كثر الحديث في الأيام الأخيرة عن التزييف في شتى المجالات الإبداعية، ومن بينها الكتابة والفن، إما عن طريق النقل والنحل أو عن طريق التزوير والادعاء، حيث عرفت الساحة الثقافية والفنية المغربية عددا من خروقات الأمانة العلمية المتعلقة والمرتبطة بالضمير المهني، الذي كانت من بين أسباب تدهوره، عوامل كثيرة، من بينها ظهور ما يسمى بخدم المحترفات، الذين ساهموا بطريقة غير مباشرة في إنجاز أعمال بأسماء الآخرين، سواء تعلق الأمر بسيرة ذاتية أو بمذكرات شخصية أو بلوحات تشكيلية. في هذا الملف حاولنا أن نثير بعض الأسئلة في هذا المجال على لسان من وافق على الحديث ل"المساء" في هذا الموضوع الشائك، واستنادا كذلك إلى تصريحات في منابر إعلامية أخرى لنقاد ومهتمين تصب في نفس الاتجاه. أعد الملف - شفيق الزكاري في حديثه عما يسمى عبيد المبدعين أو les nègres، أكد الفنان عبد الله الحريري ل«المساء» بأن هناك من المبدعين من لا يملك عبدا واحدا، بل عبيدا، وقال إنه لا يفضل أن يسمي من يقوم بهذا العمل بهذه الصفة، بل بصفة أخرى ألطف، هي مساعد أو متمرن أو تلميذ. وهذه العملية، يضيف الحريري، موجودة ليس فقط في المغرب، بل في العالم وفي تاريخ الفن منذ زمن بعيد، مثلما يوجد عند الفنانين الكبار أمثال بول روبانس، ليوناردو دافينتشي، ومايكل أنجلو...، أي من يملكون مساعدين من التلاميذ. «في تلك الفترة، يقول الحريري، كان الفنان حرفيا ويساعده متمرنون من الصناع، وهذا موجود بكثرة في الحرف التقليدية، أي وجود المعلم في حضرة المتعلمين، الذين يصبحون بدورهم معلمين فيما بعد، وهذا التقليد عرفه المغرب منذ زمان طويل، فكثرة الفنانين الذين نجدهم في الأسواق، والذين لا يعرضون بكثرة، همهم الوحيد هو السوق، وغالبا ما يستشهد هؤلاء بفنان ما ويؤكدون بأنه هو من لقنهم الحرفة أو (الصنعة) كمصطلح جميل، واللوحة يصفونها بالسلعة، خاصة عندما يتكلمون عنها أثناء نقلها من مكان أو إلى آخر أو من مدينة إلى أخرى. وقد تجد نوعا آخر عند تشكيليين يعرضون أعمالا أنجزها المساعدون أو ما يسمى ب«المتعلمين». الحريري: لا يمكن ربط علاقة على الإطلاق بين المزيف faussaire والمتمرن أو المساعد le nègre وبغض النظر عن أن تكون هذه الظاهرة صحية أو غير ذلك، يبقى المشكل الحقيقي موجودا في السوق أو في عملية تسويق العمل، فالذي يضيع في هذه العملية هو ذلك الشخص الذي يعتقد نفسه فنانا، لأن حرفة الفنان هو تمرين يومي، وكل ما ابتعدت عن ممارسة الفن يتلاشى التحكم فيه، فأنا مثلا لا أرسم الآن كالسابق، لأنني أضعت تقنية قلم الرصاص، بسبب التخلي عن الممارسة اليومية، مثل ذلك الموسيقي الذي يعزف على آلة العود، فكلما عزف تطورت موهبته واكتشف وأضاف أشياء أخرى جديدة». وإشكالية التسويق، في نظر الحريري، تكمن في الغياب التدريجي لاسم الفنان، الذي يصبح في خانة من يبيع أعمالا مزيفة لا وجود للصدق فيها، والذي يعتبر أساس وجود هذه الأعمال، مضيفا أن ما ينطبق على التشكيل ينطبق على الكتابة كذلك، خاصة فيما يتعلق بكتابة الأحداث أو البيوغرافيا أو المذكرات الشخصية عند بعض المسؤولين الذين يقومون باستئجار بعض الكتاب أو المتمرنين (les nègres) كما يطلق عليهم، لكتابة ما يمكن إملاؤه عليهم من خلال التسجيل الصوتي، فيكتبون كتبا على لسانهم، لكن بجمل وصياغة الآخرين، أي المتمرسين في الكتابة، مع توقيع من كان يملي على الكاتب. ولهذا يقول الحريري «لا يمكن أن نسمي هؤلاء بفنانين أو كتاب، لأن الفنان