مضت فترة كافية على ثورات الربيع العربي التي اندلعت في تونس ومصر وليبيا بما يسمح لنا بوقفة تأملية ونقدية في ما يتعلق بحركات الصعود والهبوط في المسار الثوري لهذه الثورات. وقد أتيح لي بحكم موقعي في مصر أن أتابع في شكل دقيق صعود مسار ثورة 25 يناير وهبوطه. وقد اتخذ هذا التتبع شكلاً خاصاً تمثل في كتابة مقالة تحليلية أسبوعية بداية من 27 يناير 2011 حيث علقت في الثورة التونسية في مقال بعنوان «أسئلة الثورة» حتى اليوم. ولو شئت أن أسجل إحصائية لقلت إنني من يومها كتبت حتى الآن أكثر من ثمانين مقالاً، لأنني توقفت نهائياً عن كتابة المقالات الفكرية التي تعودت على كتابتها طوال السنين الماضية، إدراكاً مني لجسامة الأحداث التي وقعت في الوطن العربي بعد ثورات الربيع، وأهمية متابعتها تحليلياً في شكل منتظم، ومن باب النقد الاجتماعي المسؤول الذي لا يتردد في كشف السلبيات وإعطائها التكييف الصحيح وتقديم البدائل. وحين تأملت مسارات الثورة في تونس ومصر وليبيا وصلت إلى شبه نظرية يؤيدها كثير من الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسلوكية مبناها أنه حدث انقلاب مزدوج على ثورات الربيع. ونعني بالانقلاب المزدوج الانقلاب الذي قامت به التيارات الدينية سواء كانت إخوانية أو سلفية، والانقلاب الذي قامت به التيارات الليبرالية واليسارية والثورية! ولعل جذور هذه الانقلابات ترجع إلى الطريقة التقليدية التي سارت وما زالت تسير فيها «المراحل الانتقالية» والتي تعني المسار السياسي بعد الثورة. ولنركز الحديث عن المشهد المصري أساساً بحكم معرفتي الوثيقة به وتتبعي أحواله المتغيرة. أول الإنجازات المبهرة لثورة 25 يناير المصرية هو نجاحها في إسقاط النظام الاستبدادي للرئيس السابق «مبارك»، بعد أن رفعت التظاهرات الجماهيرية الحاشدة شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» والذي أصبح من بعد شعاراً ثورياً عربياً معتمداً! ليس ذلك فقط بل إن الجماهير الثائرة نجحت في أن تدفع الرئيس السابق دفعاً للتنحي وتسليم السلطة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. منذ هذه اللحظة التاريخية الفارقة التي استلم فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة بدأ تيار الصعود الثوري في الهبوط التدريجي. قد تبدو هذه المقولة صادمة للكثيرين ولكن تفسيرها أن طليعة الثوار الذين قاموا بالثورة انفضوا عن ميدان التحرير بعد نجاحها، ولم يستطيعوا تكوين جبهة ثورية لتقود المرحلة الانتقالية مكونة من قياداتهم، إضافة إلى قيادات التيارات السياسية التي ناصرت الثورة منذ اللحظة الأولى. وتفسير ذلك أن الثورة لم تكن لها قيادة، لأنها تمت أولاً كظاهرة احتجاجية ضد النظام السابق من طريق التشبيك الإلكتروني على شبكة الإنترنت، حيث تم الاتفاق على التظاهرة الاحتجاجية وتوقيتها، كما يسجل ذلك بدقة الناشط السياسي «وائل غنيم» في كتابه المهم عن «الثورة». وهو يقرر أنه لم يكن هناك يقين لدى من قاموا بالإعداد للتظاهرة بالأعداد المحتملة لمن سيحضرون إلى ميدان التحرير إضافة إلى أنهم كانوا يتعاملون بأسماء مستعارة على شبكة الإنترنت ضماناً للسرية وعدم كشفهم بواسطة أجهزة أمن النظام. ومن ناحية أخرى لأن طبيعة التفاعلات على شبكة الإنترنت لا تسمح بأن تكون هناك قيادات للتفاعلات، لأن القاعدة الذهبية هي أن الكل أنداد وليس هناك رئيس للشبكة. هكذا، تطورت الأمور بعد استفتاء شعبي موضوعه هل نضع الدستور أولاً أو نقوم