شكل العنف تيمة أثيرة عند كثير من الكتاب والمفكرين، فهو ضارب في الوجود الإنساني، ولا يزال الموضوع الذي لا يمكن نسيانه باعتبار أنه ينطلق من نزعات إنسانية غير مفهومة. وهذا ما جعل الكتابات بمختلف أنواعها وأجناسها لا تتوقف عن ملامسته، لكن الرواية تظل هي الجنس الأقوى على التعامل معه، ورواية "إصرار" لبوشعيب الساوري واحدة من تلك الروايات. نور الدين بلكودري تدخل «إصرار» في هذا الإطار، بجعلها العنف تيمة مركزية في تشكيل عالمها الروائي، إذ تحاول الوقوف، بحس نقدي، عند التوترات التي تعرفها أسرة تنتمي إلى مدينة كنيخ (سيدي بنور حاليا) وتكشف عن المآسي المترتبة عن العنف الأسري وأثره على الأطفال. وتمثل هشومة بطلة الرواية نموذجاً لضحايا العنف ومن ضاعوا نتيجة اللاتوازن الذي عاشوه داخل أسرهم. امبارك بن العربي وخديجة بنت البراني شخصيتان أعماهما الحب الجارف، فتزوجا بعد صراع مرير لأن والد خديجة رفض زواج امبارك بابنته بدعوى أنه لا يناسب مقامهم ومكانتهم الاجتماعية. ولتحقيق مراده يلجأ امبارك إلى كل الوسائل، بما فيها السحر والشعوذة، وسينجح في ذلك، ليظهر من البداية الاختلال الذي تعرفه هذه العلاقة. كما لعبت مرسولة الحب «يزانة» دورا كبيرا في تجميل كل واحد منهما للآخر، ليكبر الوهم ويتحقق الحلم الذي طالما راود امبارك، وأخيرا يفوز بحبيبته وينعم بما تملك من جمال. يضطر امبارك إلى مغادرة دوار «الكوارط» إلى مدينة كنيخ القريبة، ويمتهن هناك مهنا متعددة، فيحدث ما لم يكن متوقعا، إذ يجد كل واحد من الحبيبين صعوبة في التآلف مع الآخر، يذهب مفعول السحر، وينكشف الواقع، وتزداد معاناة هشومة بسبب انعدام الود بين والديها الناتج عن الانهيار المفاجئ لحبهما. تشترك الشخصيات الثلاث المؤسسة للتماسك السردي لرواية «إصرار» في فعل العنف الذي هو السمة البارزة التي تجمع بينها، وإن كان هذا العنف يتمظهر بأشكال مختلفة لدى كل شخصية، فعلا وانفعالا، ماديا ومعنويا. ويتغذى هذا العنف، الذي يسكن الشخصيات، من تنامي انعدام الثقة بين أفراد الأسرة الواحدة: الأم، الأب والبنت. إنه عنف كائن في واقعنا تحاول رواية «إصرار» فضحه وتضع كل واحد أمام مسؤولياته. الكتابة خلاص وفضح قررت هشومة، التي وثقت كل تفاصيل العنف المادي والرمزي المرتبطة بعلاقة والديها، قبل أن تغادر إلى مدينة مراكش لإتمام دراستها، الكشف عن حكايتها لوالديها التي دونتها في مذكراتها. تقول: «حلت ساعة المواجهة والحقيقة.. أسلمهما شهادتي المؤجلة ونتائج بحثي في أسرار العطب المفترض في علاقتهما وأغادر حياتهما، لأدشن حياة جديدة بعيدا عن خصامهما اليومي».1 تمثل هشومة نموذجا لأطفال كثر ضحايا انعدام الأمان والاستقرار داخل الأسرة، الناتجين عن العنف وما يترتب عنه من تعسف على الأطفال وإهمالهم، مما يضاعف الجراح والاضطرابات النفسية، التي تبقى محفورة في ذاكرة الأطفال وتكون مسؤولة عن تكوين شخصياتهم. وقد عاشت هشومة مأساة كبيرة اسمها العنف الزوجي الدائم، على شكل صراع وتوتر أبديين بين الأبوين. سكن هذا التوتر