هو المبدع الذي لا يشتغل بعقله وإحساسه فقط، بل بيديه كذلك، ويجب أن يكون مقتنعا بذلك، وهذا ما أدى إلى وجود عدد من اللوحات المزورة للأموات من الفنانين والأحياء، بما فيها لوحاتي». إذ يحكي بأن أحد الجماعين اشترى بعضا من أعماله، ثم زاره لكي يقوم بتوثيقها والمصادقة عليها دون أن يعلم بأنها مزيفة، لأنها تشبه بدقة عالية حد التطابق نوعية التقنية التي كان يستعملها الحريري شكلا ومضمونا. ويضيف الحريري قائلا: «لهذا ولكي لا نخلط بين المتمرن ومن يقوم بالتزييف لابد من الإشارة إلى ملاحظة هامة في الموضوع، وهي عندما ينتهي التلميذ أو المساعد أو المتمرن من العمل مع معلمه، غالبا ما يلجأ إلى الاشتغال بمفرده، فيقوم بإنجاز الأعمال التي كان ينجزها مع مشغله سابقا، وهي أعمال حقيقية وليست مزورة، بينما الاختلاف فيها ليس في التقنية، بل في توقيع صاحبها». وبالنسبة للأموات، يقول الحريري، إن أكثر الفنانين المغاربة عرضة للتزوير هم الغرباوي، القاسمي وصلادي. والسبب، من وجهة نظره، ليس هو المتمرن أو المساعد، بل هي السوق التي فرضت نوعا من المزيفين الذين يتقنون محاكاة أعمال الأموات، قبل أن يستنتج بأنه لا يمكن ربط علاقة على الإطلاق بين المزيف faussaire والمتمرن أو المساعد le nègre. غزلاني: كيف يستقيم تأثيث متحف وطني بأعمال خدم مأخوذة عن أسياد أما الكاتب والفنان المصطفى غزلاني فذهب إلى أن «من حمل إلينا أخبار الفنانين العالميين، وعما يجري في مختبراتهم، يكون خادم الورش أو المحترف (le nègre)، عاملا يؤدي عملا للكاتب/ للفنان السيد والمخدوم داخل إطار اختصاص وأسلوب هذا الأخير، وتبعا لأوامره، مقابل أجرة قارة أو ظرفية». وبالعودة إلى تاريخ الفن التشكيلي تحديدا، يضيف غزلاني، انطلق الحديث عن خدم المحترفات مع ملازمة التلاميذ الطويلة لمعلميهم وأساتذتهم، الذين غالبا ما يكونون فنانين على قدر من الحظوة والشهرة في عصرهم. فكان الفنان يوقع الأعمال إما باسمه خالصا أو مرفقا بعبارة: «....Atelier de». إذن وانطلاقا من هذا، ما الإيجابي في الحكاية وما السلبي فيها؟». بالنسبة للخادم، يقول غزلاني، فإنه عادة ما يكون معوزا، فالإيجابي عنده هو أنه يحقق من وراء ذلك شيئين اثنين: الأول هو الراتب الذي يسمح له بالعيش على الأقل في حدود الكرامة اللائقة. أما الثاني فهو ضمان الممارسة المستمرة لحرفة الرسم والصباغة أو غيرهما. أما السلبي فيبقى حبيس توجيهات السيد وأوامره، لا ينفك عنها، ومن هنا أتت عبارة «الخادم». أما بالنسبة للفنان السيد (le maitre)، فيقول الحريري إنه غالبا ما يخرج عن إيقاع زهدية الفنان إلى دوامة الربح بأكثر سرعة وأقل جهد، وما يترتب عن ذلك من سلبيات قد ترمي به خارج الفعل الفني. إنه وضع يشير بالضرورة إلى المانيفاكتيرا والرأسمالية. لكن، ما العيب في أن يربح الفنان المال وأن يكون له عمّالا؟ يتساءل غزلاني، قبل أن يجيب: «شخصيا لا يعتقد أن في الأمر عيبا، إذ لا يمكننا أن نمنع فنانا رائجا من مسايرة ثنائية العرض والطلب. وفي حدود علمي لم تحدث في تاريخ الفن، واقعة في هذا الباب، استدعت الاختلاف حولها أو التفكير فيها من قبل العناصر المكونة لعالم الفن. لكن، غياب أمور أخرى، موازية لعمل المحترف، هو ما يثير الحنق والغضب أحيانا في هذا الموضوع. أتوقف عند غياب النقاد الحقيقيين، غياب المتتبعين الفنيين(chroniqueurs) وغياب ثقافة فنية بصرية تشكيلية وسط المجتمع... الشيء الذي ييسر وضع الأمور في مسارات وقياسات سائبة، وبالتالي يختلط الحابل بالنابل». من هنا يعود غزلاني إلى العلاقة الثلاثية بين المحترَف كفضاء وزمان، الخادم كمنتج (producteur)، ثم السيد الفنان كسلطة عليا، ويضيف «لنقم بعميلة تفجير (éclatement) العناصر إلى أقصى حد، ليصبح المحترف بمساحة بلد، والفنان كزعيم فني والخادم يصير شبيها...