إن الطريق الأوحد لإعادة الأمور إلى نصابها هو إصلاح دستوري وانتخابي ارتفعت في الآونة الأخيرة حدة الصراع بين مكونات الأغلبية الحكومية، ولم يعد التلاسن والخلاف بينها حبيس المجالس الحكومية والاجتماعات الحزبية، بل تجاوزه إلى صفحات الجرائد والمنتديات العمومية ليعاد طرح السؤال من جديد: ماذا يجمع بين هذه الأغلبية؟ فالصراع على أشده بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي بعد تصريحات عباس الفاسي ورد المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، والخلاف بين قطبي الأغلبية يتسع يوما بعد آخر ليطول قضايا رئيسة في التدبير الحكومي من قبيل المطالبة بإصلاحات دستورية وسياسية والاقتطاع من الرواتب بعد الإضراب. والعلاقة بين «الأصالة والمعاصرة» و«الاتحاد الاشتراكي» بلغت حد عدم توجيه الدعوة إلى هذا الأخير بمناسبة المؤتمر التأسيسي للأصالة والمعاصرة، في سابقة من نوعها، رغم أنه حليفه في الحكومة، وهذا تحصيل حاصل لحملة قادها الاتحاديون ضد من أسموه «الوافد الجديد»، ونعتوه بمختلف النعوت. ولقاءات الكتلة الديمقراطية، وهي النواة الصلبة لهذه الأغلبية، مجمدة بسبب اختلاف في التقدير حول موضوع الإصلاحات الدستورية والسياسية، لأن الاتحاد الاشتراكي يرى أن الاشتغال على هذا الموضوع يجب أن يتم بالتوازي مع التحضير للانتخابات الجماعية المقبلة ويفضل أن يتم الأمر بتنسيق بين أحزاب الكتلة جميعها؛ بينما يرى حزب الاستقلال أنه لا يمكن الاشتغال في وقت واحد على قضيتين رئيستين مضيفا أن للاتحاد الاشتراكي ظروفه الذاتية وصراعاته الداخلية التي لا يجب أن يصدرها إلى الكتلة الديمقراطية. وقبل هذا وذاك، نتذكر مناسبات عدة طفت فيها على السطح خلافات بين مختلف مكونات هذه الأغلبية، سواء أثناء مفاوضات تشكيل الحكومة حين طالب الاتحاد بالتعامل معه على أساس وزنه السياسي وليس حصيلته الانتخابية، أو أثناء مناقشة قانون المالية لسنة 2008، حيث كان الاتحاديون قاب قوسين أو أدنى من عدم التصويت لصالحها، أو أثناء إضراب 13 ماي، أو أثناء انتخابات رئيس مجلس المستشارين، أو حين احتج اليازغي على توظيف الفصل 19 من الدستور عند مناقشة القانون الأساسي لرجال السلطة. وهي كلها محطات عصفت بالتضامن المطلوب داخل أضعف حكومة عرفها المغرب. وللإشارة، فهذه السلوكات صارت مألوفة منذ 1997، حيث كان الاستقلاليون سباقين إلى هذه الخرجات المشاكسة، وكلنا يتذكر رسالة عباس الفاسي إلى عبد الرحمن اليوسفي الذي كان وزيرا أول حينها، كما نتذكر تصريحات قيادات استقلالية ضد أداء الحكومة التي كان يقودها الاتحاديون. مبدئيا، وبحكم نتائج الانتخابات، ولأن الحكومة التي أفرزتها انتخابات 7 شتنبر 2007 تتألف من أكثر من فريق حزبي، فإنه ينتظر أن تبرز بين الحين والآخر خلافات، ولكنها لا تعدو أن تكون طفيفة ترتبط بتفاصيل وجزئيات لأن الائتلاف الحكومي يكون على أساس برنامج عمل تتوافق عليه مكونات الأغلبية؛ وإثارة هذه الخلافات الجزئية في وسائل الإعلام ينتج غالبا عن تسريبات وليس تصريحات، وتكون صادرة غالبا عن قيادات من الصف الثاني أو الثالث لأن الجميع يلتزم بالبرنامج المصادق عليه. لكن الوضع في حكومة عباس الفاسي يختلف، فمكوناتها شركاء متشاكسون تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وخلافاتها أصبحت تتقدم الصفحات الأولى للجرائد وتحتل الصدارة في المنتديات العامة والخاصة، ومجالات الخلاف بينها صارت تعرقل الأداء المطلوب من حكومة تقدم نفسها على أنها صانعة