بانتخابات برلمانية أولاً، وجاءت نتيجة الاستفتاء بنعم للانتخابات أولاً بعد ضغط سياسي واجتماعي وثقافي على الجماهير قامت به جماعة «الإخوان المسلمين». واستخدمت الشعارات الدينية في هذه الضغوط في شكل معيب، استغلالاً لتدني الوعي الاجتماعي للجماهير العريضة ومغازلتها بالشعارات الدينية على أساس أن من يقول نعم سيدخل الجنة إن شاء الله! وحين جاءت الانتخابات أطلقت الجماعة عليها «غزوة الصناديق». وكأن حض الجماهير للإقبال على التصويت لمرشحي جماعة «الإخوان المسلمين» نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله! ونجح هذا المسار التقليدي والذي يتمثل في تطبيق آليات الديموقراطية التمثيلية التقليدية بكل مثالبها في أن يحصل مرشحو «الإخوان المسلمين» والسلفيين على الأكثرية في مجلسي الشعب والشوري. وانتهى هذا المسار التقليدي وغير الثوري بترشيح جماعة «الإخوان المسلمين» مرشحاً إخوانياً لرئاسة الجمهورية، وانتهت المعركة الشرسة بين الفريق «أحمد شفيق» ممثل الدولة الوطنية والدكتور «محمد مرسي» ممثل الدولة الدينية بنجاحه بفارق ضئيل من الأصوات، نتيجة الانقلاب الذي قامت به التيارات الليبرالية واليسارية والثورية بغباء سياسي نادر، حين رفعت شعار «جنة محمد مرسي، ولا جحيم أحمد شفيق» باعتباره ممثلاً للنظام القديم! هكذا، نجح الانقلاب الذي قامت به جماعة «الإخوان المسلمين» على الثورة وسارت بدأب شديد في مخططها لأخونة الدولة وأسلمة المجتمع. وفي الوقت نفسه قامت التيارات الليبرالية واليسارية والثورية بانقلاب على الثورة لأنها أولاً تشرذمت تشرذماً شديداً بعد تشكيل عشرات الأحزاب الليبرالية واليسارية والثورية الوهمية والتي ليست لها أي علاقة عضوية بالجماهير من ناحية، ولأنها دعمت التظاهرات الفوضوية وحركات الاحتجاج الغوغائية التي تقوم بغير ضابط ولا رابط بزعم قداسة مبدأ التظاهرات السلمية والاعتصامات الجماهيرية! وقد أدى هذا المسلك إلى مصادمات دموية سواء مع القوات المسلحة أو مع قوات الأمن، ما أدى إلى تشويه صورة الثورة والثوار في أعين الجماهير بعد أن اختلطت الثورة بالفوضى، تماماً كما لم تعد هناك فروق واضحة بين الثوري والبلطجي الذي لا يتورع عن افتعال الصدام مع قوات الأمن بل وحرق المنشآت العامة، كما حدث في تظاهرات مجلس الوزراء التي أحرق فيها المجمع العلمي. الانقلاب الإخواني مستمر من طريق الهيمنة على اللجنة التأسيسية للدستور من ناحية، ومحاولات صوغ دستور مصبوغ بالصبغة الدينية المضادة لقيم الليبرالية من ناحية أخرى. ومخطط أخونة الدولة وأسلمة المجتمع سائر في طريقه من خلال النفاذ إلى مؤسسات الدولة ومجالسها القومية لتكون الغلبة للإخوانيين والسلفيين، في الوقت الذي تتراجع قوة التيارات الليبرالية واليسارية والثورية والتي تحاول جاهدة التوحد في جبهات ديموقراطية لمواجهة الفيضان الإخواني والسلفي. بعبارة أخرى موجزة يمكن القول من دون أدنى مبالغة، إن الانقلاب المزدوج الإخواني السلفي والليبرالي على ثورة 25 يناير أدى في الواقع إلى القضاء على روح الثورة الحقيقية التي كانت تطمح لتأسيس نظام ديموقراطي جديد يعبر حقيقة عن مصالح الجماهير العريضة، تحت شعارات الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. لنراقب تطورات الأحداث في المستقبل القريب لنرى هل ستنجح القوى الليبرالية في إنقاذ روح الثورة، أم ستتحول ثورات الربيع في تونس ومصر وليبيا إلى خريف طويل يسيطر عليه أنصار الدولة الدينية؟