وإذا استنزلنا محصلة الأمر على بلدنا سنستخلص ما يلي : أن عددا كبيرا ممن يعتبرون فنانين مغاربة، كبارهم في الحقيقة خدام متشبهون بزعماء تشكيليين أمثال: سولاج، روتكو، دو كونينك، بولطونسكي، فرانز كلاين، بول ياكوف، طابييس، باسكيا.. ناهيك عن كاندانسكي، شيريكو، فرانز مارك، دو بيفي، خوان ميرو، بول كلي، ماتيس... وآخرين حديثين أمثال سيلفي فلوري، فيم ديلفوا، جيل باربيي...». في هذا السياق يتساءل غزلاني: «كيف يمكن الحديث عن فن تشكيلي مغربي والمنتوج أغلبه من أيد خادمة، أي تابعة، تسير على خطى سيد فنان أجنبي عنها، قضى نحبه أو ينتظر؟. ومن هنا، ينبثق استفهام آخر: كيف يستقيم تأثيث متحف وطني، يراد منه التأريخ والترسيخ للذاكرة بأعمال خدم مأخوذة عن أسياد هم عالميون ولهم أوطانهم تؤرخ لهم وترسخهم؟ وفي الأخير، كيف يستقيم الكلام عن هوية وخصوصية الفن التشكيلي بالمغرب؟» وفي انتظار بلوغ النضج الفكري والفلسفي، وحصول الاقتناع الفني والشجاعة الأدبية عند المعنيين بالمجال التشكيلي؛ من الفنان إلى البنكي ومن الناقد إلى المصنف وإلى مؤسسات الدولة، يخلص الكاتب والفنان غزلاني إلى القول: «سنظل نرقب لحظة المكاشفة، من خلال ندوات وموائد مستديرة وطنية لمواجهة الذات بعيدا عن كل الحسابات غير الفنية». التزييف سرطان السوق الفنية المغربية لعبت المزادات العلنية دور الوسيط بين الفنان والمقتني عبر مسار تاريخي محدد، سواء كانت هذه المزادات لأهداف تجارية محضة، أو لأهداف إنسانية لفائدة الإصلاحات الاجتماعية والمساهمة في الأعمال الخيرية، لكن طبيعة وسياسة سير هذه المؤسسات الخاصة بالمزاد العلني بالمغرب جعلت فاعلين في حقل الفن التشكيلي المغربي، من خلال مصدر مجهول بالإنترنيت، يجمعون على أن «ظاهرة الأعمال الفنية المزيفة أصبحت تربك إيقاعات البيع في المزادات العلنية، وتمس في الصميم الملكية الفكرية والحقوق المجاورة للفنانين، وخاصة الراحلين منهم، وبالخصوص الجيلالي الغرباوي، عباس صلادي، محمد القاسمي، محمد الدريسي، ميلود لبيض، الشعيبية والعربي بلقاضي». وأكد جامع لوحات، لم يرد ذكر اسمه ل»العربية نت»، على أن «بروز مثل هذه الظواهر السلبية، التي رافقت انتعاش القطاع، قد يحد من هذه الانتعاشة في أي لحظة، وقد يحدث أزمة وتراجعا في سوق التشكيل، مشيرا إلى أن الأعمال التي تتعرض للتزييف هي التي تفوق قيمتها التجارية سقف 600 ألف درهم، وهو ما قد يقود نحو فقدان الثقة في أسواق المزادات للبيع العلني، خاصة تلك التي توجه إليها اتهامات بترويج الأعمال المزيفة». ويضيف المتحدث قائلا: «لقد كنت من عشاق اقتناء الأعمال الفنية لرواد التشكيل في المغرب ومؤسسيه، أمثال الغرباوي والشرقاوي والشعيبية، لكن بمجرد ما طالعتنا أخبار التزوير الذي أصبح ينخر جسد الإبداع في المغرب، تراجعت عن الاقتناء واقتصرت على شراء أعمال الفنانين الأحياء الذين ألزمهم بشهادة الأصالة، فلا يمكن حاليا المخاطرة باقتناء أعمال الراحلين التي أصبحت عرضة للسرقة الموصوفة ولكل أشكال الانتحال، التي تضر بالفنان ومقتني اللوحة». أما فريد الزاهي فيحمل جانبا من المسؤولية فيما آل إليه سوق