بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط        خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة /أسبوع رديء آخر


حمد عبد العزيز الحمد العيسى
السبت:
يوم ثقيل جدًّا! إنه أطول أيام الأسبوع بلا جدال . عدد ساعاته - بكل تأكيد - أكثر من 24 ساعة! خرجت من المنزل في الخامسة والنصف صباحاً وفي يدي كوب قهوة سوداء بدون سكر. قدت السيارة من الدمام إلى الظهران حيث أعمل في أكبر شركة نفط في العالم . ستون ألف موظفة وموظف .. إنها دولة داخل دولة! استمعت – كالعادة - إلى نشرة الأخبار من إذاعة القوات المسلحة الأمريكية AFN على موجة FM في راديو السيارة . بعد النشرة ، تحدث المذيع الشهير بول هارڤي بلهجة حادة وجادّة - على غير عادته الهزلية - محذِّراً الرعايا الأمريكان في السعودية من احتمال وقوع المزيد من العنف بعد عملية «ينبع» الإرهابية قبل ثلاثة أيام . سَرَتْ شائعة قوية تقول إن الشركة ستزيد مرتبات الموظفين الأمريكيين ك «بدل خطر» Bounce حتى لا يستقيلوا ويغادروا البلد بسبب الحوادث الإرهابية الأخيرة! يا إلهي .. ألا يكفي أنهم يتقاضون على الأقل 50% أكثر من مرتباتنا على نفس الدرجة في الأحوال العادية؟! ألسنا نعمل معهم في نفس المباني والمعامل التي قد تكون مستهدفة؟! لماذا لا نُعطى نحن أيضاً Bounce «بدل خطر» ؟! لابد أن تتدخل «النقابة» .. أووه .. أستغفر الله .. يا رَبِّ سامحني على هذه الزَّلَّة .. قصدي «لجنة الموظفين» التي انتخبناها – من أجل عيون منظمة التجارة العالمية - ثم ناااامت كطفل رضيع وديع منتظرة أوامر الأخ الأكبر !
أصبحتُ مضطراً للخروج من المنزل مبكراً جدًّا حتى أتفادى التأخير بسبب نقاط التفتيش التابعة للشرطة التي في الطريق . بعد نقطتي تفتيش ، وصلت بوابة «كامب» الشركة . كان هناك طابور طويل من السيارات وبداخلها موظفون ضَجِرون من طول الانتظار . لعنة الله على الإرهاب والإرهابيين .. لقد أصبح الذهاب للعمل في مثل هذه الأيام أكثرَ مشقةً من تقبيل الحجر الأسود في ليلة القَدْر! رجال ال «سيكورتي» والكلاب البوليسية الضخمة تفتش السيارات . فتشوا شنطة سيارتي .. طبعاً لم يجدوا شيئاً كالعادة! لا أعرف من هو ذاك الإرهابي العبقري الذي سيضع بضاعته هكذا «خبط لزق» في شنطة السيارة!
أخيراً .. وصلت إلى مكتبي في مبنى الهندسة في السابعة إلا خمس دقائق تقريباً . يبدأ العمل في السابعة ، وينتهي في الرابعة مساءً .
ولكن لكوني رئيس قسم هندسي ، يكاد اليوم بأكمله أن ينقضي في اجتماعات ومحاضرات ، وبالتالي لا يوجد لديَّ وقت لقراءة ما تراكم من رسائل ، وتقارير هندسية ، وكم هائل من ال «إيميلات» اللعينة إلا بعد نهاية الدوام . نعم ، هذه ال «إيميلات» ظاهرها فيه الرحمة ، وباطنها فيه العذاب .. كل العذاب! إنها تنهمر بلا توقف كالطوفان لأن بعض الموظفين لا يعرفون «إيتيكيت» إرسالها . لذلك أواصل العمل بهدوء حتى السادسة . اثنا عشرة ساعة من الرق اليومي لدى شركة النفط .. ومن الممكن أن تكون أطول وذلك حسب مزاج سعادة مدير الإدارة .
