في إحدى ليالي ماي، 1844 قتل قنصل إسباني في منطقة الشمال على يد ثوار من الريف المغربي، فلاحت بوادر حرب جاهدت بريطانيا لإبعادها عبر العديد من الجلسات التفاوضية، لكن قدر الحرب كان محتوما، عندما سيأتي التصعيد مرة أخرى من المغرب وبشكل رسمي أيضا، حيث ستحجز سلطات الإيالة الشريفة باخرة شحن إسبانية. بعد أن وضعت حرب تطوان أوزارها ممتدة بين سنتي 1959 و 1960، قبل المغرب أداء غرامة 100 مليون بسيطة لإسبانيا، وسمح لهذه الأخيرة بتوسيع حدود نفوذها بسبتة ومنحها حق الصيد بالجنوب المغربي (سيدي إفني)، إضافة إلى التمتع بالامتيازات نفسها التي منحت لبريطانيا سنة 1856، وذلك طبقا للإجراءات الأولية لاتفاقيات وقف إطلاق النار، الموقعة بين كل من القوات الإسبانية والمغربية يوم 25 مارس 1860، ومعاهدة الصلح التي أعقبتها يوم 26 أبريل 1860. وقد اعترضت السلطان صعوبات حادة أثناء أداء الشطر الأول من الغرامة البالغ قدره 25 مليون بسيطة. ولأداء الشطر الثاني، كان عليه إحداث جبايات جديدة، بجانب اللجوء إلى اقتراض مبلغ 10 ملايين بسيطة من إنجلترا. وقبل الإسبان الجلاء عن تطوان بموجب الاتفاق الذي عقد في أكتوبر سنة 1861. شرع الإسبان في الجلاء عن تطوان بموجب الاتفاق السالف الذكر، وذلك بعد أداء تعويضات الحرب التي نصت عليها المعاهدة، كما سمح لإسبانيا بانتداب موظفين في بعض الموانئ المغربية، لاقتطاع نسب معينة من العائدات الجمركية لفائدة حكومتهم. وهكذا وصل المبلغ المالي الذي التزم المغرب بأدائه إلى 120 مليون بسيطة. وقد تم أداؤه بالعملة المعدنية الخالصة من قطع الذهب والفضة. وأحدثت هذه الغرامة استنزافا قويا لم يخلف فقط خرابا للدولة، وإنما أحدث نزيفا دائما أضر بالاقتصاد المغربي، الذي كان يومها اقتصادا ما قبل رأسمالي سمته ضعف الناتج الإجمالي الخام. وقد كتب أحمد بن خالد الناصري (ت. 1897) عن الحرب الإسبانية المغربية التي وقعت ما بين1859 1860 قائلا: «ووقعة تطوان هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب واستطال النصارى بها وانكسر المسلمون انكسارا لم يعهد لهم مثله وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضرر كبير». وانضافت «حرب تطوان»، التي أضفى عليها الإسبان بسرعة طابع الحرب القارية La guerra de Africa ، للفجوة المفتوحة في المغرب سنة 1844 1845 إضافة إلى الالتزامات المفروضة على المغرب سنة 1856، لتشكل المنعطف الأكثر تأثيرا في تاريخ المغرب خلال القرن التاسع عشر. ويعتبر الباحث محمد سلمات أن معاهدة الصلح التي تلت حرب تطوان كانت بداية الغزو الاقتصادي للمغرب، إذ نتج عن الحرب إرهاق ميزانية المغرب بسبب الاقتراض من إنجلترا والتنازل عن50في المائة من ميزانية المغرب لإسبانيا، وأثر ذلك على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. يكتب سلمات، «بعد هذه المعاهدات تدفقت المنتجات الأوربية على المغرب وتم تصدير المواد المغربية، وتمكن الأجانب من امتلاك المخازن، وعجز