لا نعني هنا بأنصار الانقلاب فلول النظام السابق في ما يعرف بالدولة العميقة بكل مؤسساتها الأمنية والعسكرية والقضاء والإعلام، بل نعني أنصاره من القوى المحسوبة على خط الثورة (ثورة 25 يناير)، أو المستقلين من شبان الثورة والقوى غير الحزبية. بالنسبة إلى الفئة الأولى التي تنتمي إلى الدولة العميقة، فقد كانوا يعرفون منذ اللحظة الأولى ما يريدونه، وهم حين قادوا حملة الشيطنة للنظام الجديد منذ يومه الأول، وليس بعد فشله المزعوم، فقد كانوا يدركون تماما ما يفعلونه، وهم شطبوا مجلس الشعب، ولاحقوا الرئيس في كل الخطوات التي اتخذها من أجل الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، وعينهم مصوبة على إعادة الوضع إلى ما كان عليه بصيغة جديدة قديمة، لجهة سيطرة المؤسسة العسكرية على الدولة، مع استعادة ما كانت عليه من ديكور ديمقراطي يتمثل في مجلس شعب مدجّن، ورئيس من داخل الدولة العميقة يبقى وفيا لرموزها ومصالحها التي تراكمت بفعل الرئيس المخلوع في سياق من محاولته تمرير التوريث. لكن المأزق الحقيقي هو مأزق ما يعرف بالقوى الثورية بتنوعاتها المستقلة واليسارية والليبرالية والقومية، فضلا عن تلك المحسوبة على الإسلام السياسي مثل حزب النور ومصر القوية بزعامة أبو الفتوح. هذه القوى التي استُخدمت غطاءً من قبل الفلول في ما عرف بثورة 30 يونيو تجد نفسها منذ الآن -وسيتضح المشهد أكثر فأكثر خلال المرحلة المقبلة- أمام حقيقة الوضع الذي يصفعها بكل قسوة، وإن جاملتها القوى الأخرى في سياق من تمرير المرحلة الحرجة في ظل إصرار القوى المؤيدة للشرعية على الاحتجاج. حتى وقت قريب سيكون بوسع تلك القوى «الثورية» أن تحظى بكثير من المجاملة، كما حصل مع حزب النور عندما اعترض على تعيين البرادعي رئيسا للوزراء، وبالطبع من أجل ألا يسحب اعترافه بالانقلاب، وقد حظي الحزب بمجاملةٍ حتى من القوى المحسوبة على الثورة كما هو حال تيار حمدين صباحي الذي أوضح، بشكل غير مباشر، أنه يتحمل دلال الحزب بسبب ضرورة وجوده في العملية الانتقالية من أجل استمرار الحصول على شرعية إسلامية للانقلاب. والحق أن المشهد الجديد لم يكن خافيا تماما على القوى المحسوبة على الثورة، فهي كانت تدرك أنه لولا الفلول والدولة العميقة، ومن ضمنها الأزهر والكنيسة، ما كان لمشروع ثورة 30 يونيو أن ينجح، وهي تدرك ذلك إثر عجزها قبل ذلك التاريخ بأسابيع قليلة عن إخراج 10 آلاف إلى الشوارع فيما كانت تسميه مليونيات. لكن حجم الحقد الذي يتلبسها حيال الرئيس مرسي والإخوان كان يدفعها إلى تبرير كل شيء، والادعاء بأن هناك ثورة حقيقية اسمها 30 يونيو هدفها استكمال ثورة 25 يناير، وإن لم يكن التاريخ الأخير يعني بالنسبة إلى الفلول غير تاريخ أسود يُراد نسخه بكل وسيلة ممكنة. يعلم أنصار ما يسمى القوى الثورية بأن مانحي تلك المليارات التي تدفقت على النظام الجديد لا يلتقون أبدا معها في هدف استكمال ثورة 25 يناير التي سرقها الإخوان كما يزعمون، بل هي تدفع لأنها ضد الثورات وضد ربيع العرب، وتريد شطبه في محطته المصرية الأهم بالنسبة إلى العالم العربي، وذلك كي لا يتمدد إليها. وقليل من التأمل في تاريخ ومواقف الأنظمة إياها لا يدع مجالا للشك في حقيقة الهدف الذي تريده من وراء السخاء في الدعم، ولا قيمة هنا لمقارنته بالدعم القطري للثورة الأولى الأصلية (25 يناير) حتى لو زعموا أن له أجندة سياسية «كامنة»، والسبب أنه دعم شمل جميع الثورات دون استثناء، حتى لو قيل إنه شذ في الحالة البحرينية التي تنتمي احتجاجاتها إلى سياق آخر سابق على ربيع العرب، بصرف النظر عن مشروعيته كما يراه جزء معتبر من الشعب في البحرين. بعد قليل من الوقت، سيكون المشهد أكثر وضوحا وستستيقظ رموز القوى «الثورية» على حقيقة أن ما يريده الداعمون من الخارج، ومن أخرجوا لعبة ثورة 30 يونيو وأداروا دفتها، يتمثل في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. تحديدا إلى ما كان عليه قبل الثورة، ممثلا في نظام عماده ديمقراطية مبرمجة لا يمكن أن تكون ملهمة لشعوب الدول المانحة إياها، لأنها لا تعدو أن تكون ديمقراطية ديكور فيها انتخابات وبرلمان ورئيس منتخب، لكن القرار في نهاية المطاف يعود إلى الدولة العميقة التي تنسجم مع الوضع العربي التقليدي، ولا تُستخدم في التحريض على الثورات ولا تتبنى مصطلح الربيع العربي المستفز لتلك الأنظمة كونه يبشرها بحراك احتجاجي طال أحدها بشكل واضح خلال الشهور الماضية، وطالب ببرلمان حقيقي منتخب يشكل حكومة ويراقبها ويحاسبها في آن، أي ما يشبه الملكية الدستورية. