تمثل الأزمة المستمرة في مصر بين المؤسسة العسكرية وحركة «تمرد»، من جهة، وجماعة الإخوان المسلمين، من جهة ثانية، اختبارا حقيقيا لشعارات و تطلعات ما سمي بالربيع العربي بعد نحو عامين على انفجار المنطقة العربية، الذي أطاح ببعض الأنظمة السياسية الحاكمة. فالملايين التي خرجت إلى الشوارع العربية مطالبة برحيل الأنظمة الحاكمة كان من جملة مطالبها إرساء نظم ديمقراطية جديدة وتحقيق الحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والعدالة والكرامة ومحاربة الفساد. وتشكل شعارات التظاهر في الشوارع العربية خلفية أساسية في فهم جزء مما يجري اليوم في مصر. ذلك أن الاحتجاج على الاستبداد والحكم الشمولي والاستفراد بالسلطة ظل كامنا في اللاوعي الجماعي لدى المواطن المصري الذي أسقط نظام حسني مبارك، ومن ثمة بقيت الحساسية من تلك الظواهر السياسية قائمة حتى بعد إجراء انتخابات حرة فاز فيها حزب الحرية والعدالة المقرب من جماعة الإخوان المسلمين. إذ وضعت تجربة حكم محمد مرسي خلال سنة ونصف من وجوده على رأس الدولة تحت المجهر لقياس مدى البعد أو القرب من السمات التي ميزت مرحلة حكم حسني مبارك. وقد أدى الخطاب المروج عن الجماعة باعتبارها جماعة ذات فكر شمولي، بناء على أفكارها ومواقفها السابقة، دورا في تهييج المواطن المصري ضد حكم مرسي. وعلى الرغم من أن العملية الانتخابية تمت بتوافق بين مختلف الفرقاء السياسيين، وشهد لها بالنزاهة على المستوى العالمي، فإن ثقافة الغضب التي أخرجت الناس ضد حسني مبارك لم تمنعهم من الخروج أيضا ضد محمد مرسي، رغما عن تفاوت مدة الحكم بين الاثنين. وقد ساعد على الاحتقان الشعبي تراكم أخطاء محمد مرسي من ناحية، وتداخل سياساته مع مواقف جماعة الإخوان المسلمين من ناحية ثانية. وخلال عام من حكم مرسي توالت أخطاء استراتيجية لجماعة الإخوان نسفت بحكم الجماعة وقادت النظام المصري بقيادة مرسي إلى الهاوية. أخطاء لم تقتصر، حسب اتهامات المعارضة، على عدم قدرة جماعة الإخوان على احتواء القوى المدنية والليبرالية، بل تخطتها إلى سوء الإدارة ومحاولات الجماعة أخونة مؤسسات الدولة. خلال عام ونصف من حكم مرسي تم تسجيل عدة أخطاء اقترفها الرجل، سرعان ما أقر بها هو شخصيا ثلاثة أيام قبل تظاهرات 30 يونيو. فمنذ الشهور الأولى لتوليه الحكم بدأت الشقة تتسع بينه وبين الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، التي كالت إليه الاتهامات برغبته في «أخونة» مرافق الدولة والاستبداد بالسلطة. وكان من جملة المحتجين على سياساته رجال دين وأئمة وخطباء اتهموا جماعة الإخوان المسلمين بالطموح إلى التغلغل في أجهزة الدولة ومفاصلها، خاصة المؤسسات الدينية، حيث جرت مظاهرات معارضة لسياسة وزير الأوقاف طلعت عفيفي الذي اتهم بأخونة الوزارة والمساجد. واتسع الخلاف أيضا بين مرسي وحزب النور السلفي، الذي يقاسم جماعة الإخوان المسلمين نفس المرجعية، لدى إقالة مستشار الرئيس خالد علم الدين، عضو الهيئة القيادية العليا في حزب النور، مما دفع هذا الأخير إلى إصدار بيانات تدعم مطالب المتظاهرين في الميادين المصرية بعد ذلك. وعلى صعيد المؤسسة الأمنية، شكل إسراع محمد مرسي بإقالة وزير الدفاع المشير طنطاوي ورئيس هيئة الأركان الفريق سامي عنان ضربة قوية قضت على الثقة بين الجيش ومؤسسة الرئاسة. وتعتبر هذه الإقالة واحدة من الأخطاء الكبرى للرئيس المنتخب، لأنها مست هيبة المؤسسة العسكرية التي ظلت مركز العملية السياسية في التاريخ المصري الحديث منذ عهد محمد علي باشا في نهاية القرن التاسع عشر. فبالرغم من أن العملية مرت بسلاسة من حيث الظاهر، فقد خلفت لدى المؤسسة العسكرية شعورا بأن الرئيس الجديد يحضر لإبعادها عن مركز القيادة، وهو