من المفترض في بداية هذا اليوم أن أكون سعيداً تأسياً بالمقولة الرأسمالية العتيدة التي تعلمتها من زملائي الأمريكان: «يوم جديد .. دولار جديد»! ولكن هيهات! نعم .. هيهات! لعلمي أنني مقبل على أسبوع عبودية ونفاق وظيفي جديد يقتضي أن أواصل فيه قول Yes Sir وملحقاتها البغيضة للمدير مهما كانت الظروف .
أووه .. أكاد أجن بسبب كثرة مبادرات تطوير الأداء وما ينتج عنها من اجتماعات ومحاضرات! بل لعلي لا أبالغ إذا قلت أن الاهتمام بمبادرات تطوير الأداء أصبح أكثر من الاهتمام بالعمل نفسه!
اليوم هو موعد الاجتماع الأسبوعي لمبادرة «ما بعد التخطيط الاستراتيجي» . اجتمعنا نحن رؤساء الأقسام السبعة مع مدير الإدارة لمراجعة آخر ما توصلت إليه اللجنة المشرفة على هذه المبادرة . الهدف من هذه المبادرة هو التخطيط لكل ما «لا» تحتاجه الشركة للعام 2050! وقد تم استحداث المبادرة في «المقهى» Café الإبداعي السنوي الذي عُقد في جزيرة «حوار» البحرينية حيث توصل المجتمعون إلى أن احتياجات الشركة «أكثر» من عدم احتياجاتها . ولذلك ينبغي التخطيط لكل ما «لا» تحتاجه الشركة لأن القائمة ستكون أقصر ويكون العمل - أوتوماتيكيًّا - بما هو خارج الخطة! استمر الاجتماع لمدة أربع ساعات ثقيلة .. أثقل بكثير من دم المذيع أحمد منصور! وتحدث فيه الجميع بكلام كبير عن أهمية المبادرة والنقلة النوعية التي ستحدثها في العمل . ولكن المفارقة أننا – نحن رؤساء الأقسام – نتهامس عندما نكون منفردين أن أفضل «تخطيط» هو تركنا نمضي الساعات المهدرة داخل مكاتبنا لكي نقوم بعمل حقيقي ننجز فيه المعاملات المتعطلة!
الأحد:
لا جديد تحت الشمس: اجتماعات ومحاضرات لا نهاية لهما . أشعر أحياناً ، بسبب زحمة جدولي ، أن الأمور تسير ببركة دعاء والدتي ، خاصة بالنسبة للخمسين مهندساً الذين يعملون تحت إدارتي لأنني لا أجد وقتاً كافياً لكي أتابعهم وأستجيب لأسئلتهم .
اليوم هو موعد الاجتماع الأسبوعي لمبادرة «ما وراء الجودة الشاملة» . اجتمعنا كالعادة لمدة أربع ساعات طويلة ، كأننا نشاهد فيلماً هندياً ، للكلام المكرر عن أهمية اكتشاف الأخطاء «قبل» البدء في تنفيذ أي عمل! نعم ، يريدوننا أن نصطاد الأخطاء «قبل» التنفيذ .. كأننا عرّافون! وكالعادة .. تخلفنا عن صلاة الظهر ووجبة الغداء بسبب الاجتماع . وبمناسبة الحديث عن الأخطاء ، لدينا قاعدة إدارية وثنية راسخة لا تتبدل: «النجاح ينسب للمدير والفشل ينسب للمهندس» ، اهتزت رؤوس الجميع في الاجتماع طرباً لما توصلت إليه اللجنة . أشفقت على رؤوس زملائي من شدة الاهتزاز . كما رددنا شعارات حماسية مستهلكة جوفاء مثل «فعل الأهم أولاً» و«التفكير خارج الصندوق» و«العمل بروح الفريق» و«الشفافية» و«التفكير الإبداعي» و«الحتميات الست» . بعد نهاية الاجتماع ، انطلقنا بطريقة ميكانيكية مسعورة لحضور المزيد من الاجتماعات أو المحاضرات داخل أو خارج الإدارة .
