تعد الصناعة التقليدية من بين أهم القطاعات التي تقوم عليها الحركية الاقتصادية بمدينة فاس، بل ومن أهم المكونات التي تطبع الهوية الفاسية على أكثر من صعيد. وقد شكلت منتوجات الصناعة التقليدية أحد أوجه تسويق المدينة سياحيا وأحد المجالات التي يعول عليها في أي مشروع تنموي يهم ساكنة فاس، إلا أن هذا القطاع يعيش مشاكل عديدة. على الرغم من تدخلات عديدة مازال الصناع التقليديون يعتبرون أن قطاعهم تطبعه الفوضى والمعاناة، وهو ما يدفع بالتميز الإبداعي في المجال إلى الضمور تدريجيا استجابة لمنطق السوق الذي يكرسه أصحاب «الشكارة» والمتطفلون وكل الصاعدين ماديا ورمزيا على حساب الصانع التقليدي وباسمه. مجال مهمش «الصناعة التقليدية مجال مهمش، ويتم دفعه نحو الخراب بسبب الإساءة إليه من طرف المتطفلين، وغياب تنظيمه وعدم تدخل الدولة لدعم ومساعدة الصناع الحقيقيين»، إنها أهم خلاصة يمكن الخروج بها بعد الاستماع إلى أهل المجال من كل الحرف، سواء تعلق الأمر بالحياكة التقليدية أو الدباغة والجلد أو النسيج أو الزليج البلدي أو الصناعة المعدنية أو الخشبية أو الطينية... بالإضافة إلى الصناعة التقليدية الخدماتية. لقد سمح هذا المجال بتوفير فرص عمل هائلة منذ وجوده، مما يسمح دوما بإبراز الإبداعية المغربية من خلال منتوجات عديدة من قبيل الزرابي والأواني الخزفية والقناديل والبوفات الجلدية والقلادات والجلابيب والأحذية والمطروزات والعديد من الألبسة ومكونات الديكور والإكسسوارات. ويتم تعريف الصناعة التقليدية باعتبارها كل نشاط يأخذ بعين الاعتبار تدخل الإنسان، حيث لا يتم تعويض العمل اليدوي، ويهدف أساسا إلى الإنتاج عن طريق تحويل المواد الأولية إلى منتجات وسلع مصنعة أو نصف مصنعة، يمكنها تلبية حاجيات نفعية أو وظيفية أو تزيينية، والتي تتميز بطبيعة خاصة وتحمل طابعا فنيا مستوحى من الهوية والتراث الوطنيين. وتعيش الآن الأسر من العلاقات الصناعية أو التجارية أو الخدماتية المرتبطة بهذا القطاع، إلا أن الوضع الحالي للمجال يهدد خبزهم وسعادتهم، لهذا ستختلف نظرتك إلى المعروضات التي تصادفها في متاجر فاس أو في أمكنة أخرى كلما استمعت إلى جزء من أحزان أصحابه، فيما الإنصات إلى كل الأحزان سيؤكد أن القطاع يسير إلى الأفق المسدود. بالنسبة إلى نور الدين، معلم نحاسيات، مشاكل الصناعة التقليدية متعددة، ووضع الصانع مهمش، ونحن نريد أن يكون صوته مسموعا في الأول وقبل الجميع. وأهم مشكل في المجال هو دخول بعض المحتكرين الكبار لأكثر من قطاع وفرضهم لمنطقهم على الحلقات الضعيفة وهي الصانع. ففي صناعة النحاس مثلا حين تذهب عند تاجر المواد الأولية لا تجد لائحة الأسعار، كما عند البقال، وما قد تشتريه اليوم بدرهمين قد تشتريه غدا ب10 دراهم. والكثير من المنتوجات لا يبيعها لصاحب الشكارة وقت الاحتياج حسب جودتها وقيمتها وما أنجز فيها من إبداع، بل حسب وزنها وكأنه يشتري منك المادة الأولية فقط، أي النحاس، وهذا مؤلم لنا خاصة نحن الذين قضينا جزءا من شبابنا في تعلم هذه الحرفة، واستفدنا في تكوين سنتين في المجال. إن الإبداع والابتكار شيء لا يعترف بقيمته، وهذا ما لم يكن سائدا من قبل، وذلك لأن الذين يتحكمون في المجال عندهم «الشكارة» فقط ويهمهم الربح وليس الجودة والإبداع