رغم ما جاء به دستور 1992 من مقتضيات عضدت من الرقابة البرلمانية على الحكومة، فقد بقي الغموض والارتباك يكتنف النص الدستوري رغم تعديله سنة 1996، والذي لم يضف أي جديد في هذا الموضوع، وهو ما جاء الفصل 88 من دستور 2011 لتفاديه، حيث أصبح ينص على أنه "بعد تعيين الملك لأعضاء الحكومة، يتقدم رئيس الحكومة أمام مجلسي البرلمان مجتمعين، ويعرض البرنامج الذي يعتزم تطبيقه. ويجب أن يتضمن هذا البرنامج الخطوط الرئيسية للعمل الذي تنوي الحكومة القيام به، في مختلف مجالات النشاط الوطني، وبالأخص في ميادين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية والخارجية. يكون البرنامج، المشار إليه أعلاه، موضوع مناقشة أمام كلا المجلسين، يعقبها تصويت في مجلس النواب. تعتبر الحكومة منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب، المعبر عنها بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم، لصالح البرنامج الحكومي". ونلاحظ هنا أن الفقرة الأخيرة من الفصل 88 من دستور 2011 قد حسمت في مسألة مهمة، وهي أن مجلس النواب يقوم من خلال التصويت على البرنامج الحكومي بتنصيب الحكومة، وليس بسحب الثقة من حكومة قائمة، كما كان يعتقد في الدساتير السابقة التي كانت تتسم بالغموض والتردد والإحالة المعقدة على الفصل 75 من دستور 1996، والفصل 74 من دستور 1992، وبالتالي لا مجال في دستور 2011 للحديث عن شروع الحكومة في أداء مهامها قبل حصولها على ثقة البرلمان، فهي قبل حصول هذا الأمر تكون في حكم العدم. وقد أوضح النص الدستوري الجديد، كذلك، مسألة إجرائية مهمة تتعلق بطريقة تقديم البرنامج الحكومي أمام مجلسي البرلمان، حيث أصبح الأمر يقتضي جمعهما في جلسة واحدة للإنصات للبرنامج الحكومي بعد أن كان هذا الأمر مسكوتا عنه في دستور 1996. لكن رغم كل هذه المستجدات الدستورية، لا بد أن نشير في هذا الشأن إلى أن ما قامت به أول حكومة تمت موافقة الملك عليها في ظل الدستور الجديد، بتاريخ 03 يناير 2012، يعتبر مجانبا للصواب، حيث سارع أعضاؤها إلى تسلم مهامهم وتبادل السلط مع الوزراء السابقين، حتى إن بعضهم تسلم مهامه عشية يوم الاستقبال الملكي للتشكيلة الحكومية الجديدة، وهو ما يمكن وصفه بكونه إخلالا واضحا بالمقتضيات الدستورية، ويطرح من جديد إشكالية التطبيق السليم للمقتضيات الدستورية؛ وأما عقد السيد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران لأول مجلس حكومي رسمي يوم الخميس 05 يناير 2012 فقد كان مخالفا لما تنص عليه المقتضيات الدستورية، حيث كان يستحسن أن يكون ذلك اللقاء تشاوريا بين أعضاء الحكومة أو تحت أي تسمية أخرى، كاللقاء الحكومي مثلا، لأن الحكومة لم تكن قد نصبت بعد من لدن مجلس النواب، وبالتالي فإنها لم تكن قد حصلت على شهادة ميلادها رغم أن ولادتها هي أمر واقعي. وقد كان الحل لهذه الإشكالية هو تسريع وتيرة عرض البرنامج الحكومي على مجلسي البرلمان، لأن الملك عندما يقوم بتعيين الحكومة فهو فقط يعبر عن قبوله لتشكيلتها وارتضائه لها، لتسارع بعد ذلك إلى مجلس النواب الذي سيبين مدى تحقق الأغلبية التي ستساندها، وذلك بالتصويت على قبول برنامجها، وبالتالي تنصيبها بشكل نهائي. وهي الأغلبية التي يتوجب على رئيس الحكومة الحفاظ عليها طيلة ولاية حكومته باعتبارها الضامن الأساسي لاستمرارها دستوريا، لأن غاية المشرع الدستوري من تعديل المقتضيات الدستورية المتعلقة بتنصيب الحكومة هو القطع مع ما كان سائدا من لبس في ظل الدساتير السابقة، بمنح البرلمان حق تنصيب الحكومه بشكل فعلي، قوي وواضح. ورغم كل ما سلف ذكره، لا بد من الإشارة إلى أن النص الدستوري الحالي لا يزال في حاجة إلى مزيد من الضبط والتدقيق، فرغم المجهود الذي بذله المشرع الدستوري لضبط المقتضيات المتعلقة بمسألة تنصيب الحكومة في المغرب، فإنه لم يوفق إلى حد بعيد في ضبط المفردات الدستورية التي من شأنها أن تحسم كل النقاشات الفقهية التي قد تثار حول هذا الموضوع، والتي أسالت مداد العديد من الباحثين في مجال القانون الدستوري وعلم السياسة؛ كما أن الفصل 88 من دستور 2011 لم يقم ببعض الإضافات الجوهرية التي كانت ستيسر تطبيق المقتضيات الدستورية وتنفض عنها غبار اللبس والغموض، ولتوضيح ذلك نورد الملاحظات التالية: 1 - من حيث المفردات التي تم استعمالها في الفصل 88، من دستور 2011، خاصة في ما يتعلق بمصطلح "تعيين" الذي استهل به هذا الفصل من خلال عبارة: "بعد تعيين الملك لأعضاء الحكومة''، نلاحظ أن هذا المصطلح يتحدث عن تعيين الحكومة بمعنى تنصيبها النهائي من طرف الملك، في حين أن المفردة الأنسب لهذا المقام كان يجب أن تكون هي: "موافقة"، ليصبح مدخل هذا الفصل: "بعد موافقة الملك على أعضاء الحكومة..."، لأن رئيس الحكومة عندما يعرض التشكيلة الحكومية على الملك، فإنه ينتظر موافقته عليها، للتوجه إلى البرلمان بعد ذلك في سعي إلى تنصيب حكومته، لتباشر المهام التي أناطها بها الدستور، وإلا فما فائدة تعديل مقتضيات الفصل 60 من دستور 1996 إذا بقي دور البرلمان محصورا في مجرد مباركة التعيين الملكي للحكومة؟ فرغم أن الأمر مرتبط أكثر بمسألة الأغلبية الحكومية، فإن المناقشة البرلمانية للبرنامج الحكومي من شأنها أن تثير انتباه الحكومة إلى العديد من النقائص التي يمكن أن تعتري ذلك البرنامج؛ كما أنه لا بد من ترسيخ دور البرلمان في تنصيب الحكومة، وخاصة مجلس النواب، وذلك من خلال التنزيل السليم للمقتضيات الدستورية، لأن مجلس المستشارين -كما نعلم- لا يصوت على البرنامج الحكومي، بل ينحصر دوره في مجرد المناقشة التي لا يعقبها تصويت، وهو بالتالي لا يساهم، إن من قريب أو بعيد، في تنصيب الحكومة، كما أنه لا يملك الحق في إسقاطها. 2 - الإضافة التي جاء بها الفصل 88 من الدستور الجديد، والتي لم تكن في محلها، هي أن رئيس الحكومة يتقدم بالبرنامج الذي يعتزم تطبيقه، ويعرضه على مجلسي البرلمان مجتمعين، أي أنه يلقي برنامج حكومته على أنظار النواب والمستشارين في جلسة واحدة، وهو أمر فيه بعض الصعوبة في مجال التطبيق، على اعتبار أن مجلسي البرلمان سيناقشان معا البرنامج الحكومي، لكن التصويت عليه يبقى حكرا على مجلس النواب، مما يعني ضرورة انسحاب المستشارين أثناء عملية التصويت، أو الإنصات للبرنامج الحكومي في جلسة واحدة ومناقشته في كل مجلس على حدة، وهو ما يطرح سؤالا عريضا حول جدوى مناقشة مجلس المستشارين للبرنامج الحكومي إذا لم يكن سيعقب تلك المناقشة تصويت عليه؟ عبد النبي كياس *باحث في علم السياسة والقانون الدستوري