المخزن الذي اضطر إلى الزيادة في المكوس لمواجهة الخصاص المالي، وتفكك المجتمع المغربي وتدهورت وضعية الفلاحين والتجار والحرفيين المغاربة، وكان من ضمن النتائج أيضا تزايد عدد المحميين: موظفو المخزن، تجار، شيوخ الزوايا...». كما تعود المؤرخة عزيزة بناني لتحلل أثر الحرب، «لقد كانت عواقب هذه الحرب متعددة، فاستطاعتإسبانيا من الناحية المادية أن تضمن بمقتضى معاهدة الصلح أمن سبتة ومليلية وتوسيع حدودهما، وسمح لها بتعيين قناصلة في المدن الداخلية، وبإنشاء بعثات دينية.. ورغم أن إسبانيا نالت امتيازات قيمة فإنها لم تستفد منها لانعدام الوسائل». فشل الإصلاح العزيزي أدى فشل كل من ضريبة الترتيب وإصلاح العملة المغربية والعجز المتفاقم للميزان التجاري (52 مليون فرنك فقط في سنوات 1901-1902، مقابل 83 مليون فرنك بالنسبة للفترة الممتدة بين 1889-1899 ) إلى الإنذار بإفلاس الدولة. أضيفت إليها المصاريف الناتجة عن إعادة تشغيل إنتاج البنادق والخراطيش في «ماكينة» السلاح بمدينة فاس، واستيراد كميات هامة من الأسلحة الأوربية والأمريكية. فضلا عن اقتناء بعض المخترعات الأوربية التي ينقلها وكلاء تجاريون إلى المشور بوفرة وإسراف (دراجات هوائية، سيارات، زوارق بمحركات، بلغت قيمتها 30 مليون فرنك بين سنتي 1900و 1903) ، كل ذلك أدى إلى استنفاذ موارد الخزينة. وللخروج من هذا المأزق، اضطر المولى عبد العزيز للالتجاء إلى سياسة الاقتراض من الخارج بنسب فائدة عالية، توسط له فيها صيارفة أوربيون . لكن أمام اتساع حاجياته ومصاريفه الناتجة عن تنظيم «حركاته» ضد القبائل الثائرة، وجد نفسه بسرعة مجبرا على الإلحاح أكثر في طلب المزيد من القروض الأجنبية. كان المولى عبد العزيز مبعدا عن الحياة السياسية، وعند وفاة الرجل القوي باحماد ( 13 ماي 1900) وجد نفسه في مواجهة حقائق الحكم. ورغم أنه كان عديم الخبرة في تدبير شؤون الدولة فقد أسرع ( كان عمره آنذاك لا يتجاوز 22 سنة ) إلى تعيين صدر أعظم جديد هو المختار بن عبد الله (الذي عوض فضول غرنيط)، ووضع عدة مشاريع إصلاحية والتخطيط لأخرى بدعم أو بإيعاز من «العلاف الكبير» المهدي المنبهي. فأظهر السلطان رغبته في إعادة بناء المخزن عبر تحديد مهام مختلف الوزراء، وجعل استشارة الأعيان تتم بشكل منتظم (استدعاء المجلس في الرباط منذ 1901)، فضلا عن تحديث الجيش والشروع في إصلاح العملة، وإعادة تطبيق مشروع تعميم الضرائب الذي أحدثه المولى الحسن. وهكذا أصبح تعديل النظام الجبائي قابلا للتنفيذ بفعل قرارات مؤتمر مدريد، وبضمانة من الدول الأوربية. وبالتالي كان هدف هذا المشروع الجديد - عكس تجربة 1884 – هو توحيد النظام الجبائي وتعميمه على الجميع بمن فيهم الأجانب والمحميون. غير أن المفوضيات الأوربية لم ترضخ لهذا المبدأ إلا بعد عدة مماطلات، قبل أن يصدر هذا القانون في 2 أبريل 1902 والذي أكد على «التسوية بين الأجانب والمحميين ورعايا السلطان أمام الضريبة على المزروعات و الماشية