واستمرار البعد الفني والرمزي المتميز للمنتوجات التقليدية. أكثر من هذا –يضيف نور الدين- المجال دخلته أموال غير نظيفة، وشخصيا جاء عندي شخص التقيته في منطقة خارج فاس واقترح علي أن يمنحني 30 مليون سنتيم وقال لي: «أنت كون معلم على 30 ديال الناس وأنا نكون معلم عليك»، وذلك من أجل تمويل محل أشغل فيه الناس وأوفر المواد الأولية لتصنيعها ثم أبيع المنتوج، ويكون كل هذا في الأخير لصالحه، لأن ما يرغب فيه ليس الاستثمار بغاية خدمة المجال أو لارتباطه به، بل لأنه يسعى إلى تبييض أمواله في الصناعة التقليدية من خلال مجهود الصانع التقليدي. وهذا سيحصل كثيرا ليس في الصناعة النحاسية فقط بل في صناعات أخرى كذلك». المصنوعات النحاسية ومصنوعات باقي التخصصات تبدو أنيقة وجاذبة، وهي معروفة داخل محلات بيعها أو في استعمالها من طرف من اشتراها، إلا أن تحولها بهذه الصيغة يحتاج إلى الكثير من الجهد والعرق والعمل المضني الذي قد لا يكون كافيا لتوفير خبز الصانع، وهذا هو حال صناعة الجلد التي تبدأ بحلقة جد مهمة وهي الدباغة، فقبل أن يلبس الجلد سترة أو حذاء وقبل أن يلبس حافظة الأوراق أو محفظة لابد أن يمر عبر مراحل عديدة منها التنظيف والدبغ أساسا. دباغة جلد البقري بفاس توجه ثلاث دور لدبغ الجلود بكرنيز وسيدي موسى، وأكبرها دار الدبغ شوارة، ويسميها الصناع دار الملحة ويقولون إن لها بركة، ومن دخلها غير صادق أو من أجل السرقة يصاب في صحته أو ماله أو أبنائه، لهذا لا تسجل حالات للخيانة إلا نادرا، ويكفي المعلم أن يضع إشارة بموسى الحلاقة على جلوده حتى يميزها عن باقي الجلود الأخرى، ولا أحد سيأخذها بالقطع. المكان من فوق يبدو بمثابة لوحة مثيرة. ألوان بيضاء وحمراء، وحركات نازلة وصاعدة للعاملين هناك تعطي طابع الحيوية للمكان، وناس بسراويل قصيرة، محزمين، كما يقولون هناك، يحملون الجلود أو يدقونها في أحواض تسمى القصاري أو المجاير. وتقطع الجلود ما يقارب 60 يوما منذ شرائها من سوق باب العجيسة وعند وصولها إلى دار الدبغ تغسل أولا من طرف عمال خاصين في الوادي، ويسمون الكلاطة، ثم تنقع في صهاريج مملوءة بالماء والجير ومواد خاصة يسمونها «السم» بغاية إزالة الشعر عنها، ثم تغسل في محل خاص، حيث توضع داخل آلة، ويؤدى عن تشطيف حوالي 50 بطانة 100 درهم، ثم تنقل إلى أحواض ثانية بها ماء وغبار هو عبارة عن «بزق» الحمام، يسمى «الزبل» لمدة من الزمن، ثم يحول إلى حوض ثالث مملوء بالنخالة، ليصل في الأخير إلى أحواض الدبغ، حيث ينقل منها إلى داخل المحلات بغاية تصديرها أي تنقيتها لتعود مجددا إلى الدبغ. وكلما بقيت الجلود مدة أطول في كل هذه العمليات كانت جيدة. وبعد الانتهاء من كل هذا يكون قد مضى عليها ما يقارب ستين يوما، وهنا فقط تكون جاهزة للتسويق لأجل تصنيعها من طرف حرفيين آخرين كانوا في السابق يؤدون أثمنة ما يريدون شراءه مسبقا، وكان المعلم الدباغ هو الذي يذهب للبحث عنهم في السوق أو حسب معارفه في المجال. في هذه المراحل يتم تشغيل عدد مهم من المعلمين والمتعلمين، إلا أن معظمهم يبدد صحته بسبب برودة الأحواض واتساخ العمل، خاصة في الأوقات الباردة. وبالنسبة إلى محمد الشفيني: «الوضع يسير دائما نحو الأسوأ، فالحركة ليست على ما يرام، وقد تراجعت عما كانت عليه سابقا. ما