اللوحة بالمغرب إلى الفنانين أنفسهم، إذ يقول في تصريح له نشر بالصفحة الإلكترونية (هبة بريس)، من خلال مؤلف له بعنوان (d'un regard, l'autre) أو (تناسل النظرات(: «هناك سوق سري للغاية، الفنانون التشكيليون هم محرضوه، اسألوا العديد من الفنانين كيف يبيعون أعمالهم: عموما خارج المعارض والأروقة، بدون عقد وأحيانا بدون الاحتفاظ بنسخة من اللوحة المباعة وبدون تسجيل قائمة مقتني أعماله الفنية، فنانون كصلادي باع أعماله لأي عابر سبيل بأثمنة بخسة، سوق سوداء بكل الألوان». ونتيجة كل هذه المعطيات فإن فريد الزاهي يعتبر هذه الممارسات تساهم في تشجيع هذا الخليط الذي يفسح المجال للأعمال المزيفة. ويضيف الباحث والمتتبع للشأن الثقافي والفني بالمغرب، محمد ربيعة، في تصريحاته لبعض المنابر الإعلامية : «لقد أصبحت قضية العرض والمعارض تحت سيطرة مجموعة من المؤسسات التي تريد أن تلعب دور الموجه والمؤطر لأي تجربة تشكيلية، وما زاد الطين بلة هو أنها أصبحت تنتج خطاباتها عبر وسائل إعلام جيدة، الطباعة أنيقة المنظر حيث تقرر في القيمة المادية للأعمال الفنية، وصارت تضع أثمنة لكل تجربة فنية، بحيث حولت الفنانين إلى ماركات تحمل رقما تقديريا، وتأتي عملية التكميم النقدي هذه تأسيسا على مدى انضباط الفنان التشكيلي لقيم هذه البورصات الفنية التي يكون الفنان متعاقدا معها، بحيث يصير ليس مبدعا تشكيليا، ولكن صانعا ينتج أعمالا بشكل متواصل إما واحدا أو أكثر بصفة شهرية. كما يمنع عليه إقامة المعارض خارج سلطة المؤسسة المتعاقدة معه، سواء كانت مؤسسة معنوية أو شخصا طبيعيا. وهذا أدى إلى أن فنانين تحسنت أوضاعهم المادية، لكن أصيبوا بالفقر في قدرتهم التخييلية والإبداعية، وهو ما أسميناه في عدة مناسبات بظاهرة مصاصي دماء الفنانين المغاربة، وهؤلاء المصاصون يتسللون إلى أعناق الفنانين بطريقة مليئة بالعشق والمحبة حتى إذا ما غرسوا أنيابهم قاموا بامتصاصه عن طريق مغريات مادية، ثم يفرضون عليهم أثمانا جد بخسة لإنتاجات أولئك الفنانين بينما هم يشاركون بتلك الأعمال في معارض عابرة للقارات، ومن حيث هذه التعاقدات فالفنان يجد نفسه ملزما بأن ينتج وضمن الشروط التي يفرضها الممون/ المصاص لدمائه ودون مراعاة لفترات ازدهار النشاط الإبداعي أو تقلصه، لأنه تحول إلى منتج تحت الطلب، كما يفرض عليه هؤلاء المصاصون البقاء ضمن نسق تصويري واحد، وهو ما يسمونه بالبصمة التي صار يتميز به كفنان، مع التركيز على كل الوسائل الإشهارية عبر اقتناء صفحات بالصحف وبرامج تلفزية والتواصل بإصدار كاتالوغات فاخرة وإدراج أعمال الفنانين التابعين في معارض من تنظيم المؤسسات البنكية التي تحاول اختراع الأعمال كقيمة رقمية للأموال ،بحيث تصير اللوحة مثلها مثل الذهب، وهكذا صارت تلك المؤسسات البنكية باعتبارها منتجة لسلعة النقود تدخل الميدان الفني عبر أولئك المصاصين لتبرير مقتنياتها من الأعمال جبائيا، وهكذا انتشرت قاعات العرض الخاصة عبر المدن الكبرى وبعض المراكز التي أقام بها بعض مقتنو الأعمال الفنية». كل هذه الشهادات كفيلة بالإجابة عن هذا الوضع المؤسف لما صارت عليه السوق الفنية بصفة عامة، وتؤكد على ضرورة إعادة هيكلة هذا القطاع بتشريعات قانونية صارمة، باعتبار هذا القطاع موروثا فنيا ثقافيا وذاكرة جماعية يستوجب الحفاظ عليها من كل هذه الشوائب التي تتداخل فيما بينها، سواء تعلق الأمر بالتزييف أو بمظاهره المرتبطة ببعض الهفوات التي يرتكبها خدم المحترفات les nègres.