وأراضي الحرث» (المادة الأولى ). لكن الدول الأوربية ربطت تطبيق الضرائب الجديدة على مواطنيها ومحمييها بتطبيقها أولا على رعايا السلطان بشكل عام في كل بلاد المخزن. وبذلك كانت في المقابل تشجع على نمو معارضة للإصلاح لدى بعض الفئات الاجتماعية التي ألفت الامتيازات الجبائية. فتعبأت هذه الفئات لإفشاله عندما اعتبرته مخالفا لتعاليم الإسلام، خصوصا وأنها كانت تتوفر على ظهائر تعفيها من أداء الضرائب حصلت عليها عندما كانت زواياها تقدم خدماتها للسلطة المركزية، فكانت الحماية الممنوحة بداية لشريف وزان مولاي عبد السلام قد دفعت شرفاء وزان إلى اعتبار الترتيب غير شرعي. فرنسا.. «الدائن الوحيد» أمام صعوبة تطبيق ضريبة الترتيب واستفحال الوضعية المالية بالمغرب، بحث المخزن في فبراير ومارس من سنة 1902 عن شروط الحصول على بعض المال، وسعى إلى عدم الارتباط بالأموال الأوربية، بل إبرام قرض تجاري صرف بواسطة إحدى الدور التجارية التي اعتادت إقراض الحكومة المغربية بطنجة ، ففاتحت تباعا كلا من بنك «برينتي» والدارين التجاريتين «هيسنر» و»كوتش»، بيد أن البنك البريطاني «برينتي» وجد حكومته والأوساط المالية اللندنية جد متحفظين. في حين لم يتمكن «هيسنر» رغم مساندة «الأسفرتكس أمت» من إقناع البنوك الألمانية بتقديم أموال دون ضمانات، ليلتجئ بعدها المخزن حينئذ إلى شريك «كوتش» «فاباريز» الموجود بالرباط. ولما تكونت شركة مؤسسات «كوتش» في أبريل 1902، قام «كوتش» بتبليغ هذا العرض إلى رجل المال والأعمال شنيدر، فتطلع هذا الأخير إلى قرض تجاري بدون تدخل المفوضية الفرنسية بالمغرب مقابل امتياز بناء خط سكة الحديد فاس-مكناس. وتفاديا للمشاريع الإنجليزية التي تداولتها الصحافة، بدا ضروريا وضع اللبنات الأولى. وفي 25 يوليوز أبرق شنيدر إلى كوتش قائلا : « من الضروري التعجيل بإشعار «فاباريز» بقدرة الشركة على إمداد السلطان بقرض تجاري ضخم. وما على الحكومة المغربية إلا أن تحدد مبلغه وضماناته». غير أن الأوضاع العامة بالمغرب تطورت في اتجاه سيء، ففي صيف سنة 1902 تمردت قبائل ناحية فاسومكناس بسبب الأشغال التمهيدية التي كان يقوم بها ثلاثة تقنيين إنجليز، وفي بداية شهر غشت كلف وزير المالية محمد التازي «ماك لين» بمهمة في إنجلترا، واستفسر «فاباريز» مرة أخرى حول إمكانية توفير فرنسا للأموال التي كان يحتاجها المخزن. فالتحق «فاباريز» في الحين بباريس، والتقى برفقة «بينو» مدير شركة كوتش بوزير الخارجية «ديلكاسي» مثيرا انتباهه إلى ضرورة التعجيل باتخاذ القرار. فاقتنع الوزير بجدوى مشروع القرض، قائلا : «يمكن لشركة كوتش، بل ويجب عليها أن تتكفل بالقرض». وفي أعقاب هذه المقابلة، أخبر «كوتش» التازي بقبول الحكومة الفرنسية لمبدأ القرض، وفي رسالة رسمية وقعها هذا الأخير، موجهة إلى كوتش بتاريخ 10 شتنبر التمست الحكومة المغربية بشكل رسمي قرضا تجاريا بمبلغ 000 300 ألف جنيه إسترليني، أي ما يعادل 000 500 7 فرنك، إذ جاء فيها : «وحيث