أحصل عليه لا يكفيني دائما لتلبية احتياجاتي واحتياجات أسرتي، على الرغم من أن عملي أفضل من العمل داخل الأحواض. عملي الآن هو التصدير، حيث أضع آلة حادة كبيرة وأنقي بها الجلد عبر دفعها بيدي وصدري. اشتغلت سابقا في الأحواض لمدة سبع سنوات، وكنت أصاب ببعض الأمراض أحيانا، وهذا يحصل للجميع، وإن كانت لك إمكانيات تعالج نفسك وإن لم تكن لك تدعو الله وتنتظر رحمته. هنا نشتغل بالقطع وليس كمياومين. كل من يشتغل في الصباح يأخذ مقابل ذلك في المساء، إلا أن المشكل هو أنه أثناء المرض أو الاحتياجات الطارئة والمفاجئة تكبر معاناتنا». الجميع في المكان يشتكي، أكان معلما أو متعلما، فبالنسبة إلى المعلم محمد: «المعلم الآن في المجال لا يمكنه أن يتحصل على ربح لو لم يشتغل بنفسه». انتهت –بالنسبة إليه- صورة المعلم بملابس نظيفة يقف فقط ليعطي الأوامر ويراكم الأرباح. يقول: «أنا هنا في هذه المهنة منذ 1966، بدأت بمهام بسيطة حين كنت طفلا إلى أن صرت معلما في المجال، أشتري الجلود من السوق، ويكون ذلك بعد الاتفاق مع الدلال على ثمن القطعة الواحدة، ثم يعمم الثمن على خمسين أو مائة قطعة. لقد امتلأ المجال بالقادمين إليه، ولم تعد هناك أسواق بيع المنتوج. فيما سبق كنا نبيع الجلد خارج الوطن، لكن الآن الطلب قل كثيرا، وما يقلقنا أكثر هو أنه ليست لنا لا نقابة ولا تأمين ولا تغطية صحية، فهناك من اشتغل طيلة عمره في القطاع وحين مات لم تجد أسرته المصروف الكافي لإقامة الجنازة. فالكثير من الحرفيين تجمع لهم مساهمات بعد موتهم أو أثناء مرضهم. مطالبنا هي توفير أسواق لبيع منتوجنا، لأننا لا يمكن أن نطالب بتطوير هذه الصناعة لكون ذلك سيفقدها خاصيتها الأساسية، وهي الجانب التقليدي. حتى الغرفة -يقول المعلم محمد- لم نتمثل فيها، والأمين أصابه العياء والمرض بسبب شيخوخته، وما نعاني منه أكثر هو ارتفاع سعر المواد الأولية». احتكار المواد الأساسية التي يحتاجها دبغ الجلود هي مادة تستخلص من بعض النباتات والأشجار حيث يتم تجفيفها وطحنها، وكانت هذه المادة سابقا نستورد من البرازيل، إلا أن ثمنها لم يكن يتجاوز درهمين، أما الآن فثمنها وصل إلى 10 دراهم. وحسب أحد المعلمين: «المادة محتكرة من طرف قلة من الأشخاص، حوالي ثلاثة أو أربعة في كل المغرب. في السابق كانت هناك تعاونية خاصة بنا إلا أنها أفلست. وقد طلبت من الجهات المعنية تأسيسها من جديد، إلا أن الإمكانيات تخوننا. فأغنى واحد هنا يصل رأسماله إلى 30 ألف درهم، وإن ساهم به في التعاونية سيفرط في رأسماله الوحيد الذي يروج به في المجال. إن تهييء جلدة واحدة يتطلب ما يقارب 100 درهم، وإذا أضفنا ذلك إلى ثمن شرائها يعني أن هامش الربح يبقى ضعيفا للغاية، ولهذا بقينا نحن في المجال ولم نرغب في التحاق أبنائنا بنا، لأن دخولهم إلى مجال دباغة الجلود يعني تشجيعهم على دبغ جلدهم أولا قبل دبغ جلد الخروف أو البقري». دبغ الجلد يتوضح أكثر من حكايات العاملين في المجاير والتكلاط والدبغ، خاصة أولئك الذين أصيبوا في حوادث أو أقعدهم الروماتيزم وأمراض أخرى لفترة طويلة بسبب عملهم هذا. منظرهم يدل على بؤسهم وصعوبة عملهم، لكننا قد نقول إن طبيعة المهنة تتطلب أن يكونوا على تلك الحالة، إلا أنه لو كانت إمكانياتهم تسمح لوفروا ملابس مناسبة