بعد الرابعة بدأت مراجعة سيل الأوراق والتقارير المتراكمة . كان شعاري عندما أصبحت رئيساً للقسم هو مراجعة «كل» كلمة مكتوبة في كل رسالة أو تقرير هندسي يصدر تحت توقيعي . ثم بسبب كثرة الاجتماعات والمحاضرات ، وبالتالي قلة الوقت ، أخذ الشعار يتواضع حيث أصبحت أوقع على الرسائل إذا كان معناها واضحاً رغم عدم رضاي عن أسلوبها ، وأوقع على التقارير بعد قراءة ملخصاتها الموجودة في المقدمة. ولكن أخيرا، اكتشفت خلطة KFC السحرية.. إنها الطريقة البراغماتية التي يتبعها رؤساء الأقسام الذين يوصفون بأنهم "فعالون"، وهي التوقيع على أية رسالة "مهماس" كان أسلوبها، والتوقيع على التقارير "بدون" قراءة أي كلمة فيها. حقًّا .. لقد كانت هذه هي الطريقة الذكية التي اصطدت بها عصفورين بحجر واحد: استطعت أن أنال الثناء من المدير والمرؤوسين معاً لسرعتي في إنجاز المعاملات ، وفي نفس الوقت تمكنت من العودة للمنزل قبيل نوم أطفالي!
الاثنين
بحلول هذا اليوم أكون قد اعتدت - تقريباً - على روتين العبودية المقيتة ، وبدأت أرى نوراً خافتاً في نهاية النفق .. لقد اقترب وصول ال «ويك إند»!
اليوم هو موعد «اجتماع الاتصال» الأسبوعي الذي يستمر أحياناً ثلاث ساعات طوال .. أطول من لسان المذيع فيصل القاسم! ينقسم هذا الاجتماع الروتيني الممل إلى ثلاثة أقسام . يقوم المدير في القسم الأول بنقل أبرز أخبار الشركة . وهي - في العادة - أخبار سخيفة ومكررة وأحياناً معروفة سلفاً . باختصار: نسمع كلاماً ينطبق عليه قول الفيلسوف الإنجليزي ألفريد نورث وايتهد: « إن كل ما يقال قيل سابقاً»! وما إن يبدأ المدير في الكلام ، حتى يبدأ المتملقون من زملائي بالكتابة في دفاترهم بهدف إشعار المدير بأهمية كل كلمة يقولها! لا بأس ، ولكن المشكلة أنهم يكتبون كل شيء حتى لو كان المدير يقول «صباح الخير» .. شيء عجيب بالفعل!
ويقوم المدير في القسم الثاني من الاجتماع بطرح قضايا دوَّنها من أحداث الأسبوع المنصرم ، والهدف هو أيضاً المزيد من تطوير العمل! وهنا تحدث الطامة الكبرى! حيث تنتج عن النقاش أفكار تتم بلورتها لتصبح مبادرات وتؤدي - بالطبع - إلى تكوين لجان جديدة .. وبكل تأكيد اجتماعات إضافية! يا إلهي .. لقد أصبح عدد اللجان التطويرية في الإدارة أكثر من عدد الدراسات الهندسية الواجب إنجازها! ولأن هناك قاعدة معروفة وثابتة علميًّا وعمليًّا في هذه الشركة وهي أن الأخ الأكبر Big Brother مصيب دائماً وأبداً .. حتى لو كان معدل ذكائه IQ أقل من 30 (نعم 30 وليس 130) .. فلا مجال للصراحة عندما يتكلم سعادة المدير لاسيما إذا كان مخطئاً لأن الصراحة تؤدي بصاحبها إلى المهالك! ولذلك .. فإن النتيجة معروفة سلفاً: الإشادة بالفكرة .. ويستحب كذلك التطبيل لها خاصة بواسطة العبارة سيئة الذكر: أنا أُثَنِّي عليكI Second You .. واااو .. إنه أسلوب متطور ومثير في الإدارة نملك براءة اختراعه تحت اسم «الإدارة بواسطة التخويف»Management By Fear ! ولو علم جورج أورويل بهذا السيناريو المبتكر لكانت رائعته «1984» أكثر تشويقاً بدون شك!