إنكم وشركتكم على اتصال مع الحكومة الشريفة ومعروفون لديها بعلاقاتكم الطيبة وبطريقتكم المشرفة في التعامل، فإننا استحسنا قبول اقتراحكم». لقد كان المغرب متلهفا للحصول على القرض، فوصلت رسالة مستعجلة من التازي بضرورة التعجيل بمشروع العقد وفتح المباحثات، ليسافر «فاباريز» في اليوم ذاته إلى فاس. ووضع «بينو» الذي جاء معه من باريس اللمسات الأخيرة على العقد باتفاق مع «سان روني طاينديي» : قرضا بمبلغ 000 500 7 فرنك بفائدة 6 في المائة تؤدى كل ثلاثة أشهر ويترتب على كل تأخير فائدة ثانية نسبتها 6 في المائة تنضاف إلى الأولى. على أن يتم الشروع في رد أموال القرض بداية من السنة الموالية. وكان من شأن تضمين عقد القرض لامتياز بناء سكة الحديد إثارة متاعب دبلوماسية، فتخلى عنها «شنيدر» بطلب من الوزير ديلكاسي، ليظل توقيع السلطان هو الضمانة الوحيدة. وفي 3 نونبر، لما اجتمع ديلكاسي في ديوانه برؤساء مؤسسات القروض الكبرى، أشعره «كوان» رئيس بنك باريس والأراضي المنخفضة بأنه هو المخاطب الرئيسي، وأن الآخرين مجرد أتباع يعهدون له بمتابعة العملية، وكان من دهائه أن بادر إلى التنبيه إلى ضرورة التزام من الحكومة الفرنسية، وإلا فلا سبيل لإبرام العقد. بعد ذلك، سيحصر «كوان» مطالبه في تكوين «كونسورسيوم» (اتحاد بنكي) لتكون كل البنوك طرفا فيه بما في ذلك «كريدي ليوني». وفي 20 نونبر، على إثر اجتماع حاد لمديري البنوك في وزارة المالية كاد أن يفشل مشروع القرض، بسبب إعلان «الكونتوار ديسكونت» انسحابه الذي كان مؤازرا لبنك باريس والأراضي المنخفضة، وذلك بعد رفض «الكريدي ليوني» المشاركة، كما سار «الكونتوار الصناعي والتجاري» في هذا النهج. لكن، بتاريخ 27 نونبر، سوف يتشكل عمليا الاتحاد البنكي «كونسورسيوم» مكونا من: الشركة المرسيلية، وبنك باريس والأراضي المنخفضة، والشركة العامة، والكونتوار ديسكونت والبنك الفرنسي للتجارة والصناعة والكونتوار الصناعي والتجاري والكريدي الجزائري وبنك الهند الصينية والبنك العثماني. وبالرغم من توقيع عقد القرض بتاريخ 29 دجنبر 1902، ظلت الحكومة المغربية تنتظر ما اقترضته من مال، لأن بنك باريس والأراضي المنخفضة لم يسلمه المبلغ مباشرة، بل فتح حسابا جاريا باسم السلطان للتوصل بدفاتر شيكات يصدرها بحسب الحاجة حتى مبلغ 000 500 7 فرنك، ليعرف العقد بعدها مجموعة مناورات وتعقيدات جمة بمناسبة الحصول على مبلغ القرض. مشروع فاشل.. فشل مشروع القرض الدولي بداية سنة 1903، الذي كان يقضي بأن يصدر قرض بالتساوي قيمته 30 مليون فرنك، عن ثلاث عواصم (باريس/لندن/مدريد) بضمانة استخلاص مداخيل «الديوانة» المغربية، التي يتولى إدارتها وكلاء فرنسيون وإنجليز وإسبان. كما كانت للمجموعات المقرضة نية في أن تربط القرض بصفقات الأشغال العمومية من بناء سكك حديدية وخطوط التلغراف واستغلال المناجم لتكون حكرا على أعضاء «الكونسورسيوم». وتجلت أهم أسباب فشل مشروع القرض التشاركي، في رغبة الحكومة الفرنسية في