السياسة العمومية ومنفذتها؛ وهذه نتيجة طبيعية وأسبابها متعددة، لا يمكن تصور أداء حكومي في المستوى دون تجاوزها. إن المشكل يكمن بالأساس في أن أغلبية حكومة الفاسي غير متجانسة، حيث تضم خليطا متناقضا فيه اليساري واليميني والوسطي، والاشتراكي والليبرالي والشيوعي، والمحافظ والحداثي، والثوري والإداري، والسياسي والتقني حتى فقدت هذه العناوين والتصنيفات ملامحها وطعمها، وجعل اتفاق مكوناتها على قواسم مشتركة أو برنامج جامع، والعمل على تنزيله مستحيلا إلا إن فقدت هويتها وتخلت عن مبادئها وتحكمت فيها لغة المصالح -بالمعنى القدحي للكلمة- التي تجعلها تضحي بكل شيء من أجل امتيازات الوجود في الحكومة. وهي امتيازات فانية لا تساوي أمام الامتحان الشعبي شيئا، أما عند يوم الحساب فحدث ولا حرج. وهي أغلبية مفبركة بدون إرادة مكوناتها، وكلنا يتذكر ملابسات تدخل بعض مستشاري الملك على الخط حين عجز عباس الفاسي عن جمع النصاب القانوني، كما نتذكر كيف أبعدت الحركة الشعبية وحل محلها فريق الهمة لاعتبارات لا تخفى على أحد. والأكيد أن عباس الفاسي كان يستحضرها، ولكنه مضطر، بسبب حرصه على مقعد الوزارة الأولى مهما كلف ذلك من ثمن. وهي أغلبية ضعيفة لأنها ولدت من رحم انتخابات عرفت أكبر عزوف شعبي حيث لم يشارك فيها إلا %20 من المواطنين، ولذلك فهي تفتقد سنداً شعبياً يمكن أن تتقوى من خلاله في مواجهة سلط أخرى. وهي أغلبية لا تملك من السلطة إلا الاسم لأن الأساس الدستوري الذي تقوم عليه يفقدها كل الصلاحيات ويجعل من وزرائها مجرد موظفين وأجراء بعيدين عن تنفيذ سياسة عامة للبلاد فبالأحرى صناعتها، والجميع يعلم أن هناك وزراء سيادة ومستشاري الملك والموظفين السامين ومديري المؤسسات العمومية الذين يتولون تنفيذ وصنع هذه السياسة. وهي أغلبية مشكلة بطريقة تستجيب لرغبات مكوناتها وليس لحاجيات التدبير ومصالح الشعب، لأن الحرص على بلوغ النصاب العددي تطلب مجموعة من التحالفات والترضيات والتطمينات، مما ولد حكومة متضخمة لا تساهم إلا في زيادة التكاليف وتداخل الاختصاصات؛ ولو أن مكوناتها حرصت على المصلحة العامة لاكتفت بعدد أقل من الوزراء توخيا للفعالية وترشيدا للنفقات لأن ما تستهلكه أجور هذه الأغلبية وامتيازاتها يثقل كاهل الميزانية أضعاف ما تثقلها أجور الموظفين البسطاء. إن أغلبية تشكلت بهذه الطريقة، وفي ظل هذه الظروف، واستجابة لضغط، وتلبية لرغبة، لن تقود إلا إلى هذه النتائج الكارثية التي يستفيد منها من يتحكم في اللعبة من وراء الستار، علاوة على أنها تساهم في فقدان الثقة في كل ما له علاقة بالشأن العام بما يستتبعه من عزوف شعبي ولامبالاة تفضيان إلى فراغ سياسي صرنا جميعا نؤدي فاتورته، وخاصة في ظل ضعف المعارضة اليقظة والمراقبة، ولا أريد أن أدخل في تفاصيل عن سبب ذلك مخافة الإطالة. إن الطريق الأوحد لإعادة الأمور إلى نصابها هو إصلاح دستوري وانتخابي. إصلاح انتخابي يعمل بنظام اقتراع أحادي اسمي في دورتين؛ فهذا النمط من شأنه أن يجعل التحالفات تبنى على أساس برامج قبل الانتخابات، ومن شأنه أن يفرز خريطة سياسية منسجمة، ومن شأنه أن يخرج الأغلبية الحكومية من صناديق الاقتراع وليس من كواليس المفاوضات. وإصلاح دستوري يعيد النظر في صلاحيات الحكومة في اتجاه توسيعها لتصبح وحدها مسؤولة عن تدبير المرحلة وتدفع الحساب عند حلول انتخابات منتظمة ونزيهة ومفتوحة على كل الأطراف والاحتمالات. حينها فقط نتحدث عن أغلبية بما تحمله الكلمة من معنى، وإلا فإنه العبث السياسي.