وفي القسم الثالث من الاجتماع يطلب المدير من كل رئيس قسم أن يطرح ما لديه من أخبار أو أفكار . ولا يستغرق هذا القسم الهام – بحق - سوى دقائق قليلة لأن كل رئيس يكون قد سئم من الجلوس الطويل الذي قد يسبب له البواسير ، كما يخشي في حالة طرح أية فكرة أن تتحول إلى مبادرة ثم يكلفه المدير برئاسة لجنة جديدة لدراستها! وهكذا يكتفي كل رئيس بالقول إن كل شيء على ما يرام .. بينما هو يفكر بالأوراق التي تتكاثر في مكتبه كالجبال الشامخة أثناء جلوسه في هذا الاجتماع الطويل . لو كنت المدير .. لما استغرق هذا الاجتماع الماراثوني أكثر من 15 دقيقة .
وإذا كان المصريون فخورين بال «فيمتو ثانية» التي اكتشفها الدكتور أحمد زويل ، فنحن أكثر فخراً لأن الشركة اكتشفت ال «سوبر فيمتو ثانية» .. وهي الفترة الزمنية بين تَعَودنا على مزاج مدير ما واستبداله بمدير جديد! حيث يأتي المدير الجديد بسرعة خرافية ويكون شعاره - كمن سبقوه طبعاً – «أنا الشركة .. والشركة أنا» اقتداءً بلويس السادس عشر! فيقوم بإعادة اختراع العجلة ، ونعود معه إلى المربع الأول ، ويلغي المبادرات السابقة ، ويستحدث مبادرات جديدة ل «تخليد اسمه» ، وهكذا ندور في حلقة بؤس مفرغة إلى ما لانهاية! لقد أصبحنا مثل فئران التجارب في المختبرات ومعنوياتنا منهارة وتصعب حتى على المجرم آرييل شارون .
والمؤسف أن الشركة لا يوجد بها «ميكانيزم» لفضح الشذوذ الإداري لدى بعض - أقول بعض - المديرين! فهي تُعين الشخص مديراً ، ثم لا ترى سوى ابتساماته المصطنعة وكلامه المعسول في «اللجنة الإدارية» .. بينما يستمتع - بعيداً عن أعينهم طبعاً - بسَحل موظفيه بكل ساديّة! وإذا بلغ السيل الزبى ولم تكن لديه واسطة ، يقومون بنقله إلى إدارة أقل أهمية .. أي أنه يظل قياديًّا مع الأسف! كأننا في جمعية خيرية! آآآه .. كم أكره مقولة «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية» حتى ولو كانت منسوبة إلى أمير الشعراء شوقي!
الثلاثاء:
ثغري يحاول الابتسام .. ولكن بصعوبة . لقد بدأ العدّ التنازلي للساعات الباقية على وصول ال «ويك إند» . اليوم هو موعد الاجتماع الأسبوعي لمبادرة «ما فوق رضا العميل» . والعميل المقصود هو كل شخص نتعامل معه من إدارات الشركة الأخرى أو هيئات خارج الشركة . أعترف أنني لم أستوعب تماماً حتى هذه اللحظة ما هو المطلوب منا «فوق» رضا هذا العميل! هل هو إرضاء فخامته عندما «لا» يكون بحاجة لخدمتنا؟! هل نقوم - مثلاً - بزيارة سيادته في المنزل بعد نهاية الدوام ، وعمل «مساج» تايلاندي له؟! أم ماذا بالضبط؟! إنها كوميديا سوداء تصلح لمسلسل «طاش ما طاش» . المهم .. كل ما نعمله هو في سبيل رضا هذا الغول الرهيب المسمى بالعميل . حقًّا .. صدق الحكيم الذي قال: «الجنازة حارّة والميت كلب»! ليست مبالغة ، ولكنها حقيقة مجربة: إذا غضب العميل ، واتصل بالمدير ؛ فقل على مستقبلك المهني السلام ، لأنك سوف تكتشف في التقييم السنوي أنك موظف «غير مرن» Inflexible وفي رواية «عُدواني» Aggressive ! ، وبالتالي لا تصلح قياديًّا .. حتى ولو كان العميل مخطئًا! لسان حالي دائماً هو: «أخافكم إن صدقت ، وأخاف الله إن كذبت»!