ما عزز القول بأن مرسي يعمل على أخونة الجيش، وبعث لدى قادة هذا الأخير الاعتقاد القديم بأن الإخوان المسلمين الذين كانوا في الماضي يسعون إلى التغلغل داخل العسكرية باتوا اليوم بعد تمكنهم من الحكم يعملون على وضعه تحت وصايتهم. ولا شك أن المؤسسة العسكرية، التي لعبت دورا في إبعاد حسني مبارك، كانت تريد الحفاظ على نفس الموقع الذي كان لها في الماضي، مع قبول التعامل مع رئيس جديد منتخب ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين. بيد أن قرارات مرسي أظهرت عدم تقديره للمؤسسة العسكرية وأدوارها السياسية والاجتماعية والاقتصادية في التاريخ المصري. فالجيش المصري ليس مجرد جيش للدفاع، كما يبين أنور عبد الملك في كتابه «الجيش والحركة الوطنية»، بل محورا رئيسيا لسلطة الدولة وأداة أساسية في الحفاظ على المشروع الوطني، زد على ذلك أن خصوصية الدور المصري في منطقة الشرق الأوسط جعلت الجيش جيشا قوميا، بسبب الصراع العربي الإسرائيلي. وعلاوة على هذه الأخطاء ارتكب مرسي أخطاء أخرى تجاه الصحافيين، مما ساهم في حشد حملة من النقد لسياساته، بعدما اتهمهم بانتهاك القانون ووصفهم بالمتهربين من الضرائب. غير أن الضربة الموجعة هي تلك التي سددها إلى المعارضة بمختلف أطيافها، بما فيها المعارضة غير المنظمة الممثلة في الشارع المصري، إذ لم يتردد محمد مرسي في توجيه انتقادات لاذعة إلى هؤلاء، واصفا الجميع بأنهم من فلول النظام السابق وممن ينفذون سياساته. وهكذا قسم مرسي المصريين قسمين: أتباع الجماعة وأتباع النظام السابق، إذ إن أي معارض لسياساته أصبح مطعونا في نواياه ومتهما بخدمة أجندة سرية ضد الجماعة، الأمر الذي كشف بالنسبة لخصوم مرسي وجود خطاب استعلائي تجاه مختلف الأطراف التي تعاكس خياراته. أما على صعيد التداخل بين حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين، فقد تبين أن هذا التداخل كان واحدا من عناصر الفشل في تجربة محمد مرسي. فقد اتهم الكثيرون هذا الأخير بأنه يدين بفوزه في الانتخابات إلى جماعته وليس إلى الناخب المصري، وبأنه يتلقى تعليماته من قيادة الجماعة. كما أن هذه الأخيرة تعاملت مع فوز حزب الحرية والعدالة على اعتبار أنه فوز لها هي وليس للحزب الذي لم يكن بالنسبة لها سوى واجهة سياسية تشتغل من خلاله. وأبانت الاعتصامات المؤيدة للرئيس المعزول بعد 3 يوليوز أن الجماعة هي التي تقود تلك الاعتصامات، وهو عنصر مقلق بالنسبة لخصوم تجربة حزب الحرية والعدالة الذين باتوا يرون أن حكم مرسي ليس سوى مشروع الجماعة بغلاف مدني. غير أنه بالرغم من هذا التشريح للوضع في مصر، ولحالة التباعد بين الرئيس المنتخب والمعارضة المصرية، فالذي يبدو هو أن الأزمة تعود في جوهرها إلى تدخل الجيش لعزل الرئيس محمد مرسي، لأن هذا التدخل أعاق المسار الصحيح الذي كان يتعين أن تسير فيه الأوضاع الداخلية بعد خروج الملايين إلى الشوارع يوم 30 يونيو الماضي. فحجم التظاهرات الذي كان ضخما وكان في البداية مظهرا من مظاهر الاحتجاج على رئيس منتخب وصراعا بين المعارضة والحكم، سرعان ما تحول إلى صراع بين الجيش والإخوان المسلمين، بسبب تسرع المؤسسة العسكرية في التدخل بدعوى التخوف من الانزلاق الأمني، مما جعل القضية تتحول من إسقاط الشارع للشرعية إلى إسقاط الجيش لهذه الشرعية، وبينما كان من المفترض أن تؤول الأمور لاحقا إلى تفاهم بين أطراف الصراع وتجاوز الأزمة، آلت في النهاية إلى الانقلاب على شرعية انتخابية وعودة الجيش إلى قيادة دفة الأمور بشكل صريح، الأمر الذي أعطى الأزمة في مصر طابعا من التعقيد والتشابك، ساعد مؤيدي محمد مرسي على التشكيك في تلك التظاهرات المليونية المعارضة، كون أن تدخل الجيش أظهر تلك التظاهرات كأنها متحكم فيها.