نفسيتها وتنامى حتى أصبح جزءا من كينونتها وطبعها بكل ما هو سلبي وسوداوي، وأذهب عنها الابتسامة والانشراح. وتعبر عن ذلك قائلة: «فمشاعر الفرح لدي قد أصابها العطب، منذ طفولتي المبكرة، وصارت الفرحة مرجأة، والجسد أيضا لم يعد يسعف، حتى ولو في رسم ابتسامة مفتعلة» (الرواية، ص:11) . لم يتغذ هذا الاضطراب واللاتوازن في نفسية هشومة، فقط بالمناقرة اليومية، التي تصل إلى حد السب والشتم بين والديها، وإنما غذته أيضا وحدتها الدائمة، لأنها لم تجد طرفا آخر تعبر له عن جراحها وآلامها أو حتى من يرعاها. وتكشف عن ذلك بوضوح فيما كتبت: «كم تمنيت لو كنت طفلة نزيلة دار للأطفال، على الأقل أجد هناك من يهتم بي ويوفر لي الأكل ويحرسني ويرعاني» (الرواية، ص:15). دفعتها هذه الوحدة القاتلة إلى كتابة يومياتها وتسجيل كل صغيرة وكبيرة عن علاقة والديها المعطوبة، ولتسجل العنف اليومي وكأنها تريد أن تقول صارخة لوالديها: أين كنتما وأنا أكبر في غفلة منكما؟. هكذا تجد هشومة نفسها وحيدة في مواجهة حياة قاسية، كان يزيدها انصراف والديها للمناقرة كل يوم قسوة، فلا يكون أمامها سوى مواجهة متطلبات الحياة بشراسة وعنف. مظاهر العنف في رواية «إصرار»: يعرف روبرت ماكافي العنف بأنه «انتهاك للشخصية، بمعنى أنه تعد على الآخر، أو إنكاره، أو تجاهله، ماديا أو غير ذلك»2. نجد صدى عميقا لهذا التعريف في رواية «إصرار»، فالعنف انطلاقا من هذا التعريف لا يقتصر فقط على الأذى الجسدي، وإنما يتعداه إلى الجانب النفسي الوجداني. في الرواية نجد توازنا في الحضور بين هذين النوعين من العنف، فيما تظل هشومة الطفلة الضحية الأولى للشكلين معا، وتبدأ قصتها من اكتشافها أنها غير مسجلة في الحالة المدنية، وهذا إنكار لوجودها وسلب لشخصيتها. تكبر الوساوس داخلها وتتمرد على ذاتها بالخروج إلى الشارع بحثا عن الأمان المفقود في بيتها فتواجه صنوفا شتى من العنف، كما تسلط الضوء على مختلف مظاهر العنف حواليها. يحس الأب امبارك بالغبن عندما يسمع من أحدهم في لحظة سكر طافح بأن زوجته خانته، فيكون رد فعله الهروب من المسؤولية الأسرية وإهمال هشومة لاحقا باعتبارها ابنة غير شرعية. هذا سيخلق فجوة عميقة بينه وبين زوجته، لتصبح هشومة عبئاً ثقيلاً عليهما معاً. تعي الطفلة وضعها وتُصاب بالإحباط من المناقرة بين والديها، التي صبغت وجودهما اليومي. وجاء على لسان الساردة : «أما مناقرة والدي فلم تعد مجرد ملح طعام، بل غلبت على الطعام وصارت هي الطعام عينه، وحين يغلب الملح على الطعام يفسده» (الرواية، ص:80). تفتقر هشومة إلى كل المشاعر الجميلة من حب وحنان ورعاية نتيجة انعدام الحب في محيطها الأسري، فعلاقة والديها علاقة زوجية مرضية بنيت على وهم الحب ولم تبن على الحب الواعي. لهذا بمجرد دخولهما بيت الزوجية انكشفت الحقيقة وانجلى الوهم وتشامخ الواقع ليجدا بأنهما بعيدان عن بعضهما البعض، ويكتشفا بأنهما كانا ضحيتي حب زائف. هناك قاعدة معروفة تقول: «فاقد الشيء لا يعطيه»، فالأم تفتقد الهدوء والحب، وهي مهملة من طرف