احتكار قرض المغرب، والرغبة في الابتعاد عن تدويل «القضية المغربية»، كما يؤكد جواب وزير الخارجية الفرنسي «دلكاسي»، حينما خاطب «كوان»، قائلا : «إن إرساء مراقبة إنجليزية فرنسية في إدارة الديوانة سينتهي بتدويل المغرب. وهكذا سنهدم نتائج السياسة المتبعة من قبل فرنسا منذ ما يزيد عن عشرين سنة..». بعد فشل القرض الدولي، قررت الخارجية الإنجليزية «الفورين أوفست» مساندة مجهودات «برينتي» لدى الأوساط المالية اللندنية، بغية توفير ورقة إضافية في المفاوضات مع الحكومة الفرنسية. وارتأى الإنجليز أن تكون قيمة القرض بنفس مبلغ قرض 1902، الذي قدمه «الكونسورسيوم» الفرنسي، وكذا الشروط نفسها، وبتدخل شخصي من الملك ادوارد السابع، قبِل «السير إرنست كاسيل» قيادة العملية البنكية المتمثلة في مبلغ 000 300 جنيه إسترليني ( 000 7500) فرنك، يقدمها بنكا «كاسيل» و»ستيرن»، على أن يكون برينتي وسيطا مع الحكومة المغربية، وخلال شهر مارس من سنة 1903 التحق وكيل برينتي بفاس وانتهت المفاوضات في 28 منه. لم يخلص القرض الإنجليزي الخزينة الشريفة من وضعيتها المتعسرة، لأن جزءا كبيرا منه دفع لدائني السلطان من الإنجليز وبصفة خاصة «ماك لين». فبقي مبلغ 192000 جنيه من أصل 300000 جنيه في إنجلترا في رصيد «ماك لين» لأداء مقتنيات عديدة تمت باسم السلطان في السنوات السابقة عن تاريخ إبرام عقد القرض. من جهته اكتسى العرض الإسباني طابعا سياسيا بامتياز، لأنه غداة القرض الفرنسي لسنة 1902، أقنع «كولكان» ممثل إسبانيا في طنجة وزير الدولة الاسباني أبار ثوثا، بوجوب عدم ترك فرنسا تتجاوزهم في الميدان المالي. وبضرورة إقراض المغرب مبلغا مماثلا لمبلغ «الكونسورسيوم» الباريسي لإثبات «حقوق» إسبانيا، وبإيعاز منه شرع بنك «ناحون» مراسل بنك إسبانيا والبنك الإسباني الكولونيالي في طنجة بالتباحث مع المخزن في نهاية شهر يناير من سنة 1903. واجتهدت الحكومة الإسبانية لتكوين نقابة بنكية، تقرض المغرب عشرة ملايين بسيطة ( 7500000 فرنك). وأعطى كل من بنك «هيبوتيكاريو» والبنك الإسباني الكولونيالي وبنك أوركيخو وشركائه، ورجلي المال «باور» ممثل روتشيلد في مدريد و»كومياس» مدير «الكبانية ترانسأطلنتيكا» المستقرة ببرشلونة وأكثر المقاولات اهتماما بالمغرب موافقة مبدئية، وراجع «البنك الإسباني للقرض» موقفه بعد أن رفض المساهمة أولا في العملية، بطلب من بنك باريس والأراضي المنخفضة، إذ كان من فروعه. لكن، المغاربة كانوا متطلعين أكثر إلى الحصول على الأموال الفرنسية والإنجليزية، بل حتى الأمريكية، التي زار وكيلها «لانجرمان» فاس في السنة السابقة، واجتهد للحصول لفائدة المغرب على قرض بمبلغ خمسين مليون دولار من مجموعة أبناك في نيويورك، على أن يتم دفع خمسة عشر مليونا نقدا، والباقي يمول صفقات شراء العتاد الحربي من الولايات المتحدةالأمريكية وبناء 2000 كلم من السكك الحديدية من طرف شركة أمريكية. ظلت الخزينة المغربية في حاجة ماسة إلى الأموال، ولم تبد