أخيراً ، وبعد التجربة المرّة ، عرفت كيف تُورد الإبل: يجب أن أكون منافقاً .. عفواً ، أقصد «دبلوماسيًّا»! فأقول للعميل «نعم» ، حتى ولو كانت «النعم» في غير مصلحة الشركة ، ثم أبحث بعد ذلك عن التبرير المناسب لأقنع به ضميري ومن حولي بأثر رجعي! وفعلاً ، هكذا يفعل البراغماتيون الناجحون الذين سبق ذكرهم . أصبحت لي كلمة أخيرة أقولها دائماً في سِرِّي بعد كل كلمة «نعم» قسريّة: لعنة الله على كل «عميل»!
صدقوني .. «كنت» أعشق عملي عندما كان 100% عملاً مجرّداً مثل الأيام الخوالي ، وليس 20% عمل و80% «مناورات عمل» Office Politics كما هو عليه الوضع الآن! أكثر ما نعمله الآن - ويزعجنا حتى الثمالة - هو «مناورات عمل» .. لا أحد يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة . كما أن بيئة الشركة تغيرت في السنوات الأخيرة مع إطلاق كَمٍّ هائل من الشعارات الإدارية والمبادرات التطويرية بصورة شبه فوضوية . كل من يستلم منصباً مرموقاً يستحدث «نيولوك» إداريًّا أو تطويريًّا يشغلنا عن العمل! أطنان من الشعارات .. طوفان من المبادرات .. امبراطورية من اللجان! بصراحة .. «زَوَّدُوها حَبتين»! لقد أصبحنا بحاجة إلى أخصائيي «مسالك تطويرية» في مستشفى الشركة!
طيب .. إذا كان لابد من مبادرات ، نريد مبادرات حقيقية مثل: مبادرة لإنصاف الموظفات السعوديات المظلومات وذلك بإعطائهن قروض لبناء منازل كباقي الموظفين السعوديين الذكور! أو مبادرة لتوفير أراضٍ مجانية جديدة لآلاف الموظفين الذين ينتظرون دورهم في برنامج تملك البيوت منذ سنوات عديدة! أو مبادرة لتطوير دور لجنة الموظفين لتنبض قولاً وفعلاً مثل أغلب دول العالم «الثالث» - ولا أقول الأول - بمطالب العمال! أو مبادرة إنسانية لزيادة الرواتب بدل من تخفيض نسبة الزيادات السنوية بطريقة سادية متوحشة!!
آآآه .. ليت الشركة تسير بطريقة الطيار الآلي Autopilot بدون الانشغال بالأمور الشكليّة المضيعة للوقت والطاقة بلا طائل .. فالنفط والغاز - والله العظيم - سوف يستمر في التدفق بسهولة ويسر بدون جهد تقريباً .. والتركيز على جوهر العمل سيزيد الإنتاجية بكل تأكيد .. وعدد الأزمات القلبية والجلطات سوف يقل بدون شك!
