تعيش بعض المهن التقليدية أيامها الأخيرة، بعدما داستها عجلات التطور. هنا ثلاث حالات يعيش أصحابها حقيقة السير نحو انقراض الحرفة بعيون مفتوحة. في العاصمة الاقتصادية نترصد كاتبة عمومية بآلة «الداكتيلو»، إضافة إلى «كراب» و«خراز» تقليدي. وهذه أحاسيسهم ورؤاهم، وقناعاتهم أيضا. وجوههم مختلفة لأنهم لا يتشابهون، وهذا أمر عادي لأن لا أحد في هذا العالم يشبه الآخر، حتى التوأم. لكن ما يجمع بين ليلى، الكاتبة العمومية، وعيسى تميم، «الكراب»، وعبد القادر، «الخراز»، هو أن هؤلاء الثلاثة احترفوا مهنا انتهى عمرها الافتراضي، وصارت جزءا من الماضي، لا تسمن ولا تغني من جوع، والرابط الوحيد بينهم هو أنهم يحبون ما يقومون به، ولا يعرفون القيام بعمل آخر غير الذي يحترفونه، وليسوا على استعداد أبدا لترك هذه المهن، ومن هنا يبدؤون جميعا الحديث عن مهنهم التي ستنقرض بعد حين. كاتبة عمومية «طططق..ططق..طق»، هكذا ينبعث صوت الحروف المرقونة على آلة «الداكتيلو» القديمة، ذلك الصوت المزعج الذي ارتبط بفعل الزمن بمخافر الشرطة وبالتحقيقات البوليسية. أنامل امرأة في عقدها الثالث تضغط بقوة على لوحة الكتابة لتخرج الحروف واضحة للعيان. بخفة ورشاقة مثيرتين تكتب «ليلى» نص شكاية سطرا بسطر دون عناء النظر إلى لوحة الرقن، وقبل أن تنهي سطر الشكاية الأخير تبتسم وتعلق بلا تردد: «أنا أحب وأعشق هذه المهنة ولن أتخلى عنها أبدا». في محلها الصغير المتواجد في زقاق صغير وراء «المحكمة الابتدائية قضاء الأسرة» بالحبوس بالدارالبيضاء، تنزوي ليلى بأقصى ركن في المحل: مكتب صغير بدأ يفقد لونه من أثر الزمن عليه، كرسي حديدي بغطاء صوفي، صورة ملكية تتوسط الحائط المقابل لباب المحل، وآية الكرسي على الحائط المقابل، المكتب تملأه بعض الأوراق القانونية التي تعتلي صفحاتها عبارة «المملكة المغربية»، وبقرب آلة الرقن وضعت ليلى نسخة من كتاب «مدونة الأسرة»، يبدو من شكله الخارجي أن صاحبته تفتحه باستمرار. «إنه أمر طبيعي ما دمت أشتغل بجانب محكمة قضاء الأسرة وبالتالي كل ما أكتبه من شكايات والتزامات ومحاضر يتعلق بهذا الموضوع ويجب أن أكون على اطلاع»، فكرة منطقية. الجميع في «محكمة الحبوس» وحولها يعرف الكاتبة العمومية البشوشة، التي تفتح محلها على الساعة التاسعة صباحا، وتوجه التحية لكل رواد المكان من أصغر حارس سيارات إلى أكبر عون قضائي، «إنها هكذا تتحرك بخفة ورشاقة وتضحك مع الجميع، دون تصنع أو تمثيل»، كما يصفها أحد حراس السيارات قرب باب المحكمة، وبين سطور الشكايات والمحاضر ترفع ليلى رأسها بين الفينة والأخرى لتطلب من الزبون معلومات إضافية حول قضيته، ثم تعود إلى الرقن بقوة على «الداكتيلو»، بأصابعها التي تخلصت من أظافرها «لأنه لا يمكن الرقن على هذه الآلة بأظافر طويلة لأنها ستتكسر لا محالة، حيث إن الرقن على الداكتيلو يتطلب قوة كبير، في الضغط عكس الحاسوب». كان أول يوم تضع فيه ليلى أصابع يدها على آلة «داكتلو» هو يوم من أيام سنة 1995، بعد أن قامت بالتسجيل في مدرسة لتعليم الرقن على هذ الآلة، وبعد سنتين من الدراسة في شعبة الحقوق، وتضيف ليلى: «بعد أن حصلت على دبلوم الرقن على هذه الآلة اشتغلت كمساعدة في مكتب أحد المحامين هنا بالدارالبيضاء وهناك بدأت أتعرف على كيف تجري الأمور في الواقع»، وبعد سنوات من العمل مع المحامي ستقرر الكاتبة العمومية البشوشة فتح محلها الخاص «لقد كان ذلك ضروريا بالنسبة إلي». لكن عمل ليلى اليوم لا يقتصر على الرقن ولكن «محترفة الداكتيلو» تجاوزته إلى تقديم استشارات قانونية للعديد من الزبائن، وكما توضح بنفسها: «لقد أصبحت أقوم بذلك بفعل التجربة فقد قضيت 13 سنة في هذه المهنة». وحين تنهي هذه العبارة تبتسم كما العادة، تعتدل في جلستها، وتعيد ترتيب حجاب شعرها، ثم تستمر في كتابة الشكاية على وقع نفس الصوت المزعج «ططق..