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو ما الذي ستفعله تلك القوى «الثورية» إذا عجزت القوى السياسية المؤيدة للشرعية عن إعادة الرئيس المنتخب إلى مكانه، ومالت إلى القبول بالوضع الراهن مع محاولة تغييره بالتدريج؟ هل ستقبل بلعبة ديمقراطية الديكور إياها، وتمررها وترضى بما يجود به عليها قادة الوضع الجديد من حصة في الكعكة؟ أم سترفض ذلك وتميل إلى الاحتجاج من أجل تغيير المعادلة وفاءً لثورة 25 يناير؟! من الصعب القول إن القوى المحسوبة على ثورة 25 يناير، والتي دعمت الانقلاب ستتخذ موقفا موحدا من الوضع الجديد، فهي ستتباين كما وقع منذ الآن، فهذا البرادعي ينخرط في اللعبة، ويقبل بعد أن كان مرشحا لرئاسة الوزراء بمنصب نائب الرئيس الانتقالي لشؤون العلاقات الخارجية، في حين تعلن جبهة الإنقاذ رفضها للإعلان الدستوري الجديد، في موقف أقرب إلى رفع العتب، ثم تضطر إلى سحب البيان تحت الضغط وتتحدث عن ملاحظات سترسلها إلى الرئيس المؤقت حول الإعلان الدستوري، وتتحفظ عليه ما يعرف بحركة تمرد، بينما يقبل حزب النور بالحكومة الجديدة ويبدي استعدادا للمشاركة فيها، ربما لأن توجهاته تبدو أقرب إلى إحدى الدول الداعمة للانقلاب، وربما الدعم الذي يتلقاه أيضا. الأوفياء لثورة 25 يناير قد يتجاوزون لاحقا أحقادهم على الإخوان ويلتحمون بهم في سياق من النضال من أجل استكمال أهداف الثورة، بينما سيقبل آخرون بحصة ما من الكعكة يمكن منحهم إياها، بما في ذلك الانتخابات، لأن من العبث الاعتقاد بأن الانتخابات المقبلة ستكون نزيهة بالكامل. لكن إقناع الناس بالنزول إلى الشوارع لاحقا لن يكون سهلا، ومن غير المنطقي هنا الحديث عن تشابه معتبر مع التجربة التركية التي كانت، رغم انقضاض العسكر عليها بين حين وآخر، تشهد انتخابات حرة فعلا، وبقانون انتخاب معقول، في حين سيكون الحال هنا مختلفا من حيث القانون الذي سيفصّل، ومن حيث الإجراءات التي ستتبع وتكفل نزاهة العملية الانتخابية، أو تزويرها بتعبير أدق. المشكلة الكبرى التي ستواجه تلك القوى «الثورية» جميعا هي أن مجرد الحديث عن انتخابات نزيهة فعلا، وبقانون انتخاب عادل، ولو نسبيا سيعني أن الإخوان والقوى التي تقترب منهم سيحصلون على نسبة معتبرة، إن لم يحصلوا على أكثر من نصف المقاعد في مجلس الشعب، وربما تمكنوا من إنجاح رئيس يؤيدونه أو يطرحونه، وهو أمر قد يدفع تلك القوى إلى مجاملة الوضع الجديد، وربما السكوت على تجاوزاته في الانتخابات. إنه امتحان على أية حال، وستظهر أمام الجميع حقيقة الفضيحة التي تتبدى في المشهد المصري، حيث تنحاز قوىً ليبرالية لصالح الديمقراطية المبرمجة والخالية من المضمون الحقيقي، في حين تصر قوىً إسلامية متهمة بالدكتاتورية على ديمقراطية كاملة أو شبه كاملة تمنح الشعب المرجعية على قراره السياسي. قد يستغرق هذا الحال وقتا لا بأس به حتى تفرز المواقف، ومن ثم يجري إقناع الشارع بالاحتجاج من جديد، ولاسيما بعد أن يتأكد الجميع أن الوافدين الجدد إلى السلطة لم يغادروا مربع الفساد والاستبداد الذي ترعرعوا عليه طوال عقود، لكن النهاية ستكون هي ذاتها، من حيث استعادة الشارع وقواه الحية زمام المبادرة من جديد، وصولا إلى ثورة شعبية لا تقبل بأقل من بناء دولة جديدة مرجعها الناس وليس العسكر أو عناصر الدولة العميقة الأخرى، مع الأمل في تجاوز سائر القوى، ومن ضمنها الإسلامية للأخطاء التي ارتكبتها خلال المرحلة السابقة. بقي التذكير بأن ما ورد أعلاه سيكون مختلفا إذا نجحت القوى المؤيدة للشرعية في فرض وضع جديد عبر إصرارها على الاحتجاج من أجل إعادة الرئيس الشرعي (مرسي)، وهو أمر لا يزال واردا، ومعه إمكانية التوصل إلى صفقة تضمن معادلة مختلفة عما يخطط له قادة الانقلاب.