حسناً .. أعترف أنني مدين لهذه الشركة الرائعة بكل شيء جميل في حياتي تقريباً ، ولكنني أود أن أعترف - أيضاً - أن العمل كان أكثر متعة عندما توظفت قبل أكثر من عشرين عاماً . كان أكثر رؤسائي من الأمريكان .. تعلمت منهم الكثير وخاصة التواااضع .. وعندما كنت أُخطئ ، كان رئيسي يتحمل المسؤولية عني بكل شجاعة! كان كل شيء «عمليًّا وبسيطاً ومباشراً» رغم عدم وجود نظام ساب SAP المعلوماتي المُكلف والمعقد واللئيم .. نعم ، كنا نعمل بسهولة بدون هذا الساب .. وكانت الإنتاجية أكثر ؛ لأن التركيز كان على جوهر العمل لا على الشعارات الفارغة ، والمبادرات الاحتفالية المُكلفة ، والتدقيق المهووس في مواعيد الحضور والانصراف بدل التركيز على جوهر العمل. هذه هي الحقيقة المُرّة التي يهمس بها الكثيرون ولا يحب بعضهم أن يسمعها!
وإذا كان هناك عدد محدود من المبسوطين في الشركة ، فإن عدد الساخطين - الآن - أكثر من أن يُعد ، وهم يتزايدون كل يوم بسبب بيئة الشركة التي تغيرت .. لقد أصبح أكثر الموظفين الذين أعرفهم ينتظرون صفقة مناسبةPackage للتقاعد المبكر أو الطبي .. وأنا منهم بل أولهم!
الأربعاء:
بدأت أبتسم بدون تكلف .. إنه أقل أيام الأسبوع سوءاً بلا منازع ؛ لأن ال «ويك إند» يبدأ غداً . الصباح محجوز بأكمله لاجتماع مبادرة «فعل الكثير بواسطة القليل» Do More With Less . هدف هذه المبادرة العبقرية هو تقليل عدد الموظفين وزيادة الإنتاجية في نفس الوقت! هل رأيتم إبداعاً مثل هذا؟! ربما سيُطلب منا مستقبلاً «فعل الكثير بواسطة لا شيء» Do More With Nothing ؟! من يدري؟! ربما ، فكل شيء جائز في عصر «آه ونص»!
أما بعد الظهر .. فهناك عادةً محاضرة أسبوعية - سخيفة في الغالب - لمدة ساعة عن موضوع تطويري . محاضرة هذا الأسبوع كانت بعنوان «الطريق إلى التميز .. تفعيل التطوير أم تطوير التفعيل؟». لم أفهم شيئاً! وعقّب المدير على المحاضرة لمدة ساعة أخرى لإشباع شبقه الأزلي للحديث عن المزيد من أفكاره التطويرية!
وفي الساعة الثالثة والنصف أخبرتني سكرتيرتي الإيرلندية الجميلة والبشوش جوليا أن المدير يطلب من رؤساء الأٌسام الخمسة الحضور في الساعة الثامنة من صباح يوم غد الخميس .. يوم العطلة الرسمية . وأضافت جوليا إن هدف الاجتماع هو الاشتراك في جلسة عصف دماغي إبداعي ديناميكي لتوليد مقترحات تهدف إلى صهر مبادرة «ما بعد التخطيط الاستراتيجي» مع مبادرة «ما وراء الجودة الشاملة» بالإضافة إلى مبادرة «ما فوق رضا العميل» في بُوْتَقَة واحدة ، وبالتالي استحداث معيار أداء رئيKey Performance Index KPI جديد يكون ثلاثيَّ الأبعاد! ما هذه الشعوذة؟! تمنيت أن لو كان بالإمكان حضور صموئيل بيكيت (مبتكر مسرح العبث) معنا لأنه الاستشاري الوحيد الذي يفهم في مثل هذه الأمور .. ولكن ذلك مستحيل لأنه انتقل إلى الأمجاد السماوية! شعرت برغبة في البكاء .. لقد انهار - بسبب هذا الهراء - مخططي لقضاء ال «ويك إند» مع عائلتي في منتجع البندر بالبحرين الذي خططت له منذ أكثر من ثلاثة شهور!