ططق..طق»، وحين تنتبه إلى وقع الصوت تعلق: «هكذا أمضي يومي مع هذا الصوت وأحمل هذه الطقطقة حتى في أحلام نومي لكني تعودت عليها». «إنها كاتبة عمومية لطيفة ومحترفة»، هكذا وصفها أحد زبائنها الذي جعلها كاتبته العمومية المفضلة منذ ما يقارب السنتين، ويضيف خرصان محمد: «إنها تعرف كل شيء في مدونة الأسرة لذلك فكل المذكرات والشكايات التي كتبتها لي كانت في محلها». تشكره ليلى على هذا المديح معلقة بتواضع واضح: «أنا أقوم بعملي فقط»، لكن محمد لم يتوقف وأضاف: «إنها تقدم المساعدات للجميع وفي بعض الأحيان لا تطلب المقابل إذا كان الشخص لا يقدر على الدفع، وتقبل بما يعطى لها: 20 درهما، أو 30 أو 40». مهنة «الداكتيلوغراف» أو الكاتب العمومي هي من المهن القديمة، التي بدأت تختفي بفعل الهجوم الذي شنه الحاسوب الإلكتروني عليها، وهو ما أدى بالعديد من محترفي هذه المهنة القديمة إلى التخلي عنها، أو استبدال آلة «الداكتيلو» العتيقة بالكمبيوتر الحديث، وهنا تعلق ليلى: «بالفعل فقد عوض الحاسوب آلة الداكتيلو لكن مهنة الكاتب العمومي لازالت متواجدة»، ترقن بعض الكلمات بسرعتها المعتادة، لتضيف: «لكن في الحقيقة هذه الآلة تعيش سنواتها الأخيرة، وبدوري سأنطلق في تلقي دروس لتعلم استعمال الحاسوب»، هنا تنتهي ليلى من كتابة الشكاية، وتتوقف الطقطقات، ثم تتسلم أجرتها وتتبعها بابتسامة وعبارة: «الله يعاونك آسيدي». المهنة: «كراب» قريبا من مركز العاصمة الاقتصادية، يقف عيسى تميم، بائع المياه، أو «الكراب»، كما يناديه كل المغاربة. إنه هناك، أمام نافورة شارع محمد الخامس، يقف تحت سماء هذا اليوم المشمس منذ العاشرة صباحا. ينتظر العطشى بعباءته الحمراء الفاقعة، وطربوشه البلدي المزخرف، وجرسه النحاسي الرنان، ومحفظته الجلدية التي يضع فيها ما يجود عليه به المواطنون. وفي الجانب الآخر يعلق حافظة الماء المصنوعة من جلد الماعز، والمتصلة بصنبور نحاسي. «أمضيت أكثر من 30 سنة في تكرابت، ولا زلت أمارس هذا العمل»، كان هذا أول تعليق نطق به عيسى، الذي ولد سنة 1962 بأحد دواوير دكالة واحترف مهنة بيع الماء وعمره لا يتجاوز 18 ربيعا. عيسى كان الوحيد، من بين «كرابة النافورة»، الذي وافق على التحدث إلى «المساء»، ولأجل ذلك اختار مكانا وراء النافورة الضخمة، بعيدا عن الأنظار، وقبل أن يوافق على التحدث قال: «كنت دائما أرفض التحدث إلى الصحفيين لأنهم لا يريدون إلا مصلحتهم وبعد نهاية الاستجواب يرحلون وأنا لا أربح شيئا»، أنهى هذه الكلمة ب«الحمد لله على كل شيء». «أنا كراب منذ سنوات، وقد طفت كل أنحاء المغرب من الشمال إلى الجنوب وأمضيت حياتي أوزع الماء على الناس»، يحكي عيسى، بكلمات رزينة وبدارجة مغربية تختلط فيها جميع لهجات هذا البلد، ويتذكر كل المناطق بأحيائها وسكانها ولغاتها وعاداتها: يتذكر زاكورة، وطنجة، ومراكش، والناظور، والرباط، والشاون، والراشيدية... وحين ينهي سرد كل المدن التي اشتغل بها يضيف قائلا: «كنت أعشق التجول والترحال كالمجنون»، وهنا يتوقف عن التذكر وعن الحكي ويسلم كوبا من الماء لأحد الأطفال الذي كان يلعب كرة القدم بجوار النافورة، وبدوره كان الطفل مؤدبا وشكره قائلا: «شكرا آبا تميم»، وغادر مسرعا ليكمل المباراة. يعود عيسى إلى مكانه ويجلس على العشب ويستمر في السرد: «لقد صبرت كثيرا لأننا لا نجني في هذه المهنة المال الكثير»، هذه الفترة التي يتحدث عنها عيسى كانت في بداية الثمانينات، حينها كان هذا «الكراب» لايزال شابا يافعا وقويا. وهو عكس العديد من «الكرابة» لم يرث المهنة عن والده أو جده، كما أن لا أحد من عائلته كان يحترف هذا العمل، إنه الوحيد في أفراد أسرته الذي امتهن «تكرابت»، «لقد تعلمت الحرفة في مراكش على يد العديد من المعلمين والحرايفية القدامى» يوضح عيسى تميم «الكراب». «هذه المهنة أخذت من عمري ثلاثين سنة بدون انقطاع»، يؤكد عيسى مرة أخرى فيما يشبه الندم، لكنه يستدرك بسرعة الكلمة الأخيرة، بارتياح واضح: «لم أندم على أي شيء إنها المهنة التي أكلت وعشت بفضلها»، وفي تلك الأثناء ترتخي عضلات وجه بائع الماء المتجول، الذي يبلغ من العمر 46 سنة، وتبرز بوضوح تجاعيد السنين على وجهه، وتظهر الشعيرات البيضاء القليلة التي بدأت تكسو شعر لحيته الكثيف، كما تظهر آخر الأسنان المتبقية في فمه، والتي تسوست جميعها بفعل السجائر التي بدأ تدخينها منذ أيام شبابه الأولى. لكن عيسى «الكراب» يعترف في نفس الوقت بأن «هذه الحرفة لم تعد تساوي اليوم أي شيء والعديد ممن كانوا يحترفونها تخلوا عنها»، أما البقية القليلة التي ما زالت تمارسها، يضيف عيسى: «فقد تحولت إلى مجرد ديكور يتم عرضه للسياح الأجانب وهؤلاء هم من ينقذوننا يوميا من الإفلاس والجوع»، لكن في المقابل فإن عيسى يطمئن نفسه بجملة واحدة ظل يرددها طيلة اللقاء: «إنها مهنة لا نأخذ منها كثيرا من المال ولكن نأخذ منها الأجر من الله سبحانه وتعالى لأننا نروي العطشان»، وهنا ينصرف تميم عيسى لصلاة العصر. المهنة: «خراز» أمسك الحذاء الأسود بعد أن جف اللصاق من على الكعب، ثم وضعه على السند الحديدي وبدأ يثبت الكعب الجديد بالمسامير السوداء الصغيرة، وحينها علق قائلا: «صعب جدا أن تشتغل بعد أن تغادر السجن». نطق بالعبارة الأخيرة بحنق شديد، وضرب بشدة رأس المسمار الحديدي بمطرقة جعلت المسمار يعوج قبل أن يدخل في كعب الحذاء الأسود. عبد القادر، قصة أخرى ومهنة أخرى، إنه رجل يبلغ من العمر 35 سنة، منذ سنتين وهو يشتغل «خراز» بحي «الألفة» بالدارالبيضاء، مباشرة بعد مغادرته السجن في يونيو 2005. إنه إسكافي على الطريقة القديمة، بذلك السندان (العمود الحديدي الذي يضعه بين رجليه)، وبتلك «الكولا» (لصاق) ذات الرائحة القوية، وبالمقص الحديدي الضخم الذي يستعمله لقطع الجلد، وأيضا تلك الإبرة الطويلة التي يرقع بها الأحذية، التي فقدت بعضا من لمعانها من كثرة المشي والاستعمال، وإلى جانبه علبة المسامير الصغيرة، ووراءه عشرات الأحذية التي ينتظر بيعها لأقرب زبون وبثمن مناسب. «لقد قضى علينا الإسكافيون الجدد» أو «الخرازة الجدد»، كما هو متعارف عليه لدى أبناء الحرفة، هكذا وصف عبد القادر الوضع الحالي الذي يعيشه العديد من «الخرازة» في الدارالبيضاء. رفض عبد القادر أن تلتقط له أية صورة، لكنه لم يرفض الحديث عن مهنة قديمة في المغرب، والتي تعلمها من والده مذ كان طفلا، «لقد نسيت السجن ومشاكل الماضي وأنا اليوم متزوج ولدي طفلة اسمها حنان» يقول عبد القادر، ويستطرد: «لقد دخل إسكافيون جدد، بمحلات ضخمة وآلات جديدة، يقومون بنفس ما نقوم به ولكنهم يصممون ويصنعون الأحذية أيضا وهذا هو الفرق بيننا فقط». في الماضي كان «خراز الحومة» من ضروريات أي حي في المدينة، «لكن اليوم صارت بعض الفتيات يخجلن من الذهاب إلى المحل البسيط للخراز ومن أن يكتشف الناس أنها ترقع حذاءها عند الخراز.. وحتى الرجال ياحصرة»، يوضح عبد القادر، وهذا هو الأمر الأساسي: «الذي يؤثر علينا نحن الخرازة القدامى، لأنه ليس لدينا محلات متطورة وجميلة المنظر»، يضيف هذه الكلمات ويأخذ نفسا آخر من لفافته، وفي عز النشوة يقول بلهجة مغربية شديدة: «مشات يام زمان.. وحتى تخرازت غادي تمش»، ويصمت.