عزيزتي نورا أكتب لك من هذا الفراغ الذي يلف خجلي على استحياء. هذا الفراغ الذي لا يكسره سوى حديث الأباشي، وال إف16. أكتب لك من فراغ جمعية مشتتة لا تقوى على مجاراة الأحداث، بل في كل مرة تحاول عجن نفسها من جديد. أكتب لك من تاريخ ما انفك يسخر منا عندما نعتقد بأنا نحن من يكتبه لكنه في الحقيقة لا يعيد إلا نسخ نفسه بنفسه. أكتب لك من لوحة مفاتيح عاجزة عن مجاراة كل هذا الموت. نورا... هل تذكرين عندما كتبتِ لي في ذلك الصيف اللبناني، في عيد جنين؟ وفي ميلاد بيت لحم؟ كم صيف مضى؟ وكم عيد انقضى؟ وكم ميلاد رحل مكسورا منذ ذلك اليوم؟ ونحن مازلنا هنا كأناّ بضعة أرواح تائهة في فراغ ما بين ميلاد وسنة جديدة لطالما تمنيت لو أنها لم تأتِ؟ لم يعد لدي رجاء في حكمة الإنسان، بل لم يعد لي أمل في الإنسان نفسه، ولا حتى في نفسي، فبعد هذا الميلاد ستأخذني الأحداث مجددا، صحيح أنني لا أصمّم قصف الملاعب، ولا أصوّب قنابلي الذكية نحو المستشفيات الخالية من الدواء، ولا أطارد المسلحين وعائلاتهم بصواريخي بين الشقق السكنية، وصحيح بأني أؤمن بأن لكل إنسان حقا في النضال من أجل حقوقه، إلا أنني سرعان ما سأعود إلى مدرستي قريبا، وأعاود الانغماس في تصحيح الأبجد والهوز ... كيف لي أن أجاري كل هذا يانورا؟ يؤسفني ذلك وأدرك بأني قد خيبت آمالك، ففي النهاية ما أنا سوى أوربي ماكر. عما قريب تجيء الانتخابات، ربما أغضب قليلا، وربما أكتب مقالا، لكني في النهاية، عندما تحين اللحظة الحاسمة، أذهب للاقتراع، وأدلي بصوتي كي يتسنى لأوربا، ولمالطا المتباهية بثوبها الجديد، مواصلة خداع الفلسطينيين. وبعد انتهاء المجزرة، تتدخل أوربا بطيبتها اللامحدودة لتحقن مخدّر السلام في أجساد المذبوحين والمصابين من الفلسطينيين. اعلمي يا نورا بأني في تلك اللحظة أكون أحقن غضبي في هذا الفراغ الذي يحتويني. لأجل ذلك أطلب منك ألاّ تقومي بنشر هذه الرسالة لأني أخاف أن أنتفخ بالأوهام من جديد، وأصدق بأن هذه الكلمات ذات أهمية، وبأن هذا الشارع، شارع الجمهورية، يمكن أن يفضي إلى وضع جديد أو إلى عالم أكثر عدلا. لأني أثناء كتابتي لك، أرى ظلا تحت السيارة أمام بيت ناتالي أبو عبيد التي رأت صيف بيروت، وارتعبت في ميلاد بيت لحم وعيد جنين، أرى ظلاً رماديا لبنتين عائدتين من مدرستهما قبل أن تأتي قنبلة وتذهب.. فأخشى بدلا من كتابة قصتهما في تلك الطريق الصغيرة في مكان ما على قارعة ما تبقى من هذا السجن الذي يسمى غزة، أخشى أن يعثر أحدهم على هذه الرسالة الفارغة فيقوم باستغلالها.