البنوك الإنجليزية مستعدة لبذل مجهود آخر، كما استمرت ألمانيا في تملصها، ولم يتم تنفيذ وعود الوكلاء الفرنسيين والأمريكيين، فلم يعد بإمكان الخزينة المغربية التعافي، لذلك، قبل المغرب بتجديد المفاوضات مع الإسبان خلال شهر أبريل، الذين ارتأوا أن السياسة تلزمهم بالإسراع في ضمان موقع داخل حلبة التنافس حول المغرب. وبالفعل، تكونت أخيرا في 13 أبريل النقابة البنكية الإسبانية، التي سوف تتبنى مشروع العقد بصفة نهائية، الذي كان ينص على قرض بمبلغ عشرة ملايين بسيطة مقسمة إلى 10000 سند بنكي، بقيمة 1000بسيطة للسند الواحد، يتم بدء تسديده ابتداء من فاتح يناير من سنة 1905 بأقساط شهرية بمبلغ 200000 بسيطة، وفائدة 6 في المائة تؤدى كل ثلاثة أشهر بواسطة «ديوانة» طنجة. ويتم إمداد الأموال من قبل بنك «أوركيخو» وشركائه (500 500 2) والبنك الإسباني الكولونيالي ( 500 500 1) وبنك «هيبو تيكاريو» ( 500 500 1) وبنك إسبانيا ( 500 500 1)، والبنك الإسباني للقرض (1000 000) ومجموعة أبناك في مدريد (1000 000) ، ونقل بنك ناحون المشروع في الحين إلى إدارة المخزن، وشرع معه في مفاوضات ساندتها بقوة مفوضية إسبانيا بالمغرب بقوة. تفاهم أنجلو-فرنسي بعد انسحاب إنجلترا من مضمار التنافس الأمبريالي على المغرب، بناء على اتفاقها مع فرنسا الموقع في 8 أبريل سنة 1904، انخفضت نسبة مبادلاتها التجارية من 40 في المائة سنة 1904 إلى 29 في المائة سنة 1905. وفي المقابل ارتفعت نسبة المبادلات مع فرنسا من 24 في المائة إلى 38 في المائة، وذلك بعد أن قوت المجموعات المالية مصالحها، فقد سبق لشركة شنايدر وشركائه أن كلفت الملازم البحري ج.كاكوري (G.de CAQERAY) بمهمة دراسية ذات بعد استطلاعي، لتنشئ في 30 ماي 1902 شركة مالية تجارية تحمل اسم «الشركة المغربية»، التي كان من بين المساهمين فيها نيقولا باكي NICOLAS PAQUET مجهز السفن المرسيلي، وقد فتحت الشركة وكالات لها في كل من فاس وطنجة، ويبدو أن مندوبها السيد ج.فير (G.VEYRE) كان يحظى بثقة السلطان مولاي عبد العزيز، إذ لعب دور الوسيط بين كل من البنوك الأجنبية والسلطان في مسلسل جر المغرب إلى مستنقع القروض الخارجية. وفي سنة 1904 اضطر السلطان عبد العزيز مجددا إلى اللجوء للقروض، وبما أن إنجلترا سبق وأن انسحبت من المنافسة فقد وافق كونسورسيوم (تشاركية) البنوك الفرنسية على منح قرض بملغ 62.5 مليون فرنك فرنسي بفائدة 26 في المائة، وتضم هذه المؤسسة المالية التشاركية كلا من كونتوار الخصمle comptoir des escompte، والقرض الصناعي والتجاري، والشركة المرسيلية للقرض، وبنك الاتحاد الباريسي الذي تم تأسيسه من طرف مجموعة من البنوك البروتستانتية وهي ميرابو، ومالي (Mallet) وشلومبرجي ونوفيلز (Neuflize). وقد كانت معظم هذه المؤسسات المالية قد ساهمت في قرض فرنسا السابق «مستجيبة لنداء الحكومة الفرنسية»، وترأس بنك باريس والأراضي المنخفضة هذا الاتحاد الذي انضاف إليه لاحقا البنك العثماني، وبنك