زوجها، وهذا انعكس على نفسيتها وعاطفتها، فلم يعد بمقدورها منح طفلتها هشومة ما تفتقده هي نفسها، فيظهر الاختلال الذي طبع شخصيتها، فهي الضحية والجاني في نفس الوقت، وهي نتيجة للعنف وليس لها ما تقدمه سوى العنف. ونستحضر مقولة للباحث مونرو يقول فيها: «إن الأم غير المدعومة من شريك محب وحاضر قد تبدأ بالامتعاض من الطفل»3. لقد كانت هشومة ضحية عنف مزدوج: عنف معنوي داخل البيت، وعنف مادي جسدي خارجه. فبعد أن خبرت واكتوت بنار العنف الرمزي داخل البيت خرجت إلى الشارع بحثاً عن وجودها المغتصب، وكان احتكاكها بالمتسكعين والسكارى فرصة أمامها لاكتشاف ذاتها، والشارع غالبا ما يساهم في تشكيل شخصيات عدوانية، وهشومة لم تكن استثناء، ففي كثير من الأوقات وجدت نفسها في مواقف حرجة غالبا ما تخرج منها فائزة. وتبقى آثار العنف الناتج عن مواجهة هشومة للحياة موشومة في قلبها وعلى جسدها الذي ملأته الندوب، فكان الشارع مدرستها، وهو الفضاء الذي تحكي له همومها وآلامها، رغم ما كانت تلقاه من أصناف العنف فيه، في حين أن بيت الأسرة هو شريط حياتها المليء بالمآسي التي لا تنتهي، فعوض أن يكون هو الملجأ الذي تجد فيه الدفء والحياة الهنيئة أصبح مصدر إزعاج وأرق دائمين. جاء على لسان الساردة: «لم أجد في بيتنا سوى مدرسة للشجار ومحترفا للعنف الرمزي وتبادل الاتهامات، وأيقنت أن لا دور له سوى تغذية جراحي»(الرواية، ص:23) . لا يمكن لطفلة كهشومة أن تحلم بالنجاح في حياتها لأن ظروف تحقيق أي حلم جميل منعدمة في محيطها الأسري، فالفقر المدقع والعنف الأسري عاملان كفيلان بجلب الفشل لا النجاح، لهذا كان أقصى ما ترغب فيه هو أن تنجح نهاية كل سنة دراسية ولم تكن تهمها الميزة التي تنجح بها، المهم أن تمر إلى المستوى الموالي، أن تحس بأنها تتقدم إلى الأمام لتحقق حلمها بأن تصبح شرطية تمارس السلطة وتحمي نفسها من أذى الآخرين وكأن حالها يقول إن هذه السلطة ستعوضها عن سنوات القهر والحرمان وتعطيها فرصة التحكم في مصائر الآخرين، وهذا ما يؤكد تمكن العنف منها، وصار يطبع أحلامها المستقبلية. أثناء الصيف لا تستمتع هشومة كقريناتها بالعطل، لا تعرف الشاطئ أو السفر إلى مدينة أخرى، إذا سافرت يكون دوار «الكوارط» موطن الأجداد وجهتها، حيث تمارس شغبها وعنفها على الأشياء والحيوانات، مع أبناء أعمامها، وتقوم بكل الأنشطة الفلاحية بمرح طفولي لا يخلو من عنف، وستعيش في هذا الدوار تجربة عنف صادمة حينما تعرضت للاغتصاب ليلا دون أن تتعرف على وجه مغتصبها. اغتصاب سيعمق جراحها ويهز وجدانها. إنها طفولة تنهار كما الجدار. وتوثق الساردة هذه التجربة بالحرف قائلة: «في الصباح حاولت إفراغ متانتي، وجدت صعوبة في التبول...مع شعوري بألم خفيف، فانتبهت لوجود قطرات دم باهتة بتباني، خرجت منكسرة حسيرة ينتابني شعور بأنني فقدت قطعة من جسدي» (الرواية، ص:127). هذه التجربة عاشتها هشومة دون أن تكشف عنها لأحد، كتمت حزنها، وأخفت تعاستها، فأية طفلة هذه؟ إنها هشومة القاسمة المقسومة، وحيدة تعاني حاملة هموما كثيرة، كما قال لها يوما ولد سيدي موسى بن علي في إحدى زياراته لهم في البيت. صورة متعددة الوجوه إن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح، في هذا السياق، هو كم من هشومة تعيش بيننا في مجتمع يعاني من التفكك الأسري؟ إنهم كثر، ولا شك أن رواية «إصرار» تصر على كشف نموذج من هؤلاء الأطفال الذين حرموا من أسرهم رغم أنهم ليسوا أيتاما، فالتشرد لا يعيشه دائما من فقد أحد والديه، أو حصل طلاق بينهما، بل يمكن أن يتشرد الطفل وهو يعيش بين والديه، وهشومة واحدة من أطفال هائمين على وجوههم دون سند أو معيل، فعوض توفير الأبوين لها ضروريات الحياة، يفرض عليها واقعها الخروج إلى الشارع للبحث عن لقمة العيش إما عن طريق السرقة أو البحث عنها بين الفضلات. أبعاد السرد في رواية «إصرار»: قام السرد في رواية «إصرار» بالإجابة عن سؤالين جوهريين هما: أولا؛ لماذا هذا العراك الدائم بين امبارك وخديجة؟ وثانيا، لماذا هشومة منبوذة من طرف والديها؟. وللإجابة عن هذين السؤالين استعانت الساردة هشومة بأطراف متعددة بحثا عن الأجوبة الشافية التي ستطفئ حرقة قلبها، وتكشف عن دواعي العنف المستفحل حولها، وهي الطفلة الوحيدة المقهورة التي لم تستوعب واقعها الصادم. ومن المرجعيات التي اعتمدتها هشومة للبحث عن الحقيقة «أمي الزاهية» التي حكت لها عن أصول والديها، واعتمدت أيضا الساردة على ما كان يحكى لها من أطراف أخرى واكتفت باستعمال عبارات من قبيل: «قالوا والعهدة عليهم»، «حسبما قال الرواة»، بمعنى أن الساردة كانت تستقصي الأخبار من معارف والديها وتسجل مذكراتها. وأخذ السرد هنا بعدين: بعد باطني –داخلي، وبعد خارجي. الأول تحكمت فيه الحالة النفسية لهشومة، التي حكت عن آلامها النفسية والجسدية وآثار العنف عليها ووحدتها القاتلة. والبعد الثاني عكسته الوقائع والأحداث المرتبطة بتاريخ والديها. كان كل هذا لمعرفة أسباب العنف والمناقرة والشجار الدائمين. وتبقى أبرز النتائج التي وصلت إليها هشومة هي: أولا، أنها غير مسجلة في الحالة المدنية، والسبب رغبة الأب في الانتقام من أمها الخائنة، في نظره، وهو عنف رمزي. ثانيا، أن العلاقة التي جمعت بين والديها كانت حبا وهميا، لهذا لم يصمدا معا أمام مسؤوليات الحياة الزوجية وانصرفا إلى عنف متبادل. ثالثا، أنها يمكنها الاعتماد على نفسها لتحقيق ذاتها والعبور إلى بر الأمان دون والديها، بتحمل العنف والإقدام عليه. نخلص إلى أن الطفلة هشومة نضجت قبل الوقت نظرا لتحملها مسؤوليات الراشدين، رغم أنها طفلة، وهذا ما جعلها تتعلم من الحياة ومن كل أصناف العنف الشيء الكثير. وبالمقابل لم تتعلم شيئاً داخل أسرتها. ولكي توقظ الضمير النائم لدى كل الآباء وتدفعهم إلى النظر في المرآة ليروا وجوههم البشعة التي رسمها أطفالهم ضحايا تربيتهم الشاذة وإهمالهم اللامسؤول قامت بكتابة مذكراتها التي تصدم كل من يهمل أبناءه و يتركهم يكبرون في غفلة منه. وبذلك يضعنا بوشعيب الساوري أمام حالة اجتماعية مستعصية يزيدها العنف شدة وقسوة. * تم إسقاط الهوامش للضرورة الصحفية