حين التقيتُه ذات غروب، ترقرقتْ عيناه بدمع هطول لا يناسب صحته وسنه. بكى صاحبي لا لأنه «رأى الموت دونه» أو تذكر العشيرة البعيدة، وإنما من فرط الإهانة التي تعرض لها- كما قال - وهم يكرّمونه بمناسبة إحالته على المعاش، منحوه برّاد شاي، في حجم منمنمة، وصينية من معدن رخيص، وكلمات أغلبها أملاه الواجب ليس إلا. ثم انصرفوا كما لو أهالوا عليه تراب قبر. لقد أحس، جرّاء هذا حسب قوله، بغير قليل من الإذلال، مبررا ذلك بكونه ليس مغربيا، ولم تشفع له السنوات الطوال التي قضاها مدرّسا بهذه الأرض التي أحبها واحتضنت غربته القاسية. عبثا حاولتُ إقناعه بأن ما حصل له لا علاقة له بانتمائه إلى هذا القطر، سيما وأن فلسطين- موطنه الأصلي- سكنتْ وتسكن قلوب المغاربة على الدوام، وأن أغلب التكريمات، عندنا، هي أقرب إلى التأبين. لا فرق فيها بين فلسطيني وابن بلد. كلاهما في الإحساس بالضيم سواء. لكنها مع ذلك لا تخلو من دلالة إيجابية تؤكد على ثقافة الاعتراف بين الناس، سيما وأن «التكريم» يأتي عادة من مبادرات فردية وليس من مؤسسات، وهذا نصف الكأس الملآن الذي ينبغي أن نتذوق حلاوته. والعبرة ليست بقيمة الهدايا وإنما بقوة اللحظة الإنسانية. حكيتُ له عن أشخاص أهديتْ إليهم، في أواخر العمر، أجهزة تلفزية وطناجر ضغط وبورتريهات تذكرهم بشباب ولّى... على افتراض أنهم لم يتفرجوا كفاية ولم يأكلوا، ولم يعيشوا شبابهم كما ينبغي، وأنه آن لهم أن يلازموا برامج التلفزيون والمسلسلات وينتظروا صفير الطناجر قبل الرحيل... وضحكنا أخيرا ضحكا كالبكاء. أخبرته أيضا كيف أن آخرين يغبطونه لأنه نال هذا التكريم، على علاته، وربما حسدوه. فما أكثر الذين لم يلتفت إليهم أحد. فالإدارة تعامل موظفيها كما لو كانوا قطع غيار لا قيمة لها حين تصدأ. وبدل أن يقتنع الرجل بأقوالي ردّ عليّ في يأس»خلاص أنا انتهيت». فجأة التمعت في ذهني فكرة لا أدري كيف التمعت : لمَ لا تكتب مذكراتك؟ استبعدَ الفكرة بدعوى أنه لا خبرة له بالكتابة. فعرضتُ عليه المساعدة (ولو أنني لم أكن أعرف طبيعة تلك المساعدة). وهكذا صرنا نلتقي بين الحين والحين، فيقرأ علي ما استطاعت أن تحتفظ به الذاكرة من أيام الصبا والشباب. توقد ذهنه وعاوده حماس جديد فحكى عن تغريبة الفلسطيني في أرض الشتات بين الفلوجة الفلسطينية وقاهرة المعز. من تعفف اكتفى بفترة ما قبل المجيء إلى المغرب. وبعد عام صدر الكتاب بعنوان «ذكريات الفلوجة». أهداني نسخة منه واختفى. ترى أين الآن؟ آمل أن يكون بخير. اسمه «الشاعر» ولو أنه لا يكتب الشعر. أجيال كاملة من أبناء «الجديدة» تتذكره ولا شك. فتحية له ولكل الشعراء المكرمين والمفقودين على السواء.