الهند الصينية، كما أن «الشركة المغربية» التي ساهمت في المفاوضات، حصلت من المخزن على ترخيص بتنفيذ الأشغال البحرية بالدار البيضاء وآسفي. والجدير بالذكر أن السلطان لم يحصل سوى على ثلاثة أرباع مبلغ القرض (أي 48 مليون فرنك فرنسي) التي سوف يتم صرفها في تسديد قرض 1903 وفي المصاريف المخزنية ذات الطابع الاستعجالي، كما كانت الشروط التي فرضها القرض جد قاسية، إذ أنه اضطر إلى توظيف 60 في المائة من عائدات الجمارك البحرية لمصلحة تسديد الديون، وهذه العائدات كانت تشكل المداخيل الجبائية الوحيدة المنتظمة منذ إعادة المخزن لتنظيمه الضريبي، كما التزم بالتوجه إلى «الكونسورسيوم» فيما يخص احتياجاته المالية المستقبلية مقابل وعد السلطان بإسناد مهمة تأسيس بنك مخزني للكونسورسيوم. وهكذا وجدت المملكة الشريفة نفسها في مصيدة لم يعد لها الإمكان من الإفلات من بين براثنها، إذ تم إرسال الطرادين «كليبر» و»غاليلي» إلى المياه المغربية، كما تشكلت لجنة من كبار الموظفين الفرنسيين ومن بينهم «رينو» REGNAULT وهو القنصل العام لفرنسا، وعضوين من السلك القنصلي، ومراقبين مدنيين من الأطر العاملة بتونس، ووضعت البنوك الفرنسية رهن إشارة حاملي سندات الكونسورسيوم، لتبتدئ مراقبة المراسي ابتداء من 1904. في السياق التاريخي نفسه، تشكلت «لجنة إفريقيا الفرنسية» من بين أعضائها «لجنة المغرب» التي تكلفت بإقناع الرأي العام لإنجاز جرد الخيرات المغربية وتسهيل مهام المنقبين والتقنيين والعلماء. وأسندت رئاسة هذه اللجنة إلى أ.اتيان الذي حدد في خطاب ألقاه يوم 15 يونيو 1904 - خلال أول مأدبة أقامتها اللجنة- السياسة الواجب اتباعها من أجل «التغلغل في المغرب»، كما حدد فيه أهداف اللجنة معلنا عن افتتاح الاكتتابات، وقام بتعريف وشرح المساهمات الأولى التي قامت بها كل من شركة الجغرافيا (5000 فرنك) وشركة روتشيلد التي أثبتت «سخاءها» باكتتاب مبلغ 20000 فرنك، وقد اعتمد «اتيان» على هذه النقط الواردة في خطابه ليطورها في مقال نشره في جريدة إنجليزية تدعى the NATIONAL REVIEW بتاريخ فاتح غشت من السنة نفسها، وهي الأفكار نفسها التي عبر عنها وزير الشؤون الخارجية «دلكسي» لاحقا أمام مجلس النواب يوم 10 غشت من سنة 1904، قائلا : « علينا أن نقنع المغرب الآن بأن لنا العزيمة الثابتة لتحقيق مهمتنا، وبأن مهمتنا تتطلب منا مساعدته على إقامة الأمن والسلام على ترابه. وعلينا من أجل ضمان ازدهارنا، أن نزوده بالوسائل التي ستمكنه من الاستفادة من خيراته الوفيرة، وعلى هذا النحو، سيستمر (المغرب) في نمط عيشه الخاص وفي المحافظة على عاداته وقوانينه ورؤسائه، تحت قيادة سلطان ذي سلطة مدعمة وموسعة، ولن يعرف قوتنا إلا بالفوائد التي ستصاحبها»، وهذا يعني بوضوح أن الحكومة الفرنسية المدعمة باتفاق التفاهم مع انجلترا، كانت تستعد لبسط سيطرتها على المغرب، وذلك في إطار الحماية... ففي يوم 11 يناير 1905، أرسل «دلكسي» إلى فاس وزير فرنسا بطنجة «سان