يشكل إعداد ومناقشة مشروع قانون المالية السنوي لحظة تاريخية وسياسية وقانونية تُوضع على المحك خلالها فعالية مجموعة من المؤسسات الدستورية، حيث تُختبر أثناءها قدرة الحكومة على الصياغة التشريعية لوثيقة مالية وتقنية تسمح بترجمة برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويقاس فيها الدور الرقابي للبرلمان على عمل الحكومة، كما تبرز فيها موازين القوى المجتمعية بالنظر إلى أن هذا القانون يعكس الصراعات الدائرة بين الطبقات الاجتماعية لحظة إعداده ومناقشته والتصويت عليه. والواقع أن مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2014 يجري في سياق داخلي وخارجي يدعو إلى تسجيل مجموعة من الملاحظات التي لا بد من إثارتها من الناحية القانونية ومحاولة إبراز تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية على الفعل السياسي في الوقت الراهن، فما هي خصوصيات مناقشة مشروع القانون المالي السنوي 2014؟ إن استعراض أهم هذه الخصوصيات التي ميزت مشروع هذا القانون سيتم من خلال إبراز العناصر التالية: 1 - لقد تم احترام الآجال القانونية لإعداد وعرض المشروع المذكور على البرلمان وفقا للمقتضيات الواردة في الفصل 75 من الوثيقة الدستورية الحالية، وكذا مقتضيات القانون التنظيمي للمالية، علما بأن الجهد المبذول في هذا الإطار قد تم استثماره ضمن ما اصطلح على تسميته من لدن بعض المهتمين السياسيين ب"الوقت الميت" نتيجة للأزمة التي خلفها خروج أحد مكونات التشكيلة الحكومية السابقة وارتضائه التحول إلى فيلق المعارضة. وعلى فرض أن هذا الإنجاز التشريعي منسوب إلى الإدارة المالية مجسدة في وزارة الاقتصاد والمالية، فإن الإدارة مادامت موضوعة رهن تصرف الحكومة، فهذا العمل يسجل أيضا للنسخة الثانية لحكومة عبد الإله بنكيران، ولاسيما أن الرسالة التأطيرية لرئيس الحكومة قد وجهت في الزمن القانوني المطلوب لإجراء المشاورات مع جل القطاعات الوزارية ضمن مقاربة تشاركية لإعداد الميزانيات الفرعية لهذه القطاعات دون أن تؤثر فيها الأزمة السياسية المذكورة والتي أدخلت المغرب حالة من الانتظارية غير المسبوقة في تدبير الزمن السياسي للفعل الحكومي. 2 - ارتبط إعداد مشروع قانون المالية لسنة 2014 بسياق خارجي صعب، حيث استمرار الركود الاقتصادي العالمي وبلوغ أسعار المواد الأولية مستويات قياسية، ونقص الطلب الداخلي لدول الاتحاد الأوربي الشريك التجاري الأول للمغرب، بالإضافة إلى استمرار الانعكاسات المترتبة عن الأزمة المالية العالمية في عدد من الدول، حيث نلمس ضعف الناتج الداخلي العالمي ب3,2 في المائة ومعدلا للنمو بالنسبة إلى دول النامية لا يتجاوز 5,9 في المائة، وضعف حجم التجارة الدولية حسب تقارير منظمة التجارة العالمية، وارتفاع نسبة المديونية لتتجاوز الحدود المعقولة في منطقة الأورو ب65 في المائة من الناتج الداخلي الخام واستمرار ارتفاع نسب العجز الميزاني، وهو ما يقلص الحظوظ المرتبطة بتزايد فرص الاستثمار الأجنبي بالمغرب وتحول أثر التجارة الخارجية لفائدة الدول الأكثر تنافسية وجاذبية، وذلك بالرغم من تعزيز انفتاح المغرب التجاري مع الاتحاد الأوربي بفضل الوضع المتقدم. 3 - أن صياغة فرضيات مشروع هذا القانون، الذي يعتبر الأداة الأساسية لترجمة البرنامج الحكومي طيلة سنة كاملة، جاء بشكل يستجيب لواقعية المعطيات الاقتصادية الدولية والوطنية ويسعى إلى تجاوز العجز التوأم بكل من الميزانية العامة والميزان التجاري، ضمن منظور يروم تحقيق التوازانات المالية والتجارية المفقودة؛ ويتغيا، من جهة أخرى، رفع إكراهات الظرفية المالية المطبوعة بشح الموارد المالية نتيجة لانخفاض العائدات الضريبية، وتصاعد عتبة المطالب الاجتماعية، وكذا تزايد نسبة نفقات التسيير على الرغم من تراجع التكاليف الخاصة بالدعم مرفوقا بارتفاع حجم الكتلة الأجرية، وذلك من خلال تدابير ضريبية جديدة ركزت على إصلاح الضريبة على القيمة المضافة والابتعاد عن الإجراءات الضريبية الموازية، واعتماد منهجية تدرجية في رفع الإعفاء الضريبي عن القطاع الفلاحي أخذا بعين الاعتبار توصيات المناظرة الوطنية الأخيرة للجبايات، وكذا توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في ما يخص تبسيط الضريبة على القيمة المضافة. 