للعمل ولتجنبوا الكثير من مسببات المرض. نور الدين من بين العاملين في المجاير والأحواض يلبس سروالا قصيرا وقميصا بدون أكمام، يطير الأسى من عينيه وهو ما يرغب في توضيحه حيث يقول: «أعمل هنا منذ سنين. البرد يسكن عظامنا، وأحيانا نسقط في أحواض الجير فتسلق جلودنا أو نصاب بكسور وكدمات، والمشكل أنه ليس لنا الحق في التغطية الصحية ولا في أي شيء، وأنا شخصيا لا يمكن لي أن أقبل أن يشتغل أبنائي في هذه المهنة». مهن ومشاكل مهن عديدة تميز القطاع وتراكم ملامح إبداعيته، إلا أن الفوضى وعدم التنظيم وتدخل متطفلين وسلبيات أخرى تخنق حيويتها. فالإحساس الطاغي عند الغالبية هو إهمالهم من طرف الوزارة المعنية، بل من طرف ممثليهم في غرفة الصناعة التقليدية، وكل من له مسؤولية على المجال. بالنسبة إلى حميد نشيط -صانع للزليج البلدي- حين تكون أي مناسبة محترمة وكبيرة وذات قيمة، نشاهد التلفزيون يصور الناس مع الفسيفساء وعناصر الصناعة التقليدية، إلا أنه خارج هذا ليس هناك أي اهتمام بالصانع التقليدي. الصنعة جيدة في أصلها لكن الصانع يتم إفناؤه. والذي يسيء إلى المجال هم أصحاب رؤوس الأموال الذين يتحكمون في السوق وفي المواد الأولية. فنحن كصناع للزليج البلدي نعيش وضعا كارثيا، لأننا لا نمتلك أفرانا لتوفير المادة الأولية لعملنا، وهناك فئة محدودة من المستثمرين في المجال يحتكرون السوق، إلا أنهم يقررون زيادات مستمرة في ثمن الزليجة التي كنا نشتريها ب85 سنتيما، والآن وصلت إلى حدود 36 ريالا. والمشكل الذي نعاني منه هو أننا كمعلمين نتفق مع أصحاب المنازل على إنجاز عمل معين بثمن محدد بناء على ثمن الزليجة الواحدة ذلك اليوم، إلا أننا بعد بداية العمل نفاجأ بزيادات كبيرة، وهذا ما لا يتفهمه صاحب المنزل الذي كنا قد اتفقنا معه، وهنا يكون علينا إما إنهاء المهمة وتحمل الخسائر، وإما تعويض صاحب المنزل. إن الزيادات في المجال يجب أن تكون مبررة ومبرمجة باتفاق مع المعلمين، وهذا ما لا يتدخل من أجل حله أي طرف. فالآن نجمع عرائض موقعة من طرف كل معلمي الزليج التقليدي لمطالبة الجهات المعنية بالتدخل لإنصافنا. الواقع هو أن أصحاب المال يشتغلون والمعلمين كيتقطعو، ومطلبنا الأساسي -يقول حميد- هو تقنين الزيادات لأنها تضر بدخلنا الضعيف أصلا، كما يهمنا أن يتم تنظيم القطاع لكون العديد من المتطفلين يترامون على القطاع دون معرفة به، بمن في ذلك بعض أصحاب البازارات والمصنعين لمادتنا الأولية». التطفل الذي أضر بصناعة الفسيفساء هو الذي يضر أيضا بمجال الخرازة الذي هجره الكثير من المعلمين، حسب محمد الكعدودي، فالملاحظ، أن بطاقة الصانع تمنح للجميع حتى للذين يسيئون إليها، فالصانع الآن لا يساوي أي شيء. وحسب أحد أبناء المجال فإن «الصانع التقليدي أسهل واحد للابتزاز وكلمته غير مسموعة، وحين توقفه دورية الأمن ويعطيهم بطاقة وطنية تحمل مهنة صانع تقليدي يقولون له: اطلع، كما لو أن المهنة أصبحت تهمة». الفوضى هي ما يميز المجال، حسب هذه الشهادة، وعلى الرغم مما يقال عن خدمة السياحة للصناعة التقليدية فالمجال شبه محتكر من طرف البعض، والقطاع يقتله السماسرة ومول الشكارة وعدم التنظيم وعدم وجود رغبة حقيقية للنهوض به من طرف المسؤولين، لهذا ستضيع إبداعية الندرة بطوفان المعاناة والفوضى.