روني دي تايلاندي» SAINT-RENE DE TAILLANDIER بهدف فرض مخطط «للإصلاحات» متعلق بتنظيم قوات الأمن بالمراسي وبإنشاء بنك مخزني من طرف كونسورسيوم البنوك الفرنسية وبالشروع في تنفيذ الأشغال العمومية. ما بعد الأزمة الفرنسية - الألمانية عقدت حكومتا «ألمانيا»ألمانيا«فرنسا»وفرنسا «معاهدة المغرب 1909»معاهدة في «8 فبراير»8 فبراير 1909، اعترفت فيها ألمانيا بسيادة فرنسا على شؤون المغرب، وفي مقابل ذلك تعهدت فرنسا بتساوي الفرص الاقتصادية للأعمال الألمانية والفرنسية في المغرب، ولم تدرك فرنسا سبب التراجع الألماني عن الموقف المعادي للمصالح الفرنسية الذي تجلى في «مؤتمر الجزيرة الخضراء»مؤتمر الجزيرة الخضراء. إلا أنه بحلول يونيو 1909، حين تقدمت ألمانيا بطلب لإنشاء رابطة للصيارفة الفرنسيين والألمان في المغرب، وبدأ يتضح لفرنسا هدف ألمانيا في استغلال ثقلها المالي والصناعي في احتواء المغرب. كما أن بريطانيا اعتبرت معاهدة المغرب لسنة 1909 نقضاً «الاتفاق الوي (الصفحة غير موجودة)»للاتفاق الودي المنعقد بين فرنسا وبريطانيا في 1904. لذلك حاولت فرنسا على مدى العامين التاليين التملص من معاهدة المغرب مع ألمانيا، وهو الأمر الذي أفضى إلى أزمة أكادير. لم يحرك الدبلوماسيون الألمان ساكنا، وذلك بسبب توقيعهم على اتفاقية 1909 التي أقامت شراكة فرنسية-ألمانية لاستغلال الثروات المعدنية، التي تجسدت في إشراك الأخوين مانسمان مع شركة شنايدر في الاتحاد المنجمي. وقد اضطر العاهل المغربي الجديد سنة 1910، تحت التهديد، إلى طلب قرض جديد بمبلغ 100 مليون فرنك من بنوك فرنسية، لأجل تسديد ديون المولى عبد العزيز وتغطية المصاريف التي تتطلبها الأشغال العمومية المنجزة أو تلك التي كانت في طور الإنجاز في المراسي من طرف الشركة المغربية «شنايدر»، كما طالب الأوربيون ضحايا القصف الفرنسي للدار البيضاء بأداء تعويضات ضخمة، وكان على رأسهم «الشركة المغربية» من جديد…! كما اضطر السلطان إلى الالتزام بأداء 70 مليون فرنك كقسط سنوي لتغطية المصاريف العسكرية التي تطلبها التدخل الفرنسي، ومبلغ 65 مليون فرنك للحكومة الإسبانية. وفي الواقع فإن السلطان لم يحصل عمليا على أي شيء من تلك القروض، ولأجل ضمانه، تخلى السلطان على آخر الموارد التي بقيت له من جمرك المراسي، لترتفع بذلك حدة الاحتجاجات الشعبية التي طالبت قبل ذلك بتنحية السلطان عبد العزيز، فلم يجد المولى عبد الحفيظ أمامه غير الاستنجاد بالفرنسيين، إذ سيقدم الجنرال موايي Moinier على فك حصار العاصمة فاس بعد هجوم القبائل المتمردة. وقد استغلت إسبانيا هذا التدخل، فأرسلت طراداتها العسكرية إلى المياه المغربية واحتلت مدن العرائش والقصر الكبير، كما أرسلت ألمانيا طراداتها العسكرية «بانتير» إلى أكادير، وهكذا تولدت أزمة دبلوماسية خطيرة، لم تهدأ إلا بتوقيع اتفاقية 4 نونبر 1911، حيث تنازلت ألمانيالفرنسا عن المغرب، مقابل حصولها على جزء من الكونغو الفرنسية بمساحة 275 كلم مربع.