4 - أن مناقشة مشروع الوثيقة المالية برسم السنة المقبلة تمت وفقا لمقتضيات قانونية تعكس وتيرتين مختلفتين من التطور المعياري: فمن جهة، نجد الدستور الجديد الذي كرس مسؤولية كل من البرلمان والحكومة عن التوازنات المالية؛ ومن جهة أخرى، نعيش في ظل دستور مالي لا يساير إيقاع التطور الدستوري المحقق، حيث يعود بنا القانون التنظيمي للمالية ساري النفاذ إلى منطق دستوري وسياسي متقادم، فلا شيء يبرر غياب هذا القانون التنظيمي عن مناقشة ثلاثة قوانين للمالية إلى حدود الساعة، وهو الذي انتهى تهييئه ويفترض أن يحسن إقراره مقروئية الميزانية العامة للدولة ويضفي مسحة خاصة على المقتضى الدستوري الرامي إلى تقييم السياسات العمومية، مما يجعله بحق مدخلا رئيسيا من مداخل إصلاح الدولة وتعزيز الحكامة الميزانياتية والشفافية في تدبير المالية العمومية من خلال البرمجة متعددة السنوات الرامية إلى اعتماد مقاربة جديدة في تدبير الميزانية ترتكز على النتائج بدل قيامها على تدبير الوسائل، وذلك بعدما بذلت مجهودات مهمة في ما يخص تبسيط المراقبة القبلية على تنفيذ الميزانية واعتماد المراقبة التراتبية على النفقات. 5 - تكاد تتفق الدراسات والتقارير المختلفة حول تشخيص الوضعية الاقتصادية والمالية بالمغرب على تأكيد وجود تمظهرين حقيقيين للأزمة الاقتصادية والمالية في المشهد الاقتصادي الوطني مناطهما العجزان البنيويان في الميزان التجاري وفي الرصيد العام لميزانية الدولة. وعلى فرض جدلية العلاقة بين أسباب هذين العجزين وانعكاساتهما المختلفة، فإن تعدد الأسباب في هذا الشأن لا يغني عن كون النتيجة واحدة، وهي تتطلب بدون شك جرأة سياسية وشجاعة تدبيرية في تقديم الحلول المناسبة للخروج من تداعيات الأزمة الأكيدة. هذا الوضع الذي آلت إليه الحالة الاقتصادية والمالية للبلد ليس وليد اليوم بل هو نتاج تراكمات في التسيير بدت معالمه منذ تقرير البنك الدولي سنة 1995، ولم تأبه الطبقة السياسية آنذاك للبحث عن الحلول الممكنة لتجاوز "السكتة القلبية"، وإنما اكتفت بتفسير التشخيصات الممكنة وكأننا أمام تقليعة من التقليعات السياسية التي سيخفت الحديث عنها بمجرد جفاف مداد الصحافة أو نضوب إثارة الموضوع من لدن وسائل الإعلام؛ فمما لا شك فيه أن تفعيل الإصلاح الحقيقي كان ينبغي أن يباشر منذ الوهلة الأولى لتلقي مثل هذه المعطيات والمؤشرات الصادمة، من خلال إجراءات جريئة كإصلاح صندوق المقاصة الذي يشكل بيت الداء الاقتصادي والمالي للمغرب، وكان الأولى أن تعكف الحكومات السابقة على إيجاد البدائل الممكنة للرفع من تنافسية الاقتصاد الوطني والبحث عن نموذج جديد للتنمية المستدامة يروم القطع مع الاقتصاد الريعي ويسعى إلى البحث عن بدائل جديدة للإنتاج، ولاسيما أن العنصر البشري المؤهل في المغرب يشكل الحلقة القوية ضمن الثروة الوطنية؛ فهل جزاء الإصلاح الذي شرعت الحكومة الحالية في مباشرته من خلال مجموعة من التدابير الضريبية، كالشروع في التضريب الفلاحي المتدرج والتسريع بإصلاح منظومة الضريبة على القيمة المضافة وإصلاح مأذونيات خدمات النقل العمومي الجماعي وإحداث منحة لتأهيل مقاولات خدمات هذا النقل، أن يلاقي كل المعارضة التي يشهدها اليوم؟ 6 - إذا كانت الغرفة الأولى قد عكست تفاعلا ناضجا مع مضامين المشروع ليس من خلال ضمان أغلبية أعضائها المريحة التصويت الإيجابي لصالحه فحسب، وإنما أيضا من خلال نضج المناقشات سواء على مستوى اللجنة المختصة أو ضمن الجلسة العامة والتي وإن كانت لا تنفذ إلى عمق الجوانب المالية والمحاسباتية الدقيقة للمشروع، فإنها أبرزت تجانسا في المواقف السياسية المعبر عنها من لدن فرق الأغلبية والمعارضة في صياغة التعديلات والتصويت عليها. في حين كشفت مكونات الغرفة الثانية عن محدودية في التعاطي مع هذه الوثيقة الحاسمة في تدبير تفاصيل الحياة العامة للدولة، فما فائدة صياغة عدد لا يستهان به من التعديلات لإدراجها في هذا المشروع إذا كان التصويت الرافض للمشروع جملة وتفصيلا هو المآل المحتوم من لدن المعارضة؟ ثم ما هو المكسب السياسي الذي يرجى بلوغه من التصويت الإيجابي على الجزء المتعلق بنفقات التسيير إذا كانت أغلبية المجلس قد جعلت الرفض هو القرار المتخذ في حق الجزء الخاص بالموارد؟ أليس ضربا من ضروب العبث القانوني أن يتم إسقاط مشروع الميزانية من لدن الغرفة الثانية ومكوناتها تعلم علم اليقين بأن هذا النسف معطى سياسي لا طائل منه لأن الكلمة الفصل في إقرار هذا المشروع تبقى من اختصاص مجلس النواب؟ عادل الخصاصي *أستاذ باحث في القانون العام