عند الخامسة والنصف مساءً ، وضعت كل الرسائل والتقارير المتراكمة في حقيبتي لقراءتها في المنزل ، وغادرت المكتب - على غير عادتي – مبكراً .. وحزيناً!
الخميس:
حضرت الاجتماع المنتظر . وكما توقعت .. سمعت الكثير من الفذلكة واللّت والعجن . وتأملتُ – كالعادة - رؤوساً تهتز معبرة عن الموافقة بالإجماع . وبدون شك ، نتجت عن الاجتماع مبادرة تطويرية جديدة ، وتم تشكيل لجنة لدراستها . ولحسن الحظ ، كانت رئاستها من نصيب زميل شعرت بالأسى له .
انتهى الاجتماع في الثانية بعد الظهر . قدت سيارتي عائداً إلى المنزل وأنا أشعر بالإحباط . وضعت «سي دي» في مسجل السيارة فغنى عبد الحليم «إني أغرق .. أغرق .. أغرق»!
نشب نزاع بيني وزوجتي ، حيث اتهمتني - كالعادة - بتقديم العمل على واجباتي الأسرية . كما وصفتني - وهي محقة - بالجُبن وعدم المقدرة على قول «لا» للمدير .
راجعت تقارير العمل ، ثم ذهبت للنوم - مثل الدجاج - في التاسعة كعادة موظفي الشركة . تمنيت ألا أستيقظ أبداً!
الجمعة:
لم أتصالح مع زوجتي ، وبالتالي لم أخرج معها ومع أطفالنا للنزهة كعادتنا . شعرت بغَمٍّ شديد طوال اليوم بسبب التفكير في ازدحام جدول العمل في الأسبوع المقبل . يا إلهي .. الشركة لا تكتفي بما تأخذه من جهد الموظف المسكين أثناء وقت الدوام ، بل تزيد بأن تجعله يفكر بالعمل بعد الدوام ، وفي العطلة الأسبوعية ، بل وفي النوم أيضاً! صحيح أن الشركة تدفع لنا رواتب مجزية ، وتهبنا مميزات مهمة مقارنة بالحكومة ، وتهتم كثيراً بالتدريب ، ولكنها تسلب منا بكل قسوة «راحة البال» ، وتستهلك بدون رحمة إكسير حياتنا .. «الوقت»! فمن هو الدائن .. ومن هو المدين؟!
حاولت القيام بالشيء الوحيد الذي أعشقه .. القراءة ، ولكنني أخفقت في فهم خمس صفحات من مسرحية «الزنوج» لجان جونيه لانعدام التركيز . تمنيت أن أمسك بتلابيب الزمن وأكتم أنفاسه حتى لا ينتهي ال «ويك إند» .
بدأت أداعب بعض الأفكار في ذهني ولكنني أحسست أنها تابوهات لم يجرؤ عليها أحد من قبل! أخيراً .. قمت - بعد تردد - بكتابة هذه السطور في دفتر يومياتي وأنا أهمس: هيا .. اكتب .. اكتب .. نحن في عصر الإصلاح والحوار الوطني وحقوق الإنسان والانتخابات .. اكتب .. اكتب .. إنهم متعلمون ويؤمنون بالديمقراطية والحرية .. وإذا غضب القلة فيمكنهم اعتبار كلامي - على الأقل - «رأياً آخرَ» مثل آراء الآنسة الشريرة كوندي رايس التي «يُنصت» إليها الجميع - بكل احترام – وهي تحاضر بخصوص الحاجة للإصلاح في المنطقة!
أخيراً .. خرجت لأمارس رياضة المشي حول مسجد العيد بالدمام كعادتي بعد أن نزعت الساعة من معصمي حتى لا أعلم كم بقي من الوقت على بداية «أسبوع رديء آخر»!
نوفمبر 2004..
[email protected] mailto:[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.