافة إلى كونه موضع عبادة، مؤسسة تربوية تعليمية، يتعلم فيها الناس مبادئ دينهم في العقيدة والعبادات والمعاملات ومنه تخرج علماء هذه الأمة وعباقرتها، فنجد في المسجد الواحد حلقات متعددة في شتى العلوم الدينية منها والدنيوية، ويكفي أننا حين نتذكر العصور الزاهرة لجوامع مكةوزالمدينة وبخارى وسمرقند ودلهي وأصفهان وبغداد والبصرة والكوفة والفسطاط والقيرون وفاس ومراكش ودمشقو القاهرة واسطنبول وقرطبة وغرناطة واشبيلية يتبادر إلى أذهاننا ذلك الإشعاع العلمي والديني القوي الذي سلطت أضواؤه على هذا الامتداد الجغرافي للعالم الإسلامي، بل تعداه إلى مناطق أخرى لازال علماؤها الآن يعترفون بفضل هذه الجوامع الجامعات في إرساء أسس الحضارة الإنسانية التي تجعل من المسجد رمزا للوحدة التي تنشأ بين مصليه. هذه الوحدة التي تفطن لها أعداء الإسلام، فكتب أحد المبشرين تقريرا عن إخفاق حركته التبشيرية في البلاد الإسلامية قائلا:" سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها سفن التبشير المسيحي ما دام للإسلام هذه الدعائم الأربع: القرآن والأزهر واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي" وإذا ما انتقلنا إلى الجانب الفني للمساجد نجده آية لانعكاس فن العمارة الإسلامية، يقول رجاء غارودي:"كل الفنون في البلاد الإسلامية تؤدي إلى المسجد والمسجد إلى الصلاة" فالمساجد التي خلفها المسلمون هي آية في الفن المعماري الأصيل الذي صاغه مبدعون وحرفيون تمكنت العقيدة من نفوسهو، فترجموا ذلك على جدران المساجد وأوجدوا فنا أصيلا لازال قائما حتى الأن. ونعود لنقول إن المسجد بالنسبة للمدينة الإسلامية هو المنظم لنسيجها الحضري، الموحد لمجالها الجغرافي والبشري ، وقد أحسن شريف منير يوسف مهندس في مديرية الآثار القديمة ببغداد حين قال"إن مئذنة إشبيلية (ألخيرالدا) في الأندلس و(قطب منارة) في دلهي تبدوان أمام المتتبع كبرجين قائمين على حدود هذه الإمبراطورية الواسعة، وهما رمزان جميلان لوحدة العالم الإسلامي الأصيلة، وكأن حالهما يسبح بقوله تعالى:{رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا}. ولنا أن نتساءل الآن عن واقع مساجدنا اليوم هل تمثل الدور الحقيقي التي ندبت إليه، أم أن الواقع يحكي عكس ذلك؟، بمعنى هل زال للمسجد دوره القيادي، أم أن مركزيته تقلصت وضيق عليها؟. ومن الأجوبة الكثيرة عن هاته التساؤلات يقول الباحث محمد الناصري:" إن تحديث أنماط التفكير، وأنماط الإنتاج والتبادل، ألغم بطريقة ماكرة منطق التنظيم المجالي للمدينة الإسلامية، وبذلك لم يعد المسجد باعتباره المجال المفضل، حيث تتظافر العوامل السياسية والدينية بشكل وثيق لتسحب مكانته المركزية السابقة، مع العلم أنه كان دائما تجسيدا لحقل المعرفة والتعبير وسلطة القرار بالنسبة للجماعة، حيث تحول إلى مكان للعبادة فقط، مفصول بشكل يكاد يكون نهائيا عن مشاكل المجتمع".