في فضاء السیاسة، حیث لا یُترك شيء للمصادفة، تُصبح كل حركة، كل إیماءة، وكل تفصیل جسدي جزءًا من بنیة دلالیة معقدة. لیست السیاسة مجرد منظومة من الخطابات والقرارات، بل هي فضاء تُعاد فیھ صیاغة الھیمنة عبر أنظمة رمزیة، تشكّل الصورة البصریة أحد أبرز مكوناتھا. وهنا، تبرز ربطة العنق لیس كمجرد إكسسوار، بل كأداة تعبیریة مشبعة بالدلالات، تتجاوز وظیفتھا النفعیة إلى كونھا علامة على انتماء معین، أو تأكید لسلطة، أو إشارة إلى تحالف ضمني. حینما جلس ترامب إلى جوار ملك الأردن، كان المشھد محكومًا بلغة صامتة تتجلى في الألوان. فالرجل الذي اعتدنا رؤیتھ بربطة عنق حمراء، تماهت مع البعد القومي الأمریكي، قرّر في تلك اللحظة أن یستبدلھا بلون أزرق، یحمل أبعادًا تتقاطع مع رمزیة العلم الاسرائیلي. في هذه الحالة، لا یمكن اعتبار الاختیار محض صدفة، بل هو جزء من آلیة إنتاج الخطاب السیاسي عبر الصورة. فاللون هنا یتحول إلى خطاب موازٍ، یختزن معاني السلطة والانحیاز، ویضع ترامب في موقع الامتداد العضوي لھذا الكیان، لا كحلیف خارجي فحسب، بل كفاعل مدمج ضمن بنیتھ الأیدیولوجیة والسیاسیة. لكن هذه العملیة الرمزیة لا تقتصر على طرف واحد، بل تتخذ طابعًا جدلیًا، حیث یتحرك نتنیاهو على نفس الأرضیة، مستخدمًا نفس الأدوات، لكن في اتجاه معاكس. ربطة عنقھ الحمراء في حضرة ترامب لیست مجرد تغییر جمالي، بل هي إعادة إنتاج لمعنى الارتباط والتماهي مع القوة الأمریكیة. في هذه الحركة، یؤكد نتنیاهو انخراطھ ضمن النسق الإمبراطوري الأمریكي، لیس ككیان مستقل، بل كامتداد لھیمنتھ الجیوسیاسیة. وهكذا، نجد أنفسنا أمام مشھد تبادلي، حیث یتم إنتاج خطاب رمزي متشابك، تُعید فیھ الألوان ترسیم خرائط الولاء والسلطة. لكن، لماذا یجب علینا أن نقرأ هذه التفاصیل بعین الفلسفة؟ لأن السلطة، كما بیّن فوكو، لا تمارس فقط عبر القرارات والقوانین، بل تتجلى في أنماط الظھور، في الجسد، في الصورة، وفي التفاصیل التي تبدو هامشیة لكنھا تحمل مضامین سیاسیة كثیفة. ربطة العنق، في هذا السیاق، هي جزء من الممارسة الحیویة للسلطة، حیث یتم ترسیخ أشكال الھیمنة عبر استراتیجیات بصریة لا تقل تأثیرًا عن البیانات الرسمیة أو الاتفاقیات الموقعة. إن هذا التحلیل یجعلنا ندرك أن السیاسة لیست فقط مجالاً عقلانیًا لإنتاج القرارات، بل هي أیضًا مسرح للأداء الرمزي، حیث تُعاد صیاغة العلاقات السلطویة من خلال المظھر، الإیماءة، واللون. في هذا المسرح، یتحول الجسد السیاسي إلى نص مفتوح، قابل للقراءة والتأویل، حیث یمكن لربطة عنق أن تكون نصًا بصریًا یعید إنتاج السلطة، ویؤكد الانتماءات، أو یعید تشكیل موازین القوة داخل النسق الدبلوماسي. هكذا، یتجلى أن كل لون، كل حركة، كل مظھر خارجي، لیس مجرد تفصیل ثانوي، بل هو عنصر فاعل في إنتاج المعنى السیاسي. فالسلطة لا تعلن عن نفسھا فقط من خلال ما یُقال، بل أیضًا من خلال ما یُرى. وفي عالم تُدار فیھ التحالفات بالصورة بقدر ما تُدار بالكلمة، تصبح ربطة العنق خطابًا غیر منطوق، لكنھ لا یقل وضوحًا عن أي بیان سیاسي صریح.